29 - 03 - 2024

أنطونيو كازيللي يكشف قصة "مزارع النقر": هل سرقة الذكاء الاصطناعي والروبوتات للوظائف مجرد وهم؟

أنطونيو كازيللي يكشف قصة

- الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يشبه الذكاء البشري وتطوير قدرة إبداعية هو خيال محض
- ليست روبوتات بل أشخاص يقومون بتجميع البيانات وتتبعون الشخصيات على الشبكات عن طريق إنشاء حسابات مزيفة ، بعدها تقوم شركة suggest بتجميعها وتحقيق الربح منها 

من المقولات الشائعة في القرن الواحد والعشرين أن الذكاء الاصطناعي والروبوتات سوف تسرق وظائفنا، وأنها أسرع وأكثر ذكاءً منا، لكن هل هذا صحيح؟ هل سيفقد ملايين الأشخاص وظائفهم حقًا؟ أم أن الأمر مجرد مزيد من السيطرة على أسواق العمل والتحكم الرأسمالي الوحشي بالأيدي العاملة البشرية والحد من حقوقها والانتقاص من أجورها؟ أم أن الأمر يرتبط بأوهام ما يطلق عليه إحلال الروبوتات محل البشر؟..

أنطونيو كازيللي أستاذ علم الاجتماع بتليكوم باريس، كلية الاتصالات اللاسلكية بالمعهد متعدد التخصصات التقنية بباريس ، في كتابه "في انتظار الروبوت.. الأيدي الخفية وراء العمل الرقمي" يجادل في أن العديد من الوظائف التي نعتقد أن الروبوتات تقوم بها الآن هي في الواقع من عمل أيدي بشرية، جالسة خلف شاشة الكمبيوتر في العديد من قارات العالم آسيا وأفريقيا وأمريكا.. إلخ..

ينطلق كازيللي في كتابه الذي ترجمته مها قابيل وصدر عن دار مرايا من مقابلة أجراها عام 2017 مع "سيمون" الطالب في نهاية فترة الماجستير في المدرسة العليا للتجارة، والمتدرب في شركة suggest وهي إحدى الشركات المتميزة في قطاع الابتكار والمتخصصة في الذكاء الاصطناعي، وتعمل على تسويق حلول آلية متطورة توفر منتجات فاخرة للعملاء الأثرياء ـ كما يقول العرض التقديمي لموقعها ـ فيمكن عن طريق تنزيل التطبيق أن تتلقى عروضا شخصية بنسبة 100% من العلامات التجارية الفرنسية الأكثر شهرة في عالم الرفاهية أو لمبدعين ذوي خبرة معترف بهم، بشروط ميسرة. تقوم الشركة من خلال عملية التعليم الآلي بتخمين تفضيلات هذه الشخصيات وتتوقع خيراتهم. من المفترض أن يجمع الذكاء الاصطناعي الآثار الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل آلي وكذلك منشوراتهم وموجزا بالمناسبات العامة التي شاركوا فيها وصور أصدقائهم أيضا ومعجبيهم وأقاربهم ، ثم يقوم بتجميعها وتحليلها واقتراح المنتج الذي يتناسب مع تفضيلاتهم.

ويضيف كازيللي "تختبيء حقيقة مختلفة تماما وراء هذه الآلة التي تتعلم بشكل غير معروف ومستقل وسري. يدرك سيمون هذا بعد ثلاثة أيام من بدء تدريبه، عندما سأل بالصدفة في محادثة حول آلة صنع القهوة، لماذا لا توظف الشركة مهندس ذكاء اصطناعي أو عالم بيانات؟ فاعترف له أحد المؤسسين بأن الكتنولوجيا المقدمة إلى مستخدميهم لا وجود لها ؛ بل لم يتم تطويرها أبدا. "ولكن كيف ذلك والتطبيق يقدم خدمة شخصية؟" سأل سيمون مندهشا. ويرد رائد الأعمال بأن العمل الذي كان ينبغي الذكاء الاصطناعي القيام به هو في الواقع يتم القيام به في الخارج بواسطة عمال مستقلين، يحلون محل الذكاء الاصطناعي، أي أنه روبوت ذكي من الويب ، ويعيد النتيجة بعد حساب رياضي، وقد صمم مؤسسو الشركة منصة رقمية، أي برمجية توجه طلبات مستخدمي تطبيق المحمول نحو.. أنتاناناريفو عاصمة مدغشقر".

ويتابع "في الواقع يوجد في عاصمة مدغشقر أشخاص على استعداد لـ "القيام بدور الذكاء الاصطناعي". مم تتكون وظيفتهم؟ ترسل إليهم المنصة تنبيها باسم الشخصية المستهدفة التي تستخدم التطبيق. بعد ذلك من خلال البحث في وسائل التواصل الاجتماعي وأرشيفات الويب، يقومون بجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول حساب هذه الشخصية بطريقة يدوية؛ النصوص والصور ومقاطع الفيديو والمعاملات المالية والسجلات اليومية لزيارات المواقع، معنى ذلك أنهم يقومون بالمهمة التي كان يجب أن يقوم بها الروبوت وبرنامج تجميع البيانات. إذ أنهم يتتبعون هذه الشخصية على الشبكات، أحيانا عن طريق إنشاء حسابات مزيفة، ويكتبون بطاقات بتفضيلاتهم لإرسالها إلى فرنسا. بعد ذلك تقوم شركة suggest بتجميعها وتحقيق الربح منها من خلال الشركات الفاخرة التي تقدم العروض".

يتساءل كازيللي ويحاول الاجابة: كم عدد العاملين اليدويين للذكاء الاصطناعي في العالم؟ لا نعرف على وجه التحديد كم عددهم. الملايين بالتأكيد. وكم يدفع إليهم؟ بنسات قليلة لكل نقرة، غالبا بدون عقد وبدون استقرار وظيفي. وأين يقع مكان عملهم؟ في مقاهي الإنترنت في الفلبين أو يعملون من منازلهم في الهند، أو حتى صالات الكمبيوتر الجامعية في كينيا. لماذا يقبلون هذه الوظيفة؟ بالطبع أملا في الحصول على أجر، خاصة في البلدان التي لا يتجاوز فيها متوسط راتب العامل غير الماهر بضع عشرات من الدولارات في الشهر. يؤكد زملاء "سيمون" من المتدربين أن هذا الأمر شائع في موزمبيق وأوغندا على سبيل المثال، أيضا أصبح يتم تشغيل أحياء كاملة في المدن الكبرى أو القرى الريفية للنقر على الصور أو نسخ أجزاء من النص. وفقا لكلام المتدرب، هذا يساعد على تدريب النظم الحسابية، أي تعليم الآلات حتى تؤدي مهامها الآلية. متى سيتعلمون؟ من الصعب إعطاء إجابة. فالشخصيات التي تستخدم تطبيق suggestيتجددون باستمرار ويريدون عروضا جديدة، فيجب أن تتطور الآلة، لذا يتعين على المنصة أن تستمر في إرسال المزيد من العمل لمزيد من العاملين بالنقر في إفريقيا. كما يعمل المتدربون نصف الوقت على البطاقات، يقضي سيمون أيضا مثل الآخرين فترات ما بعد الظهر في القيام بدور الذكاء الاصطناعي. بالإضافة إلى ما يسميه سيمون الإعلان الكاذب (بمعنى قيام الشركة بتسويق منتج بصفته ذكاء اصطناعي وهو ليس كذلك) وجمع البيانات الذي يتم في ظل ظروف غير شفافة.

تعاقد من الباطن

يلفت سيمون إلى أن هناك مشكلة صغيرة أيضا تتعلق بالعلاقات مع الشركات الكبيرة للقطاع الرقمي. إن suggest أي الشركة التي يعمل بها سيمون هي جزء من النظام البيئي لإحدى الشركات الرئيسية في هذا المجال، وهي رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وقد أشادت الصحافة المتخصصة بأجهزة الكمبيوتر العملاقة الخاصة بها. إلى أي مدى ، يتساءل سيمون، يتجاهل عملاق التكنولوجيا هذا سلسلة التعاقد من الباطن التي تصل بدءا من شركة ناشئة تقع في فرنسا، وحتى ضواحي بلدة في جزيرة مدغشقر؟ وإلى أي مدى هو مستعد للاعتراف بأن الذكاء الاصطناعي لهذه الشركة التابعة هو في الواقع مزيج من المتدربين الفرنسيين ومواطني مدغشقر المشتغلين بعمل غير مستقر؟ هل يعرف أنه طالما أن عمل عدد لا يحصى من حرفيي النقر أرخص من عمل فريق من علماء الكمبيوتر المتخصصين في تطوير الحلول الأتوماتيكية، فلن يكون للشركة الناشئة أي سبب وجيه اقتصاديا لخلق ذكاء اصطناعي تدعي أنها طورته بالفعل؟ "الحل الأمثل هو وضعها في حالة إنتاج، كما يعترف أحد المؤسسين ولكن في هذه المرحلة، تعتبر مطالب عملائنا كثيرة جدا إلى درجة أنه من الأفضل تركيز جهودنا على المنصة التي يعمل عليها الموظفون التابعون للمتعهد الذي نتعامل معه من الباطن، لجعلها أكثر كفاءة وربحية".

يقول كازيللي إن هذه القصة ليست سوى لمحة عامة من نقاشات وتعليقات جمعها من واقع عمله بعلم الاجتماع الرقمي، وهنا في الكتاب "نختبر أدبيات الأتمتة واستكشاف كواليسها، ونحاول توصيف ما يسميه خبراء الذكاء الاصطناعي "الإنسان في حلقة التعليم الآلي"، ندرك أن أذهاننا مسكونة بتصورات وخيالات تكنولوجية حول علماء "ذوي ياقات بيضاء" وأصحاب رؤوس أموال يرتدون البليزر والجينز، يحملون أجهزة حديثة بتطورات متقدمة، هذه التصورات تنحي من خيالها أشخاصا عديدين يعملون في أماكن متفرقة، وعلى الأخص من منازلهم، ويرتدون ثيابا أكثر تنوعا، هذا هو الحال دائما مع العالم الرقمي، بمعنى أن في مقابل لكل ياقة بيضاء هناك ملايين من ذوي الياقات الزرقاء".

إذن يسعى كازيللي إلى إعطاء معنى لقصة هذا المتدرب مجهول الهوية، وإيجاد إجابات على السؤال الذي لا يزال مطروحا بعد شهادته: هل هذه الشركات ليست سوى حالة معزولة من غسيل الذكاء الاصطناعي، أو ظاهرة كاشفة لاتجاه متزايد لإخفاء العمل، تحت غطاء الروبوتية؟ وللرد يستكشف كواليس الأتمتة مع طرح المزيد من الأسئلة: من يقوم بالأتمتة؟ طبقا لأي طرق محددة؟ في أي منظومة اجتماعية؟ وما هي النتائج السياسية؟ بشكل عام ما هو الرابط العميق بين العمل البشري وهذه الإدارة الحديثة للقطاع التقني؟.

ومن خلال تحلي العديد من الأمثلة وأدوات الاجتماع والعلوم السياسية وعلوم الإدارة والقانون وعلوم الكمبيوتر، يسعى كازيللي إلى فهم المنطق الاقتصادي والاجتماعي الذي يحكم المجتمع الذي تشكله المنصات الرقمية، وفهم آليات الانتاج وتداول القيم السائدة فيه، وأشكال الهيمنة والاختلالات التي تحدثها وأخيرا تصور إمكانية التغلب عليها. وهنا يدعو المنهج النظري الذي يطوره في كتابه إلى انقلاب في الرؤى: "فليست الآلات هي التي تقوم بعمل الأفراد، ولكن البشر من يتم دفعهم للقيام بالعمل الرقمي لصالح الآلات، من خلال مرافقتها، وتقليدها وتدريبها. تتغير الأنشطة البشرية وتوحد قياساتها وتتشظى إلى مهام صغيرة لإنتاج المعلومات في شكل موحد. تؤثر الأتمتة إذن في العمل بتغييره، وليس بالقضاء عليه".

ويلفت كازيللي في الجزء الخاص بـ "عملية التحول إلى منصة" إلى أن هذه العملية تسهم في عملية تفكك المهن التي تحل محلها سلسلة من المهام البسيطة والاستعانة بمصادر خارجية، ومن ثم فإن التحول إلى المنصات وتجزيء العمل إلى مهام صغيرة يجتمعان لتهميش العمل وإفراغه من معناه. لا يقتصر العمل الرقمي على قطاع صغير من العمالة الخارجية، ولكنه موجود في أشكال مختلفة: أجور منخفضة في مزارع النقر، حيث يتكرر منطق الاستغلال الذي كان يحددث أيام الاستعمار، كما أنه موجود أيضا في البلدان المتقدمة، على الشبكات الاجتماعية في شكل عمل مجاني مولدا قيمة أكبر من تكلفته. 

ويرى أن الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يشبه الذكاء البشري وتطوير قدرة إبداعية هو خيال محض. يأتي الخلق حصريا من مخترع هذا الذكاء الاصطناعي، وبالتالي فإن هذا الشخص، الإنسان، هو المؤلف. إذا دفعنا الانعكاس إلى أبعد من ذلك بقليل، يمكننا القول أنه ليس فقط المهندس أو المالك هو المؤلف ولكن جميع المجموعات بما فيها حشود "مزارع النقر" الذين يفعّلون الذكاء الاصطناعي بالعمل من خلال تزويده بالبيانات بشكل دائم. علاوة على ذلك، يجب استبدال مصطلح الذكاء الاصطناعي بمصطلح "التعلم الآلي" الذي يصف الظاهرة بشكل أفضل".

ويعلق دومينيك ميدا أستاذ علم الاجتماع ومدير معهد البحوث البينية في العلوم الاجتماعية ـ جامعة باريس على عمل كازيللي قائلا "في نهاية غوص كازيللي في كواليس الأتمتة وفي خلفيات المنصات وفي المطابخ العالمية لـ "مزارع النقر"، لا يزال من المستحيل تصديق اختفاء العمل، كما تبرزه استعارة التركيب الميكانيكي بشكل كبير، فإن ما نكتشفه خلف الواجهة المعقمة للاقتصاد الرقمي والتي تدعي اللامادية هي أكثر الأعمال المادية وجودا، عمل الإصبع الـ "DIGITAL LABOR العمل الرقمي"، المخفي عن الأنظار في البلدان البعيدة أو المختبئ في قلب الوحدات السكنية في الدول المتقدمة، هذه الفرضية الرئيسية لهذا العمل المهم؛ بعيدا عن إخفاء العمل، فإن الأتمتة القائمة حاليا من ناحية، ترتب لإخفائه ومن ناحية أخرى تشارك في تغيير عميق في شروط ممارسته".

ويشير دومينيك ميدا إلى أن كازيللي يقدم أطروحة قوية "ليس فقط لأنه لا يوجد ولن يوجد إحلال كبير "للروبوت محل البشر"، ولكن الهدف من العملية الكاملة لنشر الذكاء الاصطناعي والأتمتة والتحول إلى نظام المنصة هو الحيلة الأخيرة (ولكن الكلاسيكية) للرأسمالية، لإرهاب العمال والمستخدمين وحثهم على قبول أجور أقل مقابل العمل (ومن الواضح أنه من الممكن الاعتقاد بأن التنبؤات المخيفة حول اختفاء الوظائف هي جزء من هذا المشروع الذي يؤدي إلى زعزعة الاستقرار...) من هذا المنظور يبدو أن الفترة القصيرة التي تم خلالها ابتكار آليات وقواعد محددة لحماية العمل وضمان كرامته لا يتم أخذها في الاعتبار؛ فكل شيئ يحدث كما لو كنا في طور استعادة العصر السابق على العمل بأجر، مثل العمل بالقطعة وأنظمة العمل المستغلة والمساومة، يؤكد كازيللي بأن الاستبدال الكبير لن يتم لكن ما وعدنا به ليس أكثر من مدعاة إلى السرور. لأن هناك عملية أخرى جارية تساهم في إحداث تغيير جذري في طبيعة العمل؛ وهو ما يسميه كازيللي "تجزيء العمل إلى مهام صغيرة".
-----------------------------------
تقرير - محمد الحمامصي

من المشهد الأسبوعية









اعلان