14 - 05 - 2025

زغاريد تطلق وهج الحياة في مواجهة الموت

زغاريد تطلق وهج الحياة في مواجهة الموت

- قراءة في المجموعة القصصية زغرودة تليق بجنازة (مئة حكاية) للقاص الموهوب أحمد إبراهيم الشريف

أدركت من زمن بعيد أن الفلاح المصري يتعامل مع الموت بمحبة وخفة، يصاحبه ويحكي عنه بحنين ويعاتبه بعنف المحب الذي يعرف أنه سيتصالح معه بعد قليل ثم يسخر منه ليدرأ الألم، يستقبله متوقعا ويستعيد الحكايات عنه في أوقات السهر والخوف، ويحيط نفسه بطقوس كثيرة كي يتحاشاه لكنه أبدا لا ينفيه. 

لم أعرف أبدًا الراحة التي يمتلكها الإنسان البسيط بالفطرة تجاه الموت، كما لم يعرفها أصدقائي المثقفون الذين يتعبون أرواحهم بأسئلة الوجود الشائكة وبسؤال الموت نفسه، المحكومون بأزمة عدم اختيارهم الميلاد لكي يداهمهم الموت، فيتعاملون معه بحزن دفين يجرجرونه وراءهم طوال العمر، في حين يزرع الفلاح النبتة ويخلعها بعد أن تنضج ويفرح بإزالة آثارها لكي يعد الأرض لنبتة جديدة.

 تذكرت هذا وأنا أقرأ المجموعة القصصية "زغرودة تليق بجنازة" (مئة حكاية)، للقاص الموهوب جدا أحمد إبراهيم الشريف التي احتل فيها الموت بطولة مباغتة وأحيانا متعايشة مع صاحبه، يروح ويأتي ليستأذنه في العودة به والكل يراقب راضيًا.

 يتعايش الأطفال في هذه المجموعة مع عفريت الموت وملاكه كوجود حتمي في الحياة صباحًا ومساءً، لا يقفون طويلاً أمام قصص الاختفاء التي تنتهي بجنازة أو بزغرودة مصاحبة لمرور نعش الميت أمام بيت إحداهن ليحقق المثل المصري الشهير "النعش الوراني يشمت في النعش الأدماني"، فالكل ميت لكن القصة تباغتنا بأن الزغرودة خرجت لأن المرأة تمنت أن يُرحم المريض من الألم وألا تظهر عليه شمس أخرى وهو في هذه الحالة.

لا تدفعنا القصص إلى الحزن بقدر ما تدفعنا إلى التأمل وأيضا لنكون جزءًا من المشهد السريع جدا، المقتضب المختصر اللغة الواخزة للقلب المتلاعبة بالروح، لنصبح أحد أبطاله ونشارك الراوي ذكرى هذه اللحظة القابضة على الرحيل بأشكاله المختلفة. تجعلنا ندرك أن كل لحظة في حياتنا ثمينة وأن اللحظات العابرة التي لم نتوقف أمامها كثيرا هي قصة أيضا استطاع المؤلف بمهارة التقاطها والتعبير عنها ودفعنا لإدراك امكانات تحليلها لتلخص فلسفة الإنسان في الحياة، والأهم أنه أعاد للقصة القصيرة بهجتها وبهاءها، وحدتها الجارحة التي تشق الحدث لتظهر جوهره النابض بالحياة المغلف بتراب اللامبالاة، هكذا قدم لنا شخصياته الموجودة أمامنا بإفراط والتي نعبرها بجبروت وتكبر.

سمعنا صوت الأم وهي تبلل المفتاح بلعابها ثم تضعه في قلب القفل لتعرف مكان الصورة التي التقطها ابنها الشاب منذ عشرين عاما، لمست ملامحه بيدها، ثم أعادت الصورة، واستعدت لزيارة قبره، ورأينا عجوزًا تلقن ابنها الشهادة وهو يردد خلفها بصوته الواهن وعينين زائغتين تحاول أن تحيطه بكفيها المهتزتين من البكاء. وسمعنا صوت الآخذ بالثأر الذي لم يبق له أحدًا لكي يخبره أنه فاز بثأره لكنه يفر إلى الضحية ليؤنسه.

العلاقة مع ملاك الموت علاقة واضحة فيها صراع وقدرة على التعامل معه وإدراك مكامن النفوذ تجعلهم يتركون له صيدا واحدا ثم يطاردونه بعدها بالحجارة والعصي الغليظة.

 ليس الموت وحدة من يأخذ الناس بعيدا حسب الكاتب: السفر والابتعاد عن الأهل في منزلة موازية له؛ "قالت الزوجة لزوجها المسافر سأنام سنتين في انتظارك فألقى نظرة طويلة ناحية جواز سفره والحقيبة وتمنى لو اختفيا للأبد"، وأيضا اختفاء أسرة من ثمانية أفراد ركبوا القطار دون إعلام أحد.

تقدم المجموعة خريطة للعادات والتقاليد الاجتماعية حول الموت في مجتمع القرية منها الاهتمام بمشاعر الآخرين أثناء إقامة الأفراح، يقول الأب: يوم موت أم محمد سعد سأقيم فرحًا.

 صراع الإخوة على الميراث والسخرية منه: في الليلة الثالثة والسبعين على رحيل الأب تمددت البندقية ونزلت عليها الفأس الحادة مرة وثانية وثالثة بينهم بحثا عن قسمة العدل. 

عادات إجبار العروس على الزواج دون موافقتها أو انتهاكها بقسوة تؤدي إلى الموت أو إلى جرح لا يندمل: صوت بكائها يرتفع وهي تحاول أن تكتمه بعد انتهاء علبة السجائر الأولى اقتحمت الباب متخبطة في دمها ولم تستبدل فستانها بعد. ماذا يمثل الباب هنا؟

وفي قصته "جثة تطلب الدفن" قدم شكلا جديدا لهذه العادة التي تم الكتابة عنها في العديد من القصص القصيرة وبعض مشاهد من روايات تدور في الريف عن الغريق طالب الدفن، لكنه هذه المرة قدمه مؤكدا على رغبته ليس بالنداء عليه فحسب وإنما في حركة الدكة الخشبية التي يستقر عليها الجسد بعد الخروج من الماء. (كتبت في روايتي "منتهى" نفس النداء "يا طالب الدفنة" لتحكم إيقاعا مشهديا والأطفال يتلاعبون بالجثمان بين البرين، لهذا سألت المؤلف عن اسم قريته لأن العادات تماثلت بين الدلتا والصعيد)

الموت أيضا يوصد باب الأمل، كما في قصته "فرحة حزينة" التي انتهت بموت الأم وهي تستعد لاستقبال ابنيها الذين طال غيابهما، وأيضا بقص شعر حمدية الجميلة التي رحل زوجها فأمسكت في يدها مقصا قديما تزيل به ما طال بعض الشيء من شعرها القصير ثم تجمع شعرها المقصوص وتضعه في جلباب زوجها الراحل محمود. وبهية التي أنجبت سبعة ولم ير أحد ما بين ساقيها وحين تعسرت في الولادة فضلت الموت على الفضيحة كما تتراءى لها بالمساعدة الطبية.

تعج القصص بالمعتقدات التي يتحايل بها الناس على الموت وعلى الفجيعة وعلى الظلم: ظلت روح سليم الغضبان معلقة في انتظار أن يعود ابنه، وسؤال أبو محمد للزوجة: أخذ وديعته هل نعترض؟ لم يكن السؤال إلى الله كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى لكنه سؤال في المطلق يشرح كل الظلم الذي يمر على العامل بدون تأمين وبدون حماية وبدون مراعاة لقيمة الحياة، وبين تغير رأي الفلاحين حسب المصلحة كما في قصة "سلمى يا سلامة" عاد الجمع الذاهب إلى الفرح بعروس أخرى بديلا للعروس التي رفضت الزواج من العريس. واستماتهم في الدفاع عن أفكارهم مثل مقولة نحن فقراء ولنا الجنة في قصة "الذاهبون إلى الجنة" والجدل الطويل الذي يؤدي إلى طرد الراكب من قبل الجماعة في الميكروباص لأنه اعترض وقال لا جنة للفقراء من يحمل طينا في الدنيا يحمله في الآخرة، مس الكاتب بنعومة مواقف العامة من المثقفين أصحاب الوعي الأعلى.

مجموعة "زغرودة في جنازة" هي لوحة ساخرة للحياة والموت؛ لا يأتي الموت إلا إذا كانت الحياة مفعمة بالمشاعر والأحداث. توقفت أمام قصة "منتصر" التي يطارد فيها الأطفال الكلاب الضالة الغريبة التي تهاجم البيوت حتى شرح منتصر خطته في قتلها فانزعج الأطفال واستجابوا لفطرتهم السليمة في الرحمة وراحوا يركضون ويصيحون على الكلاب أمامهم أهربوا من منتصر. 

في غواية الماء تستحم سماح بعد سفر زوجها في النهر وترفع ثيابها بعض الشيء حتى لا تبتل: مشهد بصري كلاسيكي للحرمان واشتهاء رجفة الماء ورغبة تتسرب ببطء للمراقب ليشاركها لحظتها. ألا تمثل رعشة النشوة بداية الحياة؟ البديل الذي قدمته الآلهة لآدم في الأساطير تعويضَا عن خسارته للأبدية بعد طرده من الجنة؟ 

وتتوالى ضربات الفرشاة في اللوحة: سخرية مريرة عن شيخ جامع طردته زوجته للمرة العشرين من جنة البيت، وولد يطالبه المعلم بمغادرة الفصل دون أن يفصح عن السبب لكن الطفل يدرك أنه موت الأب وهو يتساءل عن ارتداء الشال الأسود. أم تصر على فتح شباك بحري يطل على المقابر وهي لا تعلم أن هذا الشباك سيكون نافذتها على مقبرة ابنها. في قصة جرو لا ذكر للموت، ولكن شغف بحيوان صغير يحمله العائد من السفر ويحنو عليه، القبور كلها طينية سوداء وقبر عزيزة الوحيد المختلف المطلي بألوان زاهية لأنها عاشت كما أرادت، يتهمها الناس فلا تهتم ويوم موتها لم يخرج خلفها سوى المضطر دفنوها سريعا وعادوا. هل خافوا من الحياة المفعمة بالرغبة أم من أن يكشفهم الموت فيعاقبهم على الحياة؟ وتردد الراوي في الانحياز للرأي الذي يساوي بين ما يحدث للمرء في حياته وبعد مماته في أكثر من أقصوصة.

مرادفات كثيرة للموت منها العقم الامتداد الناقص، يعيش الزوج على أمل ميلاد الولد الذي يتصوره جنينًا لسنوات في بطن زوجته ويحمسه على الظهور قائلاً: أكلني الزمن، أخرج أريد أن أتوكأ عليك، نهب الناس عمري وتركوني على طريق الموت، فتربت امرأته بيدها المرتعشة على يده النافرة العروق وهي بين الصحو والنوم وتخبره بأنها شعرت بالطفل يتحرك في أحشائها. 

الغربة مرادف آخر: لا أحد يسأل الغريب من أنت؟ يتذكر الراوي منذ أربعين سنة حين خرجت القرية جميعها تودعه وتسأله العودة كان يقبض في يده القوية على حقيبة خفيفة ويكتم هجرته.

أما عفاريت الموتى فمتناثرة منها: عفريت سلاموني الذي أوقف شعر القطط وهي تفر مذعورة والعفريتان حيث تدور الساقية بالبقرة المغماة في حين يتحرك شبحان صغيران لطفلين ويكتشف الراوي بعفوية وعيه أنهما عفريتان بسبب شربهما للعصير كله. وشعور الهام بدخول شبح حين تفتح الشباك فتخشى مما سيفعله وينتهي الأمر برحيل ابنها.

وظف الكاتب المسكوت عنه والأساطير المصرية حول الموت باستخدام الرمز في لوحات بارعة مصفاة من الزيادات تتركنا غير مشبعين لكنه علمنا درسًا يستحق التأمل في كتابة القصة القصيرة بلغتها المقتصدة وقلبها الجارح.
---------------------
بقلم: هالة البدري
من المشهد الأسبوعية