19 - 04 - 2024

في قصة "المحنط" للأديب محمد هلال .. تزايد الضغوط يدفع حتى الموتى إلى التمرد

في قصة

فتحي مسرور حارس متحف محمد علي يخشى الحيوانات المحنطة ويطالب بتشديد الحراسة عليها !! 

 الضغط يولد الانفجار وما الثورات فى تاريخ البشرية إلا نتاج لهذا الضغط، حين يتم تكثيف القهر والظلم على مجموعة من البشر فيظن الطاغية أنهم أصبحوا فى عداد الأموات ، يأتمرون بإشارة منه ويسبحون بحمده إلى أن تأتى اللحظة المناسبة فينتهى الطاغية، ولم تكن  مصر بمعزل عن ذلك، فقد شهد تاريخ الثورات أمثلة كثيرة فى رحلة  البحث عن استقلالها والتى تجسدت فى ثورة عرابى وثورة 1919 والتى توجت بحصول مصر على استقلالها واستعادة حريتها  .. ذلك ما جال بخاطرى أثناء قراءتى قصة "المحنط" للأديب محمد هلال ضمن مجموعته القصصية فى" ىساحة  المجانين " والتى كتبها قبل اندلاع ثورة 25 يناير وكأنه كان يتنبأ بتلك القصة لتخرج الملايين من أفراد الشعب وتثور ضد الفساد والظلم والتعذيب فى السجون.

تدور فكرة "المحنط "حول الاستبداد والظلم الذى قد يقع على الناس حتى يتحولوا الى شبه جثث محنطة لقيت حتفها منذ أمد بعيد، وحول شخصية المستبد ونظرته الفوقية لمن يستغلهم، وكيف أنه على الرغم من السلطة التى يتمتع بها من جراء سطوته وتعمد ظهوره بحالة من الزهو والكبر على سائر العباد، إلا أنه سيلقى مصيره المحتوم، ولعل مقولة "خليهم يتسلوا" ليست بغريبة علينا، فما زالت عالقة فى أذهاننا، وهذه العبارة تذكرنا بأشهر مقولات الطغاه فى التاريخ، كتصريح لنيقولاى تشاوشيسكو ردا على سؤال لأحد الصحفيين عما إذا كانت المظاهرات التى عمت مدن رومانيا ستؤدى للتغيير حين قال: لايوجد شيء مما تقولونه واستطرد بعنجهية مستهزئا "لن يحدث تغيير فى رومانيا إلا إذا تحولت أشجار البلوط إلى تين".

وبعد أربعة أيام من هذا التصريح، تم القبض على الطاغية هاربا مع زوجته وتم إعدامهما رميا بالرصاص، وهذا هو حال الطغاة على مر التاريخ، يظنون أنهم سيعيشون أبد الدهر يمارسون جبروتهم وصلفهم، نذكر منهم أمثلة ليس على سبيل الحصر، كما ورد فى مقال للباحثة هبة أبو كويك مثل الطاغية "كاليجولا" أشهر طاغية فى التاريخ الانساني، الذى يعد نموذجا للشر والقسوة المجسمة فى هيئة رجل أضنى الجنون عقله حتى بلغ به الأمر الإتيان بأفعال لايتصورها عقل، ومن أشهرأقواله: "انا لا أرتاح إلا بين الموتى" وكان يرى أنه إله على الأرض ويملك هذا العالم ويفعل مايحلو له، وأن كل شيء بيديه لدرجة أنه أحدث مجاعة فى روما فقام بغلق مخازن الغلال مستمتعا بأنه يستطيع أن يجعل كارثة تحل بها، ومكث يتلذذ برؤية أهل روما وهم يتعذبون من الجوع. وأمثلة الطغاة عديدة، ليت كل طاغية يدركها للعظة، ولكن لاحياة لمن تنادي، فكما يقول الأديب محمد الماغوط: "الطغاه كالأرقام القياسية لابد من أن تتحطم فى يوم من الأيام".

يشخص لنا عبد الرحمن الكواكبي، فى كتابه طبائع الاستبداد، الفساد السياسى ويصف أقبح أنواعه وهو استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل، ويقول إن الله خلق الإنسان حرا قائده العقل فكفر وأبى إلا أن يكون عبدا قائده الجهل.  

برع الأديب محمد هلال فى تصوير شخصية المستبد والتى تتفق مع رؤية عبد الرحمن الكواكبى "إن المستبد فى لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنسانا فصار إلها".

 وعلى الرغم مما يتمتع به الشخص المستبد من سلطات وشعور بالزهو، إلا أنه يخفى وراء ذلك شعور بالخوف والترقب من التمرد عليه، فعادة لاينام الشخص المستبد قرير العين ملء جفونه، وينتظر الضربة التى ستوجه إليه من أي اتجاه. وحسب رؤية عبد الرحمن الكواكبى أن المستبد هو فرد عاجز لاحول له ولاقوة إلا بأعوانه، أعداء العدل وأنصار الجور وأن تراكم الثروات المفرطة مولد للاستبداد ومضر بأخلاق الأفراد وأن الاستبداد أصل لكل فساد.

من هنا يمكننا القول أن الطاغية إنسان ضعيف مهزوز يتخفى وراء مظهره الخادع وجبروته وأتباعه الذين يختارهم بعناية، ويحاول بشتى السبل القضاء على شعبه وتقليص قواه حتى يصبح أفراده أشبه بكائن ميت محنط يرضى بالمهانة لينعم الطاغية بصلفه وجبروته، وكأنه مصدر الكون غير عابيء بمن سبقه من الطغاة الذين انتهت حياتهم نهايات كارثية، وذلك ما تضمنته تعريفات علماء النفس للشخص الطاغية وتضمنته قصة "المحنط" للأديب محمد هلال قبل اندلاع ثورة يناير بأشهر قليلة، والتى كانت بمثابة نبوءة لم يصدق الكاتب نفسه وقت حدوثها، فجعل فك القيد وانطلاق المارد من عرينه مجرد حلم استيقظ منه الطاغية ليستمر فى استبداده. وما هى إلا أشهر قليلة بعد كتابة القصة حتى خرجت كل جموع الشعب بكل طوائفها بانطلاق شرارة ثورة يناير ولازال الحلم قائما، وهى دليل إثبات أن ما نمر به الآن، ما هو إلا كبوة وسننهض من جديد  لنكمل انجازات ثورة عظيمة قام بها الشعب.

***

تتبلور قصة المحنط للأديب محمد هلال حول شخصية الريس فتحى مسرور الحارس على متحف الأمير محمد على، الذى يضم عدد من الحيوانات المحنطة التى كان يصطادها الملك فاروق خلال رحلة الصيد،  تمنى الريس فتحى أن يحكم قبضته تماما على المتحف واهتم بجمع المال بالدولار ومنع أي مصرى من الدخول للمتحف، لأنهم يتعاملون بالجنيه المصرى الذى لا قيمة له أمام الدولار. وطمعا فى زيادة سلطته على المتحف، طالب بزيادة عدد معاونيه. ومع الوقت أصيب الريس فتحى بجنون العظمة، فازداد في جبروته وانتابه الخوف من كل شيء حوله، ومنها الحيوانات المحنطة التى خالها ستدب فيها الروح وتنقض عليه ليحنط بدلا منها، ويأتى خوفه الشديد الذي يؤرق نومه وجعله لايغمض له جفن من ذلك الأسد الضارى القابع آخر الدهليز فى المتحف مرفوع الرأس فى كبرياء، وعلى الرغم من أنه محنط، إلا أن منظره المتوثب يوهم من يراه بأنه حي يتنفس ويوضع فى فاترينة العرض، فطلب من الحراس زيادة مادة التحنيط. ذلك الأسد المحنط هو ما كان يخشاه الريس فتحى مسرور من أن تدب فيه الروح، ليمارس دوره مستنهضا كافة الحيوانات الأخرى المحنطة ويلتهم كل من يحاول إيقافه أمام جبروته. وإزاء تلك الهواجس أمر حارس المتحف بزيادة مادة التحنيط على كافة الحيوانات بالمتحف وبخاصة هيكل الأسد الضاري، فما كان من هذا الأسد الضاري ومعه بقية الحيوانات بعد زيادة الضغوط عليها من سريان مادة التحنيط فى أجسادها والتى سمحت بارتفاع درجة حرارة أجسادها، وبخاصة جسد الأسد الميت لتدب فيه الروح فتلمع عيناه ويفور رأسه كماء يغلى، فاتحا فاه باتساع الكون يزأر بقوة منتفضا يدوس بقدميه من يلقاه محطما الأقفاص الحديدية، وتتبعه الحيوانات الميتة الأخرى، وتنطلق من المتحف لتكسر السور وتندفع خارج المتحف لتجوب شوارع القاهرة.. ذلك هو ملخص قصة المحنط للأديب محمد هلال، ضمن مجموعته القصصية "فى ساحة المجانين"، صاغها بأسلوب شيق استطاع فيها سبر أغوار شخصية الطاغية التى تتمادى فى الظلم والاستبداد، حتى تأتى لحظة الانفجار. والقصة رغم عدد صفحاتها القليلة إلا أنها قصة قائمة بذاتها، ومن الممكن للكاتب أن يستقل بها فى كتاب منفصل، فهى نواه لتحليل شخصية الطاغية ولكل طاغية سولت له نفسه أن يستمر فى طغيانه، يتحكم فى رؤؤس العباد ويظن استمراره أبد الدهر.

ولو تتبعنا قصة المحنط للكاتب محمد هلال سندرك مدى تمكن الكاتب من التوغل فى دراسة شخصية الطاغية واطلاعه على سماتها فى شتى جوانب حياتها. فكما ورد فى مقال على موقع المرسال تناول نمطا من القادة والحكام الذين ساهموا فى إشعال الحروب ودمار دولهم، إذ يعتقد الديكتاتور أنه الوحيد الذى يمتلك الصواب، وأنه الوحيد القادر على معرفة صالح الجماعة، وأن أي مخالفة لقراراته تعد من قبيل التعدى عليه. فمن سمات الشخصية الديكتاتورية: 1- الديكتاتور شخصية متحكمة تريد فرض سيطرتها حسب رغبتها. 2- تقسيم المجتمع إلى فئتين إما معها أو ضدها. 3- الديكتاتور شخصية غير مرنة لاتتقبل الآخرين، وترى أنها الوحيدة التى تمتلك الصواب والآخرين على خطأ. 4- الديكتاتور شخصية حادة الطباع سريعة الغضب. 5- الديكتاتور تبدوشخصيته صلبة لكنها تخفى ضعفا يكمن فى أعماقها 6- شخصية لا تؤمن بالحواروترفض الانفتاح على العالم. ولو طبقنا تلك السمات على بطل قصة المحنط الريس فتحى سنجد أنها شديدة الالتصاق بتلك السمات السابقة، فالريس فتحى أراد أن يتحكم فى المتحف ويرفض زيارة المصريين إليه، حتى يضمن تحصيل رسوم الزيارات بالدولار، رافضا عملة الجنيه لضعفها أمام الدولار، وقام بزيادة أعداد الحراس على فاترينات المتحف. كما قام بتقسيم الحراس لضمان السيطرة عليهم لنيل ولائهم المستمر له، وضمان كتابة التقارير ضد بعضهم البعض. والكاتب جعل الريس فتحى شخصية غير مرنة، حيث رفض كلام أحد الحراس بأن الحيوانات المحنطة هي حيوانات ميتة، فقام بطرد هذا الحارس من المتحف نهائيا، مؤكدا أن الحيوانات قد تدب فيها الروح فى أي لحظة .

"البارانويا "ميغالومانيا والطاغية

نجح الكاتب فى إظهار أن كل طاغية يكون شخصا مصابا بمرض جنون العظمة "ميغالومانيا" لأنه يختزل كل شيء فى شخصيته ويرى العالم من خلالها فقط، فالطاغية كما ورد فى دراسة د. عزام محمد أمين تحت عنوان "جنون العظمة وشهوة السلطة" فى موقع أورينت نت، هو المركز وكل مايدور حوله ينطلق من وجوده . فالبارانويا هى أحد أشكال مرض "الذهان النفسى فقد يبدو المريض سليما من حيث القدرة العقلية غير أنه يبنى استدلالاته على أوهام وحوادث غير واقعية ويعيش الطغاة فى عالمهم الخاص متقوقعين على مجدهم الذاتى منفصلين تماما عن الواقع ووفقا لرأى العالم الألمانى ريتشارد فون كرافيبينغ  أول من وضع مصطلح البارانويا يرى أن الشخص المصاب بجنون العظمة يكون طموحا جدا، يسخر كل شيء من أجل الوصول إلى غايته، ولو لاحظنا شخصية الريس فتحى فى رواية المحنط سنجد الكاتب نجح تماما فى تعرية هذه الشخصية المصابة بجنون العظمة حين أمر بقطع رأس أحد معاونيه لأنه أمر شاعر المتحف بأن ينشد نشيدا "يامحنى ديل العصفورة بلدنا هى المنصورة "وذلك فى العيد القومى للمتحف فأمر بتغييره إلى "يامحنى ديل العصفور متحفنا هو المنصور ورئيسنا فتحى مسرور" وهناك عبارات " ها ها ها ما أنتم إلا مسمارا فى كعب حذائي" إن حياتك ياسيدنا الأعلى هى رمز رخاء المتحف هى كل المتحف هى كل الأشياء ... كل الأشياء"

 "الطاغية لا يغمض له جفن"

من صفات الطاغية أيضا شعوره بالشك والريبة فيمن حوله لدرجة أنه لا يغمض له جفن، لقد صور لنا الكاتب شخصية الديكتاتور ذلك الشخص الذي لا يثق بالآخرين ودائم الشعور بالقلق والارتياب وفى الداخل فى حالة خوف مستمر وتوتر، على العكس تماما مما يظهر عليه من الخارج، خشية الخروج عليه. فجعله يحسد أتباعه الذين ينامون ملء جفونهم، بينما هو يتوقع فى أي لحظة الخروج عليه، فالريس فتحى لاينام بل يحلم بكوابيس تطارده ويوجه كلامه لأتباعه "أنتم تنامون بينما أنا حرمت من النوم، أرجو تشديد حراستكم على الثعابين المحتطة.. اياكم ان تتحرك مثل العصفور الهارب. هذه أخطر بكثير تعمل بدهاء تتخفى فى أوكار مشبوهة تلدغ خلسة، أرسلوا طلب استعجال لخبراء التحنيط ليعيدوا تحنيط المعروضات حتى أضمن سيطرة الحراس عليها، وبالذات هذا الأسد المتوثب، أرجو إعادة تحنيطه مرة شهريا، حراسة هذا الأسد الضاري لاتوكل لحراس ضعفاء، كم أتمنى أن يُدفن هذا الأسد المرعب، عيناه المنطفئة لو لمعت معناها عودة الروح إليه، معنى عودتها هلاك المتحف وتهدم جدرانه ونظامه، راقبوا كل صغيرة وكبيرة".. لا يدرى العامة كيف الحاكم يقضى ليله فوق أكف الأرق وجمر القلق.. "أقسم أني لم أهنأ فى نومى مذ آلت لى عهدة هذا المتحف.. قلبى دوما يخبرنى بأن مكيدة تدبر لي، فأفتش تحت سريرى علّ القاتل يكمن تحته أو دس خلسة قنبلة موقوتة، بل إني أفتش تحت وسادتى فربما وضع المجرم شيئا يتفجر فى رأسي، وأفتش تحت المنضدة بل تحت بساط الأرضية من يضمن؟ إنه عمرى ...." آه رأسى سينفجر ، من يحمل عنى أعبائى..." 

"الطاغية والأنا المتضخمة" 

يربط د. عزام محمد فى دراسته أيضا، بين كثرة الصور والبورتريهات للشخصياتالديكتاتورية، لما لها من مكانة مركزية فى حياه الطاغية وحكمه، فنجدها تنتشر فى كل مكان، فالصورة لها وظيفتان، وظيفة رمزية: لأنها تعبر عن قبول الطاعة والولاء له، لذا يجب أن تكون صور الطاغية فى كل مكان، فى جميع الأماكن العامة والخاصة. أما الوظيفة الأخرى للصورة فوظيفة نفسية، لأن المستبد يعشق ذاته ونرجسيته وقد تصل إلى حد الهوس، وكلما كانت الصورة كبيرة وضخمة كلما شعر المستبد بوجوده وقوته، والرضا الذاتى عن الأنا المتضخمة، فهو يسعى لتخليد شخصه من خلال الانتشار الهائل للصور والتماثيل، فيأمر أتباعه بتنظيم المهرجانات والنشاطات للاحتفاء بالصور. كما تختلف صورة الطاغية من فترة لأخرى، فتارة يكون الطاغية رجل علم مثقف حاملا كتابا، وتارة محاربا حاملا سلاحا اولابسا زيا عسكريا. ولو طبقنا تلك المعايير على قصة المحنط للكاتب محمد هلال فنجد نجاحه فى توظيف الصورة فى القصة وحرص الريس فتحى على التركيز على صوره وفى أوضاع عديدة. معترضا على أن أتباعه يلتقطون له كادرا واحدا فقط لصوره ويطلب منهم التنوع فى المناظر، وهو ما أشار إليه الكاتب فى القصة "صورتى بجوار كل الفتارين، ماذا سيقول الزوار.. قطعا سيلعنون هذا الذوق المتعفن، صورة واحدة تتكرر مئات المرات، هل هذا معقول؟ شيء يدعو للسأم والقرف. إن كان ولا بد،  فصورة وأنا أبتسم، وأخرى وكفى فوق زناد سلاحى، وثالثة وأنا أفكر، وأخرى وأنا ... هكذا يجب التنويع"

حب الغطرسة والقوة

يرى علماء النفس أن هناك بعض العلامات تظهر على الشخص الديكتاتوري، ومن أبرزها الرغبة الدائمة فى الشعور بالقوة، فيميل إلى ممارسة كافة السلوكيات وإملاء كافة الأوامر التى تشعره بالنفوذ والقوة، ويرفض كل ما يمس هذا الشعور لديه ويسعى للتخلص منه، وقد يصل الأمر لديه إلى التعصب لرأيه وعدم التسامح مع الآراء المخالفة له. وهو مانجده في سلوك الريس فتحى الذى أمر بقتل اثنين من معاونيه لمجرد الشك فيمن يكون مناوئا له ومن الأصدق له، دون معرفة الحقيقة. وأيضا كثرة عقده للاجتماعات والظهور العبثى بمناسبة وغير مناسبة والخطابات المستمرة أمام أعوانه. مطالبته بزيادة الحراسة الأمنية وإقناع أتباعه أنه بامكانه حراسة المتحف بمفرده، ولكنه يوفر لهم العمل ليرحمهم وذويهم من العوز، فبه يتحقق لهم الأمن والأمان. "إنكم بغيرى لن تجدوا لقمة العيش، فسلامتى هى سلامتكم جميعا، وإرضائى هو مزيد من السعادة لكم ، ... إنكم بى ترزقون وأولادكم .. وليحذر أحدكم أن يضبط وهو يفكر في غير سلامتى، والاستعداد للفناء من أجلى كى يضمن لعياله حياة طيبة"

 "الطاغية .... شخص سيكابوتي"

من سمات الطاغية أيضا وهى أعلى درجات الفساد فى الشخصية، أن يتحول إلى شخص سيكوباتي، أي شخص يميل إلى السادية لايستمع إلى غيره ويرى أنه دائما على حق وأي خلاف معه يشكل خطرا على سلطته، لذلك يستوجب التخلص من المختلفين معه ولو لأتفه الأسباب وبدون أي تردد، وبالتالى هو شخص مغرور متكبر ينفرد برأيه ويرى أنه المصدر الوحيد للرأى الصحيح والفكر الصحيح، واى شخص يخالفه يعتبره يدبر لمؤامرة عليه، من هنا يبالغ الطاغية فى التنكيل بالمخالفين له، فقد تصل العقوبة للعزل السياسى وربما التصفية الجسدية والاعتقالات حتى لو كان الشخص من أقرب الأقربين أو الموالين له بلا أي رحمة. وقد نجح محمد هلال فى إظهار ورسم شخصية الريس فتحى مسرور حارس المتحف فأظهره شخصية سيكوباتية يميل للسادية بلا أي رحمة، ينكل بأقرب أعوانه بدون أي دليل، بالعزل تارة والتصفية الجسدية تارة أخرى، ممارسة كافة أنواع التعذيب خلع أظافر، إطفاء سجائر فى جسد المتهم، تعليقه من قدميه حتى يتدلى رأسه كالعجل المذبوح، تثقيب جسده حتى يصبح كالجبن الهش ويلقى تحت ألواح الثلج أيام البرد القارس، االصعق الكهربائي، الاعتداء الجنسى على الزوجة والأم والأخت العذراء أمامه، حتى يبلغ ذله أقساه ...."

الانتهازيون وتمجيد الطاغية

أشار الكاتب محمد هلال إلى أن أى طاغية لا يمكنه ترسيخ حكمه وسلطته بدون أعوان، حيث اختارالريس فتحى مسرور عددا من الانتهازيين المستفيدين ليكونوا أعوانا له على حراسة المتحف، ومراقبة الفتارين وما تحويه من حيوانات محنطة وجعلهم  أعوانا وعيونا له، ليعلنوا ولاءهم، وقد عرى المفكر السورى عبد الرحمن الكواكبى هذا الصنف من الناس فى كتابه طبائع الاستبداد بوصفهم آلة المستبد لإخضاع الرعية، وهؤلاء يتكرم عليهم الطاغية بالألقاب والنياشين، وعلى الرغم من ذلك فتلك الفئة فى نظر المستبد مجرد عبيد وهم مجرد أداة رخيصة وبوق له يستخدمها لتثبيت حكمه وسلطته على بقية الرعية.. وكلما كان المستبد أكثر إجراما كلما احتاج إلى عدد أكبر من تلك الفئة من الانتهازيين، وقد أشار الأديب محمد هلال فى قصة المحنط إلى تلك الفئة من الانتهازيين من أعوان الريس فتحي، فصورهم بجماعة من المنافقين يظهرون له الولاء ويتبارون فى حمايته وتنفيذ أوامره، لدرجة قد تصل إلى الوشاية ببعضهم البعض لتأكيد ولائهم الشديد له " وهو ماورد فى متن القصة :"اعلم كل العلم أن حياتك ياسيدنا الأعلى هى رمز رخاء المتحف، رمز حياة المتحف، هى كل المتحف، المعروضات، الحراس، الزوار، بلاط الأرضية، لمبات النور، كل الأشياء، كل الأشياء" "هذا البوم الزاعق صنف مأمون لايملك إلا الأصوات الحنجورية من أجل منافع شخصية" رضاك أكبر من أحلامى ياسيدنا الأعلى الريس فتحي، فما نحن إلا رهن إشارة من إصبعك الميمون" أن نكون مسمار فى كعب حذاء الريس فتحى، رائع أن نبقى بهذا الود الكامل ونظل نلازم سيدنا الأعلى طول الوقت"    

 قصر الملك فاروق دلالات ورموز 

اهتم الكاتب بتحليل شخصية الطاغية، فنجح فى استخدام كثير من الرموز الدالة على ذلك، فحارس المتحف ماهو إلا رمز لكل طاغية يتوهم نفسه أنه فوق البشر، لا يرى أحد غيره، يسكت كل صوت معارض له، وجعل مكان الأحداث متحف الملك فاروق وما يحويه من حيوانات محنطة كرمز للاوطان التى يحكمها الطغاة بعد موت شعوبها، وتحولهم إلى أجساد محنطة ماتت الروح فيها، وجعل الأسد الميت وغيره من الحيوانات والطيور المحنطة رمز لتلك الشعوب المقهورة التى وصلت إلى درجة الموات النفسى وفقدان الأمل فى حياه كريمة آمنة يشعرون فيها بانسانيتهم. أما مواد التحنيط فرمزت إلى كثرة الضغوط التى تعرضت لها تلك الشعوب المقهورة من غلاء معيشة وكبت حريات وذل ومهانة وسجون واعتقالات.
--------------------------------
رؤية وتحليل: هدى مكاوى
من المشهد الأسبوعية







اعلان