تغنى الخطوط والألوان على جسد اللوحة .. تحكى مشاهد يحسها الفنان بروحه ومشاعره .. للحكي أساليب مختلفة .. اختار تلقائيتها فكانت الفطرية عنوانا أساسيا فى التشكيل .. حين يستدعى الفنان فطريته الأولى ويحاورنا بها من خلال ثقافات مختلفة جمعها عبر تاريخه الفنى ليقدم لنا صورا جديدة فى التناول ، ويأخذنا الى فطريتنا الاولى لنستمتع بما يقدمه لنا .. فنجدنا نعيش ما عاشه ، ونحلم بما يحلم به.
فى السنوات الأخيرة كان الفنان الكبير فرغلي عبدالحفيظ يعانى من المرض الذى أثر على حالته الصحية بشكل واضح. حتى رحيله عن عمر يناهز 82 عاما، يوم عرفة الثلاثاء، 27 يونيو 2023.
يقول الفنان فى كتابه (التنقيب عن الطاقة الروحية 1997) عن المؤثرات التى انعكست عليه فكرياً و فنياً : (يحركنى ويثير انفعالى مجموعة من الأشياء تتبادل مواقعها من حيث الاهمية هذه الاشياء هى الطبيعية، ليست الطبيعية عندى هى المنظر الطبيعى وانما الطبيعية هى منظور الحياة بكامل كيانها، خاصة ما يعطينى منها إثارة جانبية ، بمعنى أنى لا أنفعل بالأشياء التي تدعو إلى التعاسة أو العذاب أو الكآبة أو التخاذل أو التراجع ولكن أنفعل بأشكال الحياة التى تدفع فى نفسى بمعانى المحبة ، البطولة، التخطى، التجاوز، التواصل، الإقدام، التآلف، العزيمة، التازر، القوة ، الشحن، الامتداد، الانطلاق، البشر، التفاؤل هذه هى الحياة التى اعشقها)
هكذا كان أسلوب فرغلى المتدفق بالحياة والحيوية العفوية والتلقائية الخطية واللونية التى تتبع منهجا خاصا به. يبحث فى المرئى عن اللامرئى ويقدمه ببساطة معقدة فى التراكيب والبناء. يقدم انطباعاته الخاصة عن الأماكن التى زارها سواء بمصر أو الخارج من خلال رموز شديدة المصرية متأثرة بثقافته التى عاشها بصعيد مصر، وزيارته الخاصة الى النوبة القديمة قبل غرقها، فتجد الرموز والإشارات التى احتفظ بها لتكون رموز لوحاته وإشاراته التى يستخدمها فى تشكيلاته.
كان يعيد صياغة المشاهد التى يراها ببساطة المحبين العاشقين الذين تنهمر منهم التعبيرات بتلقائية سواء فى البناء أو باستخدامه للخامات المتعددة التى تقع يده عليها كالأحبار والطباشير، بالإضافة الى تأثير الفرشاة التى جعلت أسلوبه فريدا وخاصا به وحده.
فعلى على عكس الآخرين الذين رسموا مواضيع ريفية أو موضوعات لمشاهد بالمدن التى زارها، لم يكن أسلوبه توثيقا لما يراه فقط ، بل كان مداعبة للمناظر وتحليلها بعين الفنان المحمل برؤى خاصة تدفعه للتبسيط بانفعال متدفق يشير إلى عمق المعانى المخفية وراء المظاهر الواقعية، فالرسم ليس نقلا للمشاهد ولكنه إحساس ومهارة، وجرأة انطباعية تنعكس بصدق على لوحاته.
هذه المشاهد والصور تؤكد إنشغال الفنان بالأحلام والغموض والرموز المثيرة التى كان يعيشها وهو طفل فى أسيوط جنوب مصر لتتأكد البساطة والتلقائية حين ذهب للحصول على دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة من فلورنسا بإيطاليا 1968. هذه البساطة التى امتزجت بوعى الفنان وثقافته المكتسبة وبإحساسه بملامح بيئته الأصلية وهويته وحبه الجارف لمصريته والاستلهام من طبيعة شمسها المشرقة ونيلها العظيم وحضارتها التى علمت العالم. لقد ربط بين جمال الطبيعة المصرية والجمال الذى حرك وجدانه من لوحات الفنانين الذين سبقوه محليا وعالميا، وإنحاز لخصائصه الفطرية التى تدفعه للتلخيص الشكلى والتعبير الرمزى والمعالجات التشكيلية بخامات البيئة برؤية عميقة.
لقد تابعت الفنان فى معظم معارضه ، منذ أن كان يدرس لى أسس التصميم بكلية التربية الفنية، وكان يشعرنى دونا عن بقية الأساتذة بحالة الفنان وتحليقه الدائم فى عالمه الساحر. طريقة تعامله ، انشغاله بعيدا عن الصراعات، طريقة تدريسه المرتبطة بالخيال والانفعالات الفنية. كانت ألوان ملابسه مختلفة وغير مألوفة. يبحث عن الألوان الزاهية والمتضادة التى تلفت الإنتباه وتطرح التساؤلات. لتقف أمام فنان واع بمعنى اللون وانعكاساته على المشاهد، ومغازلته لحدقات العيون. انعكست إختياراته اللونية فى حياته واختياراته على لوحاته ليصبح بتصرفاته الحياتية واختياراته الخطية واللونية كيان واحد متشابه فى كل شىء. فلا تستطيع أن تفصل ألوان ملابسه عن ألوان لوحاته، ولا تصرفاته الشخصية عن أفكاره الفنية. هذا هو الصدق والسلام النفسى الذى كان يعيشه الفنان.
تناول العديد من الموضوعات والقضايا وترجمها بأسلوبه الخاص لأعمال فنية، فتناول النيل برؤية غير تقليدية منحازا إلى سكان الضفاف المحرومين من جمال النيل فيحتفى بهم وهم يمارسون حياتهم ولا يفصلهم عن النيل بل يصوره جزءا منهم والعكس فى تبادل للأدوار فى خطوط وخلفها مساحات لونية تربطهم بحس خيالى يجعلك لا تفرق بين مياه النيل وسحابات السماء.. بين الأرض والفضاء، فى محاولة منه لربط الحلم بالواقع. يساعده فى ذلك أيضا استخدامه للألوان المتضادة والمتداخلة مع مساحة الأبيض التى تسيطر على معظم لوحاته، فتجد فى اللوحة الواحدة الأصفر والبنى والأزرق والرمادى ودرجات الأحمر، وكذلك استخدامه لألوان الزيت والأكلريليك والأحبار والباستيل. هذه التوليفة التى تشعرك بتلقائيتها تحرر الموضوع من تقليديته لتتسع الرؤية الفنية والتشكيلية إلى براحات تغير الحالة التقليدية التى تعودت عينيك على رؤيتها.
هذا الأسلوب الذى تطور معه فى زياراته وتنقلاته عبر المدن والثقافات المختلفة من أسوان للقاهرة لإيطاليا ولندن واسطنبول وروما، وغيرها، لتصبح لأعماله سمات خاصة، وبرؤية كسرت التقاليد للفهم التقليدى للانطباعية، ولبساطة المشاهد الفطرية، وللحالة التعبيرية التقليدية ليقدم لك أسلوبه الفريد المستفز لمشاعرك لتتفتح نوافذ متعددة للرؤية.
قدم لنا الفنان فرغلى عبدالحفيظ مشاهد عديدة من حياة الشعب الرومانى بمعرضه قبل الأخير بقاعتى الفن بالزمالك، تعايش مع الناس وصور الحياة في شوارعها وميادينها ، شعب يشبهنا فى كثير من عاداته وتصرفاته . هكذا رآه الفنان وتعايش معه بأسلوبه المرتبط بالبساطة المعقدة ، بساطة التشكيل التى ضربت بكل القوانين التقليدية عرض الحائط لتأخذنا إلى قوانين خاصة بفلسفة وأفكار الفنان الذى تجاوز فى البناء والمنظور ليقدم حالة فريدة به وحده تجذبك بتشكيلاتها الخطية واللونية، وإن توقفت عيناك على البناء المائل والعلاقة المتجاوزة للنسب والإيقاعات اللونية الغريبة. ولا تجد إلا إكمال المتابعة والتعامل مع الكل دون الجزء، ويظل الخط عنصرا أساسيا فى جميع اللوحات، فالألوان تذوب بحرية على مساحة الأبيض ، ويأتى الخط ليقيم عليها حواراته التى تحكم بعضها فى إطار شكلى محدد فينشأ حوار بين الخظوط والألوان ، وبين الألوان التى حاصرتها الخطوط، والألوان التى إنطلقت خارج التشكيلات. هنا تبدو القيمة التى يطرحها الفنان فى سيمفونياته الخاصة.
وقد التزم الفنان بدرجة كبيرة بالبناء السيمفونى الموسيقى والذى يبدأ بالحركة السريعة فى التوزيع اللونى. ثم بالحركة الأقل فى التشكيل بالخطوط ، ثم بعد ذلك التأكيد على التناغم الذى يتبعه حركة سريعة فى وضع اللمسات الأخيرة التى تؤكد التوافق العام بالمساحة الكلية وفيها يقوم الفنان بتلوين بعض المساحات والأشكال وإضافة بعض الخطوط لتأكيد الشكل . ليقدم لنا حالة متكاملة لا تستطيع حين تشاهدها ان تقف عند قانون منعزل عن الحالة، وتجدك أمام حالة كلية ممتعة ، وهنا نستطيع أن نقول إنها فعلا بساطة معقدة.
واستطاع الفنان التأكيد على الحركة فى كل لوحاته بهذا الأسلوب الخاص الذى يجعلك تعيش حالة الفنان أثناء تنفيذ لوحاته، فتجدك تجرى خلف أدائه وترتيباته التشكيلية التى تؤكد حركة اللون أولا تتبعها حركة الخطوط ، ثم الحركة الكلية داخل المساحة التى تنبض بالحياة.
ولد فرغلى عبدالحفيظ بأسيوط عام 1941 ، وحصل على بكالوريوس كلية التربية الفنية 1962 ، ودبلوم أكاديمية الفنون الجميلة من فلورنسا بإيطاليا 1968. وهو عضو نقابة الفنانين التشكيليين، وعضو جماعة الفنانين والكتاب (أتيليه القاهرة ) ، وعضو جمعية فناني الغورى. عين معيدا بكليته عام 1962، وتدرج فى وظيفته حتى شغل منصب العميد بداية من عام 1989 وحتى 1994.
أقام الفنان العديد من المعارض المحلية والعالمية ، وحصد العديد من الجوائز ، منها الجائزة الأولى تصوير معرض الطلائع القاهرة 1963 ، الجائزة الأولى حفر صالون القاهرة 1968 ، الجائزة الأولى حفر صالون القاهرة، جائزة الدولة التشجيعية تصوير 1976، وسام العلوم والفنون من الطبقةالأولى 1977 ، الجائزة الأولى حفر صالون القاهرة 1986 ، الجائزة الأولى حفربينالي الإسكندرية لدول البحر الأبيض المتوسط الدورة الثامنة 1970، الجائزة الثانية تصوير بينالي الإسكندرية لدول البحر الأبيض المتوسط (على الجناح المصرى) الدورة الثانية عشرة 1978، الجائزة الأولى (تصوير) بينالي القاهرة الدولي الثالث 1988، وجائزة لجنة التحكيم بينالي القاهرة الدولي الخامس 1995. وله مقتنيات بمتحف الفن الحديث ، وزارة الثقافة.
------------------------------------
بقلم: د. سامى البلشي