25 - 04 - 2024

هل نحن بحاجة لجيوش عربية؟

هل نحن بحاجة لجيوش عربية؟

العنوان سؤال فرضته أحداث السودان الأخيرة التى حركته من مرقده فى جنبات العالم العربى. اقتتال بين جيش السودان بقيادة البرهان وميليشيات "الدعم السريع" بقيادة "حميدتى". الجيوش بشكل عام هى الحصن وقوة الردع ضد أعداء الدولة. وهى قوات مسلحة تحمى وطنها ولا تهدده، تصونه ولا تبدده، تحارب من يعتدى عليه وتسحقه، وتلفظ من يخونه وتحاكمه. القوات المسلحة هي عماد الدفاع عن أمن وسلامة واستقلال وسيادة وكرامة دولها، وإن خالفت شرفها العسكرى، وجارت على شعوبها صارت قوات احتلال داخلى أسوأ من الاحتلال الخارجى. الاحتلال الخارجى يشحذ همم المقاومة ويوحد صفوف الشعب، والاحتلال الداخلى يستقطب الشعب، يمزقه ويفرقه شيعا متنافرة، فيقتل المقاومة، ويستأثر بالدولة ويستبد بها،ويحولها إلى عزبة تُعرف ب"الدولة العزبة" أو "الدولة القعيدة" وإن كانت جديدة.

غالبية الدول العربية سعت للاستقلال من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية فى منتصف القرن العشرين، وحاولت تكوين جيوش لها تحميها وتدافع عنها ضد المعتدين، باستثناء دول الخليج التى صنعها الاستعمار - بدون حروب للاستقلال - وظلت فى عباءته باستقلال وهمى، وبدون جيوش فاعلة. كلهم يشترون أسلحة متقدمة بمبالغ طائلة لا يجيدون استخدامها. فى الغالب كانت الجيوش أقرب إلى قوات شرطة تحمى السلطة فى الداخل. عندما تبلورت جيوش الخليج على استحياء، قام حكام السعودية والإمارات منذ أكثر من سبع سنوات باستخدام جيوشهم فى حرب ضد اليمن، التى لم هدأت نيرانها الآن، ولم تحط أوزارها بعد. استخدمت السعودية قواتها الأمنية منذ تسعينيات القرن العشرين للتحرش بجارتيها اليمن وقطر على حدودهما لاقتطاع اجزاء منهما لضمهما إليها. تفرغت قيادة الإمارات العربية المتحدة لزرع الفتن فى العالم العربى وتفتيته. تحالفت مع قيادة السعودية الطامحة فى قيادة "القارة العربية" بدعم أمريكى-إسرائيلى فى محاربة اليمن، ونسيت جزرها الثلاث التى تحتلها إيران. حرب القوات السعودية – الإماراتية على اليمن أدى لنشوء ميليشيات الحوثى وتواطؤ الجيش الرسمى مع المعتدين؛ جيش رسمى وميليشيات الحوثى، كلاهما مدعومان خارجيا، يخوضان حربا بالوكالة ضد شعبهما اليمنى. هدأ الصراع حاليا بتوقف دعم المتحاربين بالأصالة. لاتوجد سلطة سياسية للدولة تستطيع اتخاذ القرار.. هل هذه جيوش حرة أم مرتزقة تنفذ أجندات غيرها؟ ولا عزاء للشعب.

ظاهرة نشوء المليشيات فى الدول العربية بدأت مع الحرب الأهلية فى لبنان منذ سبعينيات القرن العشرين، انتهت إلى جيش وطنى غير فاعل وميليشيات فاعلة لكل طائفة، ولكل ميليشيا كفيل. ومازالت لبنان تغلى فوق فوهة بركان. جيش العراق كان من أقوى الجيوش فى "القارة العربية" بعد الجيش المصرى، أو ربما فى مستواه إبان حكم الرئيس الراحل صدام حسين، خاض حربا ضد إيران، معروف أسبابها الأيدلوجية والطائفية والاستراتيجية. فجأة توقفت الحرب، ليغزو جيش العراق دولة الكويت الشقيقة، زال ملكها بين عشية وضحاها. تكالبت الأمم عليه بحجة تحرير الكويت، تمزق جيش العراق وتفككت أوصال الدولة، وغرقت فى مستنقع الطائفية.. صارت أثرا بعد عين. هل دور الجيوش العربية غزو الأشقاء واستباحة أعراضهم وإزالة ملكهم؟ أتحدث عن ظواهر الأشياء ولا أقيمها. وفى سوريا انشقاقات ومليشيات ومواجهة، كل له داعمه الخارجى، وشعب يدفع الثمن. الجزائر مرت بعشرية سوداء تحكمت فيها مليشيات طائفية، انتصر الجيش الوطنى فى نهاية المطاف، ومازالت المراجل تغلى فى الصدور. ليبيا لم تعد واحدة، بها مليشات مدعومة خارجيا، وجيش منزوع الإرادة. الجميع فى حالة اقتتال. ليبيا موزعة الهوية بين دول خارجية وقبلية وطائفية. حتى فلسطين المحتلة لم تسلم من الاقتتال الأيدلوجى الداخلى. والاقتتال الشهير او حرب أيلول الشهيرة سنة 1970 بين المقاومة الفلسطينية والقوات الأردنية.

السودان حالة مزمنة فى الانقلابات، أكثر الدول العربية تعرضا لها، وأخطر مامرت به هى مليشيات ال"جنجاويد" التى أسسها  الرئيس المخلوع "عمر البشير"، وظهرت الآن باسم "مليشيات الدعم السريع" بقيادة "حميدتى" فى مواجهة جيش السودان (الرسمى) بقيادة "البرهان". كلاهما يقتتلان للفوز بالسلطة والسيطرة على الدولة كغنيمة حرب، والشعب السودانى يعانى، ويدفع الثمن من حياته واستقراره. هل هذا دور جيوش وطنية؟

الجيش المصرى هو أقوى جيوش "القارة العربية، ويمثل كتلة متجانسة صلبة ذات نفوذ وقوى مسيطرة عصية على الانقسام. تعرضت بعض قواته التى كانت متواجدة فى السودان للأسر أثناء الأحداث الأخيرة من قِبل "مليشيات الدعم السريع" بقيادة "حميدتى". تمت عملية الإجلاء طبقا لبيان المتحدث العسكرى، بالتنسيق بين القوات المسلحة المصرية وكافة الأجهزة الأمنية، والتواصل الرسمي والدبلوماسي مع السلطات السودانية، والتنسيق مع شركاء دوليين، واتباع الإجراءات الأممية الخاصة بالصليب الأحمر الدولي، والحرص على عدم التدخل في الموقف الداخلي. فى مقابل تصريحات المتحدث العسكرى الرسمية، أذيع فيديو لبرنامج "قوة مصر" يقدمه "أحمد مبارك"، تحت عنوان "كيف خدعت المخابرات العامة المصرية مليشيات الدعم السريع وفاجأتهم فى منتصف الطريق وأحبروهم بالقوة على تسليم الجنود". ومن أهم ماذكره المقدم أن من حرروا القوات المصرية من الأسر فى السودان هما "قوات النخبة المصرية "جى أى إس" (GIS) التابعة للمخابرات العامة، وقوات من المخابرات الحربية". هذا يتناقض مع البيان الرسمى للمتحدث العسكرى، ويشير إلى قوات تابعة للمخابرات العامة، وأخرى تابعة للمخابرات الحربية غير القوات المسلحة الأساسية. قد تكون المعلومة منقوصة أو غير حقيقية لاستعراض عضلات وتفاخر ليس فى محله من المقدم الذى ادعى أنه يذيع سرا لأول مرة، غير موجود إلا فى قناته اليوتيوب. وتوالت فيديوهات أخرى تتحدث عن دور قوات ال "جى آى إس" التابعة للمخابرات العامة في تحرير 177 فردا من الجيش المصرى في السودان. هذا الكلام يتطلب وقفة وتدقيقا وتحقيقا، فما قيل مدلوله خطير. معروف أن لدينا جسم واحد للقوات المسلحة طبقا للدستور يمد الجهات التى تحتاج دعمه بقواته، لا ثلاث جهات كما يفهم من الفيديو يمكن أن تتصارع لا قدر الله.

الجيوش الرسمية والمليشيات الشعبية صارا ظاهرة تلفت النظر. هل التنوع العرقى والطائفى فى المجتمعات يؤدى إلى نشوء هذه الظاهرة؟ وهل الاستبداد والاضطهاد والاستقطاب والإقصاء الجماعى يساعد على نمو هذه الظاهرة فى المجتمعات المتجانسة؟ هل سوء السياسة، والتبعية، وغياب الدولة الوطنية وسيادة القانون من مغذيات هذه الظاهرة؟ رصدت ما بدا لى، وتساءلت، لكننى لا أملك الجواب.

ومازال السؤال ساريا: هل نحن بحاجة لجيوش عربية تفكك أوصال أوطاننا وتقتل شعوبنا؟.
------------------------------
بقلم: د. يحيى القزاز


مقالات اخرى للكاتب

العوار الوطنى.. إشكالية المثقف والسلطة





اعلان