28 - 03 - 2024

العجز .. طريق الإنزواء الإقليمي !

العجز .. طريق الإنزواء الإقليمي !

العجز في اللغة يجوز أن يكون اسما أو صفة  ، ولا يجوز إلا أن يكون فعلا  في السياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة والفنون ..العجز قد يبدأ من الشارع ، وقد لا ينتهي عند السياسة ..  نبدأ من الأول :

عجز في التنظيم والإدارة :

الشارع المصري عشوائي في الحركة، بالمعنى الاجتماعي الواسع ، سواء على مستوى المرور والمشاة ، أو على مستوى تنظيم حركة البيع والشراء على كافة أصعدة النشاط السكاني .. أنفقت الحكومة 474 مليار جنيه على مشروعات الطرق والكبارى خلال آخر 7 سنوات (نحو 16 ملياردولار) ورغم ذلك تتعقد الحركة داخل القاهرة الكبرى قلب الحياة الاقتصادية والسياسية والاقتصادية والثقافية ، بيد أن فوضى الحركة في القاهرة الكبرى بلغ مستوى من العشوائية ، لا تستطيع الحكومة سوى قبوله والتعايش معه ، بل والاستسلام لمقتضيات تلك العشوائية ، التي تفتح ـ في اعتقادها ـ أبواب الرزق لهؤلاء البؤساء الذين لا مكان لهم في سوق العمل المصري سوى افتراش الأرصفة والشوارع لعرض بضائعهم الرديئة على أصحاب الدخول المتوسطة والدنيا من عشرات الملايين من المصريين.. حكومة عاجزة عن تنظيم وإدارة الحركة في شوارعنا ، ومعها تعجز القوانين المرورية أيضا عن تحقيق الردع بالعقاب في ظل أسئلة لن يتم طرحها على مائدة الحوار الوطني التي دعا إليها الرئيس ، أولها وليس آخرها :

ـ لماذا قانون المرور يبدو وكأنه لا يعرف المساواة بين المواطنين التي نص عليها دستور 2014 ؟.. القانون يمنح ويسمح للسلطات المختصة ، اتخاذ ما تراه من إجراءات لتحسين السير ، وتنظيم حركة البيع والشراء إلا أنها (السلطات) تهتم أكثر بالاستثناءات التي تعفى بعض الشرائح الاجتماعية (بحكم وظيفتها ومكانتها) من المخالفات المرورية .. القضاء والشرطة ـ مثلا ـ يستحقان التقدير المادي لاعتبارات موضوعية ، على رأسها كونهما رأسي حربة جناحي الاستقرار الاجتماعي (العدالة والأمن) ، إلا أن تلك الاعتبارات الموضوعية لا يصح لها أن تحجب دورهما الاجتماعي في إعلاء شأن القانون واستحضار هيبته داخل حياتنا اليومية ، هما "مسطرة" العدالة في مصر وهما روح القانون قبل أن يكونا "نصوصا" ملزمة وحاكمة على الأوراق .. القانون قاطرة التغيير الاجتماعي والسلوك الإنساني في البلاد .

ـ عجز في الغذاء : 

حقيقة لا نستطيع الهروب منها أو تجاهلها ، أكد عليها وزير الري، عندما صرح أن مصر تعاني من ندرة المياه ، وتقترب من حالة الندرة المطلقة، حيث يبلغ العجز المائي نحو 21 مليار متر مكعب في السنة، مع وجود فجوة غذائية بأكثر من 10 مليارات دولار، حيث تستورد مصر 60٪ من غذائها، وتغطي الأرض المزروعة نحو 3.50٪ فقط من مساحتها..وقد بلغ العجز في القمح (غذاء المصريين التاريخي) ثمانية ملايين طن سنويا، تكلفنا أكثر من ملياري دولار ، وعجز في الفول ، الطعام الرئيس للشعب المصري ، الذي كان إنتاجه يكفينا ، بل ويفيض منه لنصدره إلى الخارج ، نستورد منه حاليا ما قيمته 565 مليون طن يكبدنا مئات الملايين من العملة الصعبة..حتى العدس ، "جنرال" الكشري ، طبق الشعب ، استوردنا منه ما يعادل 800 مليون دولار، خلال الفترة من يناير-أغسطس 2021 ، كما صرح للصحف نائب رئيس شعبة الحاصلات الزراعية بغرفة القاهرة التجارية..

ـ عجز في العدالة :

باعتراف وزير العدل نفسه ، نعاني من نقص حاد في عدد القضاة ، حيث يبلغ المتوسط العالمى ، قاض لكل 14 ألف مواطن ، بينما في مصر لكل 33 ألف مواطن .. حتى المساعدات الضرورية للقضاة تعاني من العجز، إلى الدرجة التي اضطر معها  المجلس الأعلى للنيابة الإدارية ، للموافقة على الاستعانة بمكلفين من الخدمة العامة لسد "العجز الشديد" فى أعداد سكرتارية بالنيابات على مستوى الجمهورية ..

"ماكينة العدالة" تعاني عجزا في العمالة النوعية ، ما يتسبب في تباطوء إجراءاتها ، وتأخر استعادة حقوق الأفراد والجماعات من ضحايا ومصابي حوادث الدهس اليومي للفساد الطائش في المجتمع المصري.

ـ عجز مالي :

في الحساب الجاري لمصر يصل إلى 16.6 مليار دولار في العام المالي الماضي 2022/2021 ، رغم زيادة الصادرات النفطية وغير النفطية، وارتفاع عائدات السياحة، والقفزة في الاستثمار الأجنبي المباشر، وفقا للبيانات الصادرة عن البنك المركزي المصري.

ـ عجز في التعليم :

نعاني من نقص رهيب في عدد المعلمين بالمدارس، وصل العام الماضي  إلى أكثر من 36000 ألف معلم ومعلمة ، ما دفع وزارة التعليم إلى تكليفهم بأداء أكثر من 30 حصة دراسية في الأسبوع ، أي أكثر من مقدرتهم البشرية بنحو 10 حصص.. في ظل راتب غير آدمى لإنسان يسعى إلى الحياة بالحد الأدنى من الكرامة ، دون انحناء أو انكسار..باختصار التعليم (في آلياته) يشكو من نقص الأعداد وانحسار طاقة الإنتاج.

ـ عجز الصحة :

نعاني نقصا شديدا في عدد الأطباء ، يبلغ 44 ألف طبيب .. النسبة العالمية لأعدادهم بالنسبة لعدد السكان تصل إلى 350 مواطن لكل طبيب واحد ، أما فى مصر فتصل إلى 800 مواطن لكل مريض ، تحت سقف أجور يبلغ ما يعادل 70 دولارا شهريا للطبيب في المستشفى التابع للدولة ( أقل من 2500 جنيه مصري)، في حين يبلغ أجر الطبيب في بلد مثل استراليا نحو 40 دولارا في الساعة ، وفى أيام الإجازات تصل إلى 80 دولارا .

ـ كرة القدم  :

هي الاستثناء الوحيد من ظاهرة العجز الذي تعاني منه مصر في الموارد البشرية النوعية ، حيث لديها فائض في الأعداد ، مدربين ، لاعبين ، وسائر التخصصات في اللعبة ، ورغم ذلك نستورد لاعبين ومدربين وحكام ، يقضمون نصيب الأسد من كعكة "سوق" كرة القدم ، ووفقا لموقع "سبورت 360 ، فإن مصر تحتل صدارة الدول الأفريقية في الإنفاق على صفقات اللاعبين الاجانب، إذ بلغ حجم ما تم دفعه لجلب أجانب في عام 2018 على سبيل المثال 33.7 مليون دولار من أصل 40.8 مليون دولار تمثل قيمة سوق الانتقالات ككل ، وفي 2019 أنفقت إجمالا نحو 68.9 مليون دولار في جلب لاعبين أجانب، بينما قامت ببيع لاعبين بقيمة 37.8 مليونا فقط، ما يعني أن تلك الأندية أنفقت بأكثر مما حصدت ، وهو ما يعاقب عليه القانون ، لكن الاخير يتعرض إلى حوادث اعتداء بالدرجة التي آل إليها شقيقه المسكين في المرور.

ولا ينتهي عند السياسة :

ـ حياة سياسية تبدو عاجزة عن الحركة ، يقيدها حبل خشن من "الضرورات" الأمنية يسمح لها بالجلوس ،ويمنعها من القيام ..حبل من ليف النخيل مجدول بقوة السلطة ، وممدود بطول التاريخ ، حبل يسمح فقط بالتسلق ، لا التحرر.

يتبدى العجز السياسى في أبلغ صوره في دعوة الحوار الوطني الرئاسية ، القضايا الأساسية مغيبة عن المشاركين في الحوار (شخصيات مرموقة) ، وغير مسموح لهم الاقتراب من ملف حماية الحريات السياسية، وحق إبداء الرأي ، وتداول السلطة ، وغيره ..الحوار يدار داخل غرفة ذات "سقف" منخفض،لا يسمح لأي من المشاركين في الحوار التحدث واقفا ، وإلا يرتطم رأسه بسقف الغرفة ، ما دفع المشاركين إلى القبول بأي مكتسبات يمكن الفوز بها من خلال "الحوار الوطني" في حرية إبداء الرأي، وما يترتب على ذلك من فك القيود الخشنة التي تلف معصمي حرية إبداء الرأي ، وفي القلب منها حرية الصحافة .. "السلطة" حاضرة في مصر ، و"السياسة" غائبة ، منزوية إلى جانب حائط الذكريات ، بعيدا عن عيون الرقيب.

ربما إلى العزلة :

عيون الرقيب ، تربكنا ، وتوجسنا .. الدائنون يراقبون ويتابعون خط سير أموالهم التي تقترضها القاهرة .. الولايات المتحدة تراقب الدور الأمنى الذي تريد مصر القيام به من أجل حماية مصالحها الوطنية تحت ستار التعاون الاستراتيجي معها .. عيون تراقبنا من اسرائيل ، أثيوبيا ، حدودنا الغربية ، السودان ، سوريا ، باب المندب في اليمن .. مصر تحت الميكروسكوب الأمني ، حركتها في الإقليم بحساب وببطء ، لا يتناسب مع سرعة تلاحق الأحداث والتحولات في مواقف الدول الفاعلة في الإقليم ، ما يلقى الضوء على انخراط المملكة العربية السعودية وإيران في اتفاق سياسي ، ينتهي إلى قبول المملكة بدور أمني لإيران في الخليج ،  وهو ما كانت تعارضه من قبل بتأييد مصري ورعاية أمريكية ، "وسخان" إسرائيلي ، دون مشورة القاهرة.. العجز، لا يترك لنا أوراقا قوية للعب مع الكبار على مائدة الأمن الإقليمي ، فاحترمنا أنفسنا وقررنا الانسحاب والإنزواء بعيدا .. إلى حائط الذكريات!
----------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم

مقالات اخرى للكاتب

إيديولوجيا العنف .. لم تعد فاتنة !





اعلان