قبض بقوة على عصا "مقشته" الخشبية وأخذ ينظف الشارع بهمة من الأتربة العالقة وبعضا من الأحجار الصغيرة المتناثرة إثر عمل ما ..
بدت علامات الإرهاق واضحة على وجهه الذى تصبب عرقا غزيرأ بفعل درجات الحرارة التي فاقت الإحتمال . لكنه لم يعبأ بتلك الحال وبدا عقله مشغولا فيما يراه أهم ..
التفت بكل تركيز إلى زميل له يحمل موبايل طالبا بإلحاح : صورني
ما أن انتهى الآخر من التقاط أكثر من صورة حتى ألح من جديد: صورني كمان ..
أثار المشهد الغريب دهشتى من الحد الذى وصل إليه ولعنا بالتقاط الصور، حتى صارت جزءا أصيلا يشاركنا كل لحظات حياتنا وبشكل يكاد يصبح مرضيا.
ترددت قليلا قبل أن أسأله عن سبب اهتمامه الكبير بالتقاط تلك الصور .لتفاجئنى كلماته: - بنبعتها للشركة علشان تتابع عملنا وتتأكد من شغلنا.
صورة الشقيانين ليست في الغالب للرفاهية ..وراءها دوما عرق وكد وتعب وسعى دؤوب على لقمة العيش.
وجوههم تنطق بقصص كفاح ترسم خطوطها واضحة تعيد لنا قدرا من التوازن المفقود، بعدما كدنا جميعا ندمن تسجيل كل لحظات حياتنا مصورة كأنها فيلم وثائقي مفتوح ..
نسافر فلا يحلو لنا السفر إلا بعدما نلتقط الصور ونرسلها للأصدقاء..
نتجمع في سهرة فلا يشغلنا سوى تسجيل لحظات الضحك في صورة "سيلفى" تجمعنا. نهتم بعشرات الصور بينما نغفل تواصلا وحوارا وكلمات أهم.
تشغلنا الصورة فننسى أن نعيش اللحظة .. أو بالأدق لا نهتم بأن نعيشها بالعمق الذى تستحقه، والذى يجعلها محفورة في أرواحنا .. نغفل أن ذاكرة الروح هي التوثيق الأهم والأكثر تاثيرا ..
قليل من يدرك ذلك، من ينجو من إدمان الصورة .. من ينجح في القبض على اللحظة فيعيشها بكل كيانه.
وقليل من يقبض على العصا من منتصفها فيعطى للحظة قدرها ولا يسرف في هوى الصورة ..
لكن كثيرا منا من لا يفعل ذلك .. يظل أسيرا لمئات الصور يسجل بها كل لحظات حياته .. وحقيقة لا أعرف ما مصير تلك الصور في النهاية .. هل يحتفظ بها أم لا يهتم بذلك ..هل يعود إليها ثانية أم لاتخطر له على بال. هل تمثل له ذكرى وتترك في نفسه أثرا أم أنها مجرد مشاهد عابرة يطوى صفحتها بغير اكتراث.
زمان كنا نطبع الصور ونحتفظ بها، كانت الصور عزيزة، فلم يكن الأمر سهلا بسهولة هذه الأيام بعدما أصبح في يد كل منا كاميرته الخاصة .. ومع ذلك فقدت الصورة قيمتها لم يعد لها تأثيرها الساحر في الروح كما كانت تفعل بنا أيام زمان.
لن يعود الزمان .. وسيظل لكل جيل طبيعة وحياة .. لن نوقف عجلة الزمان .. ستمر بنا سريعة، وهو ما يدفعنى لمزيد من الإشفاق على أجيال لا تشعر بأن العمر لحظة من الأفضل أن نعيشها بكل كياننا لا نفرط فيها ولا يشغلنا عنها ماهو أقل أهمية وقيمة.
-------------------------------
بقلم: هالة فؤاد