ألحان «أهل الهوى يا ليل» و«أنا فى انتظارك» تسربت عن طريقه قبل إذاعتها فأعاده زكريا أحمد لحياة التشرد
فى مثل هذه الأيام من عام 1995، رحل الشيخ إمام عيسى عن عالمنا بعد أن لعب أكبر الأثر فى تشكيل وجدان الآلاف من شباب الحركة الوطنية المصرية، الذين دخلوا الجامعة فى سبعينيات القرن الماضى.
ولد الشيخ إمام فى قرية أبوالنمرس بمحافظة الجيزة سنة 1918، وأصيب بالرمد وكف بصره نتيجة لعلاجه بالوصفات البلدية التى ذهبت ببصر طه حسين قبله بربع قرن. وراح الشيخ إمام يتردد على الكتاب ويحفظ القرآن الكريم، وفى الثانية عشرة من عمره التحق بالجمعية الشرعية التى أسسها الشيخ محمود خطاب السبكى بحى الحسين، حيث كان يجد فيها المأوى ويشترك فى قراءة القرآن والمدائح النبوية وينال من الرزق ما يقيم أوده، حتى ضبط وهو يستمع إلى الإذاعة المصرية فى أول عهدها، فطرد من الجمعية، ومنعه أبوه من العودة إلى القرية، فعاش حياة التشرد ينام الليل فى كنف سيدنا الحسين، ونهارا يقرأ القرآن والموشحات فى المآتم والمناسبات الخاصة، فإن لم يجد فإنه ينال طعامه من خلال بعض ذوى الإحسان أو الذين ينذرون نذورا لمجاورى الحسين.
وفى منتصف الثلاثينيات أعجب به الشيخ درويش الحريرى فقدمه إلى الشيخ زكريا أحمد ومحمود صبح، ومن خلال هؤلاء يعرف الطريق إلى تعلم فنون الغناء ومقاماته وفنون العزف على العود. ونظرا لذاكرته الحديدية فقد استعان به الشيخ زكريا أحمد فى حفظ الألحان التى تطلبها منه أم كلثوم، حتى عُرف أن بعض تلك الألحان مثل «أهل الهوى يا ليل» و«أنا فى انتظارك» تتسرب عن طريقه قبل إذاعتها فطرده، وعاد الشيخ إمام إلى حياة التشرد مرة ثانية، غير أنه كان قد ألم بفنون الغناء والطرب وكوّن من العلاقات ما مكّنه من أن يحصل من الرزق ما يقيم أوده ويسمح له باستئجار غرفة متواضعة فى حارة «خوش قدم ــ سلطان مملوكى من القرن 15 ــ أو حوش آدم» بحى الغورية. وسارت الحياة بالشيخ إمام عيسى يقرأ القرآن فى المآتم ويغنى فى المناسبات الدينية واحتفالات الصوفية أو الخاصة، الموشحات وأغنيات سيد درويش وزكريا أحمد وغيرها طوال عقدى الخمسينيات والستينيات.
وفى سنة 1962 وعن طريق «سعد الموجى» وهو أحد المثقفين اليساريين الكبار، تعرف الشيخ إمام إلى الشاعر الكبير، أحمد فؤاد نجم، الذى كان خارجا لتوه من السجن بعد أن كتب فى الزجل «صور من السجن والحياة»، وهنا غنى الشيخ إمام أول أغنية من ألحانه وكلمات أحمد فؤاد نجم، «أنا أتوب عن حبك أنا" كما غنى بعض الاغنيات لفؤاد قاعود.
ورغم أن الشيخ إمام كان على مشارف الخمسين من عمره، فإنه اقترب من الفكر اليسارى عن طريق العديد من مثقفى اليسار الذين خرجوا من معتقلات عبدالناصر فى منتصف الستينيات. ورغم ذلك وفى منتصف الستينيات عرف الشيخ إمام طريقه إلى الإذاعة، حيث قدمه الكاتب الراحل رجاء النقاش فى برنامج «نصف ساعة مع ألحان الشيخ إمام» راح الرجل يقدم فيه بعض ألحانه الاجتماعية والساخرة.
حتى وقعت الواقعة وحدثت هزيمة يونيو الفادحة والمريرة والتى ذهبت بمصداقية الأغانى الوطنية التى صنعها نظام عبد الناصر، وأشعرتنا بالقهر والكسرة، فوجئ الناس بالشيخ إمام يغنى «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار/ يا أرض مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار»، وكانت هذه الأغنيات تتجاوب بشدة مع المظاهرات الطلابية العارمة التى اجتاحت البلاد رفضا لأحكام الطيران الهزيلة، ثم راح يغنى «ناح النواح والنواحة على بقرة حاحا النطاحة/ والبقرة حلوب، تحلب قنطار/ لكن مسلوب من أهل الدار».. وكتعبير عن اقترابه من فكر اليسار، غنى فى مواجهة صيغة تحالف قوى الشعب العامل الناصرية «يعيش أهل بلدى وبينهم ما فيش/تعارف يخلى التحالف يعيش/ تعيش كل طايفة من التانية خايفة / وتنزل ستاير بداير وشيش/لكن فى الموالد يا شعب يا خالد / بنتلم صحبة ونهتف يعيش/يعيش أهل بلدى». وهكذا عرف الشيخ إمام واحمد فؤاد نجم طريقهما إلى السجون والمعتقلات، ولم يخرجا منها إلا بعد موت عبدالناصر مع الانفراجة الديمقراطية التى حاول السادات أن يؤكد بها اختلافه عن سلفه الكبير.
واستمرت أغانى الشيخ إمام تتجاوب مع الأمانى الوطنية لتحرير الأرض. فهو يغنى لعبدالودود المجند الصعيدى الرابض ع الحدود «عجولك وأنت خابر كل الجضية عاد/ ولسة دم خيك ما شرباش التراب/ حسك عينك تزحزح يدك عن الزناد..وان كنت واد أبوك/تجبلى تار أخوك/والأهل يبلغوك جميعا السلام».
كما غنى فى نفس الوقت لأيقونة الثورة فى العالم «جيفارا، جيفارا مات... يمكن صرخ من الألم من لسعة النار ف الحشا/ يمكن ضحك أو ابتسم أو انتعش أو انتشى/ يمكن لفظ آخر نفس كلمة وداع لجل الجياع/ يمكن وصية للى حاضنين القضية بالصراع/ صرخة جيفارا يا عبيد...يا تجهزوا جيش الخلاص يا تقولوا ع العالم خلاص»
وفى مطلع السبعينيات عرف الشيخ إمام طريقه إلى تجمعات الطلاب بالجامعة فراح يغنى لهم «رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تانى/ يامصر انتى اللى باقية وانتى قطف الامانى» ويغنى «صباح الخير على الورد اللى فتح فى جناين مصر/ صباح العندليب يشدى بالحان السبوع يامصر/ صباح الداية واللفة ورش الملح فى الزفة/ صباح يطلع باعلامنا من الجامعة لباب النصر» وهى كلها أغانى تمتلئ بالأمل والتفاؤل والحلم بمستقبل واعد. وجاءت أجمل تلك الأغانى الثرية بالتفاؤل والأمل «بهية» وتقول «مصر يا أمه يا بهية / يام طرحة وجلابية/ الزمن شاب وانتى شابة / هو رايح وأنت جاية/جاية فوق الصعب ماشية / فات عليكى ليل ومية/ واحتمالك هو هو / وابتسامتك هى هى / تضحكى للصبح يصبح بعد ليلة ومغربية/ تطلع الشمس تلاقيكى معجبانية وصبية يا بهية».
وقد ساهم فى ذيوع اسم وأغانى الشيخ إمام رغم معارضته للنظام ومنعه من الإعلام الرسمى، ظهور جهاز التسجيل (الكاسيت) رخيص الثمن، سهل الاستعمال والنقل من مكان لآخر.
وعاد الشيخ إمام إلى ارتياد المعتقلات لمدد قصيرة أو طويلة حسب الظروف، فراحت أغانيه تمتلئ بالتحريض والغضب، «شيد قصورك ع المزارع/ من كدنا وعرق أيدينا/ الخمارات جنب المصانع والسجن مطرح الجنينة/ وأطلق كلابك فى الشوارع واقفل زنازينك علينا» وعندما منع من السفر غنى: «ممنوع من السفر/ ممنوع من الكلام/ ممنوع من الغنا/ ممنوع من الكلام/ ممنوع من الاشتياق/ ممنوع من الاستياء/ وكل يوم ف حبك تزيد الممنوعات/ وكل يوم باحبك اكتر من اللى فات». « يامصر قومى وشدى الحيل كل اللى تتمنيه عندى..يامصر لسة عددنا كتير/ لاتجزعى من بأس الغير».
وترددت أسماء العديد من زعماء الطلاب فى أغنيات الشيخ إمام. فقد غنى لأحمد عبدالله وأحمد بهاء شعبان وشوقى الكردى وجلال جميعى وسمير غطاس وأسامة برهان والراحلة سهام صبرى، وغنى لزكى مراد المحامى النوبى الذى كان سكرتيرا للحزب الشيوعى المصرى «يابلح ابريم ياسمارة سواك الهوى فى العالى هويت/ على طمى النيل ياسمارة/ وشربت عكار لما استكفيت/ بس احلويت قوى ياسمارة/ لفيت الشارع والحارة على زى نقاوتك فين مالقيت»...
كما انفعل بالأحداث الجارية فغنى للبنان إبان محنة الحرب الأهلية وغنى لفلسطين وأشاد بقتلة وصفى التل مدبر أحداث أيلول الأسود، كما تغنى بهو تشى منه وبسقوط سايجون وغنى لسلفادور الليندى الذى قتلته المخابرات الأمريكية بعد أن دبرت له انقلابا فى شيلى.
وتهكم على توجه السادات نحو الغرب فغنى «شرفت يانيكسون بابا يا بتاع الوتر جيت/ عملوا لك قيمة وسيمة سلاطين الفول والزيت» وغنى «فاليرى جيسكار ديستان/ والست بتاعه كمان/ حيجيبوا الديب من ديله/ ويشبعوا كل جعان».
غنى الشيخ إمام عشرات الأغانى التى تمتلئ وعيا وتوهجا ووطنية، وكنا نصطحبه من حجرته فى حوش آدم، ونقتحم أحد المدرجات الكبيرة بإحدى الكليات حتى لو رفض عميدها، ونجمع له بعض القروش القليلة كأجر متواضع، يقنع به ويقدر عليه الطلاب الفقراء. وكان الشيخ إمام بأغانيه المتوهجة عنصرا أساسيا أشعل مظاهرات الانتفاضة الشعبية (يناير 1977)، حيث قدم للمحاكمة، ووضعت الدولة بعدها الحرس الجامعى لمنع غير طلاب المكان وأساتذته من الدخول. وهكذا حرم الطلاب من تلك الطاقة الخلاقة، وبعدها اقتصر غناء الشيخ إمام على بعض مقرات الأحزاب وبعض الحفلات الخاصة.
وفى منتصف الثمانينيات عرف طريقه إلى إحياء الكثير من الحفلات فى الدول العربية والأجنبية وعاش فى سعة من الرزق، بالمقارنة بمعاناته التاريخية، مكنته من الحصول على شقة ضيقة فى نفس المكان ــ حوش آدم ــ واختلف مع رفيق دربه أحمد فؤاد نجم، ومات فى هدوء. ونعاه جميع محبيه من كوادر وجماهير اليسار المصرى، وأقاموا له بمسجد عمر مكرم مأتما يليق بفنان الشعب الذى انحاز للفقراء وأثرى وجداننا، وشغل الناس لربع قرن من الزمان، الشيخ إمام عيسى.
------------------------------
بقلم: د. كمال مغيث
(نقلا عن الصفحة الشخصية للكاتب على "فيس بوك")