26 - 04 - 2024

حول أزمة الديمقراطية في مصر: مناقشة لأطروحات إسماعيل الإسكندراني

حول أزمة الديمقراطية في مصر: مناقشة لأطروحات إسماعيل الإسكندراني

قدَّم الباحث المصري المتميز في علم الاجتماع السياسي إسماعيل الإسكندراني أطروحات مهمة في مسألة الديمقراطية وأزمة الانتقال الديمقراطي في مصر، نُشرت الخميس (23 فبراير) في جريدة السفير اللبنانية التي تصدر إلكترونياً، وتتناول الدراسة السؤال المحوري، والتأسيسي لمنظومة الاستبداد، حول "أهلية" أو "جدارة" أو "نضج" أو "استحقاق" الشعب المصري للديمقراطية؟ لم يكتف فيها المواقف المختلفة للنخب أو ما أسماه "المجتمعات" المصرية، وإنما راح يبحث في إجابات جذرية في البناء الاجتماعي والثقافي للمجتمع المصري، مستعيناً بخبرته وتدريبه الأكاديمي. 

تساعدنا هذه الدراسة على تفسير ما حدث بعد الانتفاضة الشعبية الكبرى في 25 يناير 2011، والارتداد السريع عن "صحوة" كان من شأنها أن تضع مصر على أعتاب التقدم، والأهم أن تعيننا على فهم التشويه الذي تعرضت له تلك الانتفاضة، التي ليست سوى حلقة من حلقات الثورة المصرية الممتدة من أجل "الحرية والكرامة الإنسانية" ومن أجل دستور يحقق الأمرين معاً.. وإذا ما نظرنا إلى 25 يناير والثورة المصرية الممتدة بأفق تاريخي يمكن القول بأنها امتداد لثورة 1919 الوطنية، والتي يمكن تصنيفها بدرجة كبيرة من الثقة والاطمئنان بأنها ثورة مدنية "ديمقراطية بامتياز" إذ رفع الثوار وطليعتهم في ذلك الوقت المبكر شعاري "الدستور والاستقلال"، وربطوا بين المطلبين، بل رأوا أن الحكم الدستوري مقدمة ضرورية للاستقلال، وأن استقلالا لا يصل بهم إلى حكم دستوري مدني، سيظل استقلالا منقوصاً. 

إن هذا الوعي التاريخي يَظهر، من حين لآخر وعلى فترات قد تكون متباعدة نسبياً، لكن سرعان ما ينحسر ويتراجع أمام بنية اجتماعية وثقافية شديدة التعقيد والتركيب، تُهيمن عليها قوى محافظة تدافع بشراسة عن مصالحها المادية التي تحميها بمنظومة فكرية مركبة، يلعب فيها الدين والأعراف الاجتماعية دوراً رئيسياً، مما يضع الدولة كتعبير عن السلطة الاجتماعية في أزمة تاريخية مزمنة وممتدة مع مشروع الحداثة وقيمها، وفي مقدمتها قيمة "المساواة" التي كان انتصارها تأكيداً لتغيرات اجتماعية جذرية شهدتها المجتمعات الغربية. هذا الوعي التاريخي للمصريين ظهر، لفترة قصيرة في يناير 2011، وعبر عنه الشعار الرئيسي المنادي "بالحرية والكرامة الإنسانية". إن تراجع هذا الشعار لصالح شعار "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية"، وتغييب الفكرة الأساسية التي تربط بين "الحرية" و"الكرامة الإنسانية"، كان مقدمة للتراجع أمام قوى الثورة المضادة، التي دخلت في سلسلة من التحالفات السياسية والاجتماعية المؤقتة من أجل الالتفاف على مطالب الحشود التي انتفضت، ثم تعرضت لقمع وحشي ومتواصل بلغ ذروته في فض اعتصام "محمد محمود" في نوفمبر 2011، والذي نظر إليه على أنه الموجة الثانية لثورة يناير.

في التناقض: الرئيسي والثانوي

إن التحليل الاجتماعي الثقافي الذي قدمه الإسكندراني (أو التحليل السوسيو-ثقافي بتعبيره) وكذلك التحليل الأنثروبولوجي، يضع أيادينا على مفاتيح مهمة لفهم الموقف الجذري للقوى الاجتماعية المهيمنة من مسألة الديمقراطية في مصر. إلا أن هذا التحليل سيظل منقوصاً ولن يكتمل إلا بتحليل للتناقضات الرئيسية الحاكمة للحالة المصرية وتمييزها عن تلك التناقضات الثانوية التي يمكن التعامل معها تكتيكياً. وغياب هذا البعد، تحديداً، أوقع الباحث في استنتاج يحتاج إلى مراجعة نقدية شديدة، عندما ذهب إلى القول إن "الإسلاميين صاروا العدو الرئيس للمؤسسة العسكرية والأمنية منذ 30 يونيو 2013"، الذي سبقه حديث عن تأييد جماهيري واسع نسبيا لهؤلاء الإسلاميين، وفي هذا القول مجافاة صارخة للواقع الذي نلمسه في مصر، حتى وإن احتدمت الخصومة واشتدت المواجهة بين فصيل أو آخر من فصائل الإسلاميين وبين النظام. ولن يكتمل التحليل إلا باستحضار الهوية التاريخية والحضارية للأمة المصرية، سواء في صياغتها في الدولة المصرية القديمة، أو في صياغتها الحديثة، التي كانت محصلة لتفاعل اجتماعي وثقافي احتضنه المصريون، مع الصدمة الحضارية التي أفاقوا عليها مع قدوم الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين.

لقد أظهرت الحملة، وما تبعها من تطورات، وعياً مبكراً لدى القوى الاجتماعية الصاعدة في مصر، والتي أخذت دفعة قوية من خلال مشروع محمد علي التحديثي، بالارتباط الوثيق بين فكرتي الحكم الدستوري والاستقلال الوطني. لكن عدم انتشار هذا الوعي وتغلغله في المجتمع المصري والذي أدى إلى انشطار المجتمع إلى قطاع حديث وآخر تقليدي، وما أوجده هذا الانشطار من ثنائيات أصابتنا على المستوى الفردي والاجتماعي بانفصام في الشخصية، نعاني منه بدرجات متفاوتة، والميل لأن يتخذ الصراع من أجل التغيير طابع صراع الأجيال. 

إن التراجع عن مشروع "مصر للمصريين" كمشروع للاستقلال الوطني ساهمت فيه نخب فكرية وثقافية كثيرة لا تنتمي لمصر انتماء عرقياً أو قومياً، وإنما انتمت إلى الفكرة المصرية انتماء ثقافياً وحضارياً، لصالح مشروع العروبة والإسلام السياسي، والذي تعهدته بريطانيا، القوة الاستعمارية التي كانت تحتل مصر، مستعينة بمثقفين من الشام وبروز تيار الجامعة الإسلامية، لتعيد صياغة الهوية المصرية على نحو يخدم مخططاتها الاستعمارية للمنطقة. هناك دراسات رصينة عن تلك المرحلة ترصد كيفية انتقال مصر من مشروعها الوطني إلى المشروع العروبي والإسلامي والذي حجب هوية مصر الضاربة في عمق التجربة التاريخية والحضارية للدولة المصرية القديمة وأعاد الهوية إلى مركباتها الاجتماعية وتكوينها الأنثروبولوجي على النحو الذي رصده الإسكندراني بوضوح في مقاله، لتفكيك الهوية الوطنية الجامعة للمصريين في صيغتها التي تجلت في ثورة 1919 وتجلت مرة أخرى في ميدان التحرير في عام 2011، حينما اجتمعت كل مركبات الهوية حول شعار "ارفع رأسك فوق.. انت مصري"، وحينما توارت كل الرايات لصالح العلم الوطني الذي التف حوله وفي ظله المصريون. 

لقد اكتسبت فكرة "عدم تأهل" المصريين للديمقراطية بعداً آخر بعد انتخابات عام 2012 البرلمانية والرئاسية والتي كانت حلقة من حلقات الثورة المضادة بدأت بالاستفتاء على تعديل الدستور في مارس 2011، وما تلاه من إعلانات دستورية تسعي لترسيخ التحولات في مركب السلطة القائم على التحالف بين المؤسسة العسكرية والأمنية وجماعة الإخوان المسلمين كفصيل متقدم لتيار الإسلام السياسي والذي برز للعيان بعد تنحي الرئيس حسني مبارك، وهو التحالف الذي تَشكَّل في سنوات حكم مبارك وبرعاية بعض أركان نظامه، أحياناً. ورغم الطابع المؤقت والتكتيكي لهذا التحالف، فإن عدم الالتفات إلى أن التناقض الرئيسي الحاكم للمعادلة السياسية في مصر هو بين طرفي التحالف في المرحلة الانتقالية من ناحية، وبين القوى المدنية والديمقراطية والليبرالية وأيضا قوى اليسار، من ناحية أخرى، وإن تأرجحت بعض فصائل اليسار بين النظام دفاعاً عن دولة متخيلة وبين التيار الإسلامي، بدافع التناقض مع قوى خارجية والدفاع عن الثقافة الوطنية، يوقعنا غالباً في استنتاجات خاطئة، وهو ما حدث في أطروحة الإسكندراني. رغم تساؤله الخاص بالموقف المدافع عن السلطات الاجتماعية والمعرفية المحافِظة، ومنها السلطة الدينية، التي تتخذ موقفاً معادياً للقيم العالمية (ما يتوافق عليه البشر في أنحاء الكوكب) والذي يرفع شعار "الخصوصية الثقافية". 

لقد تعرضت التحالفات المتبلورة حول هذا التناقض الرئيسي لقدر من التشوش واضطراب الرؤية نتيجة لتجربة الإخوان المسلمين القصيرة في الحكم والتي جاءت نتيجة لصراع على السلطة من ناحية، ولانتخابات مدارة في ظل وضع لم تتوافر فيه الشروط التي تضمن أن تكون الممارسة الانتخابية معبرة عن القيم الديمقراطية من خلال دستور مدني ديمقراطي ينفي عن الدولة هوية أو هويات دينية، تعبر عنها المادتان الثانية والثالثة، ويؤسس لفكرة الفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة والفصل بين "الدين والدولة" وليس بين الدين والسياسة، وهي ملاحظة ثاقبة وفي موضعها في مقال الإسكندراني، في نقده لما أسماه العلمانية الكلاسيكية. فالدولة يجب أن تلتزم الحياد وتقف على مسافة متساوية بين مواطنيها ولا تبدي انحيازا لجماعة على حساب الأخرى أو تبدي انحيازاً لاتباع دين ما. 

الحرية والكرامة والانتقال الديمقراطي

يلاحظ الإسكندراني أن التطور الديمقراطي في المجتمعات الأوروبية تم نتيجة تطور اجتماعي تزامن مع الثورة الصناعية وانتقال أوروبا من الإقطاع إلى الرأسمالية، واكبه الانتقال من المجتمع التراتبي الهرمي، إلى مجتمع قائم على المساواة بين أفراده أو على الأقل الانتقال إلى مجتمع يتيح فرصا متساوية للجميع، ويصون كرامته. فالحرية والكرامة الإنسانية والمساواة بين المواطنين أمام القانون شروط لازمة لأي نظام ديمقراطي، كما تعمل النظم الديمقراطية على حماية هذين المبدأين، لكنه يرى أن "المجتمعات" المصرية قائمة على تراتبية اجتماعية تحول دون تحقق المساواة بين المواطنين، من الناحية الفعلية على الأقل، وأن عدم المساواة هذا متحقق على المستوى القانوني في بعض الحالات. والتحليل الاجتماعي والأنثروبولوجي الذي يقدمه للمجتمعات المصرية والذي يشير إلى مستويات مختلفة من التفاوت الاجتماعي، المقترن أحيانا بانتماءات أو ولاءات خارجية، أو محكوم بانتماءات دينية، يشكل تحدياً أمام أي سعي لتحقيق الانتقال الديمقراطي في مصر. 

ويصل إلى استنتاج مهم هو أن الشعب المصري مؤلف من عدة "مجتمعات هرمية تتوارث الشرف والمكانة الاجتماعية" عبر انتماءات بيولوجية أو دينية، مكتسبة بالولادة أو عبر انتماءات طبقية يمكن اكتسابها من الناحية النظرية عبر التعليم أو اكتساب الثروة، لكن غالباً ما تكون متوارثة أيضا، من الناحية العملية، في ظل غياب إتاحة فرص متكافئة مما يؤدي إلى جمود الحراك الاجتماعي. لكن الأهم أن هذه المجتمعات الهرمية تميل لأن تضفي على الشرف والمكانة الاجتماعية قدسية، تبررها بنصوص دينية، وتعلي من قيمتهما على حساب قيمة الكرامة الإنسانية والمساواة بين البشر. والأهم انه يترتب على هذه التراتبية الاجتماعية غياب فرص الصعود الاجتماعي المرتبط بالإيمان بفكرة المساواة في الكرامة الإنسانية ويترتب عليه أيضاً عدم وجود مدلول تطبيقي حقيقي للنص القانوني أو الدستوري الملزِم بالمساواة بين المواطنين. ففكرة المساواة ليست قائمة في ضمائر القائمين على سلطات الدولة. وللأسف لم تنجح "ثورة" يناير في إنشاء واقعٍ اقتصادي اجتماعي جديدٍ، يفتح الباب لتغيير طبيعة العلاقات الهرمية في المجتمعات المصرية، التي ترسخت من خلال "دولة يحكمها منطق القبيلة ذات البطون والعشائر" تستدعي كل ما هو هرمي، وهذه النقطة إلى جانب نقاط أخرى تبرر التحفظ على وصف ما حدث في يناير 2011 بأنها ثورة، رغم نجاح الثوار في إنهاء مبدأ توارث منصب رأس السلطة الهرمية، مما يعكس قيمة ترسخت بعد يوليو 1952 على مستوى النخبة الحاكمة وعلى مستوى الوعي العام للمصريين. 

فالنتيجة الأهم، التي يختتم بها الإسكندراني مقاله، هي أن الانتقال إلى الديمقراطية يتطلب "تغييراً جذرياً عميقاً في العلاقات والقيم الاجتماعية الحاكمة للضمائر والسلوك، وأن الثورة الاجتماعية قد تكون شرطاَ ضروريا لحدوث مثل هذا الانتقال". وهذا الاستنتاج صحيح، غالباً، في ظل المجتمعات الجامدة التي لا تستجيب للتغيرات الجارية على المستوى الاجتماعي وتجري التغييرات اللازمة والمغلقة والمعزولة عن أي مؤثرات خارجية، فهل هذا هو الوضع في المجتمع المصري، أو بعبارة أخرى، هل فقدت النخبة الحاكمة في مصر القدرة على التجدد والاستجابة للتغير الاجتماعي؟ تجدر الإشارة، هنا، إلى أن كثيراً من المراقبين للحالة المصرية في عهد الرئيس حسني مبارك الذي حكم البلاد 30 عاماً كانوا لاحظوا أن الجمود بات سمة للنظام، وربما أن الثورة حدثت، بسبب شروعه في البدء في مشروع إصلاحي ضخم للاستجابة للتغيرات الداخلية والضغوط الخارجية مما أحدث توتراً داخل النخبة الحاكمة سمح بهذا التغيير.

لكن، يظل السؤال بخصوص إمكانية حدوث مثل هذا الانتقال عبر عملية جذرية للإصلاح، سؤالا مشروعاً، لاسيما في ضوء ثورة المعرفة والاتصالات التي تتيح للمجتمعات والشعوب الفرصة للاطلاع على تجارب وخبرات المجتمعات الأخرى. لكن هل يمكن لنظام سياسي يستند إلى بنية اجتماعية تراتبية وهرمية، أن يكون نظام إصلاحياً، وما هي حدود الإصلاح الذي يمكن أن يباشره النظام؟ كذلك من المشروع السؤال عما قد تؤدي إليه التحولات الجذرية التي شهدها المجتمع المصري في السنوات العشر الماضية على البنية الاجتماعية الهرمية، وهل سيصمد في ظل هذه التغييرات ذلك الإصرار على الدفاع عن هذه التراتبية بترديد مقولة أن "الشعب المصري غير مهيأ للديمقراطية" أو أنه سوف يسئ على الأرجح استخدام الانتخابات الحرة على الأرجح، إذا منح هذه الفرصة، وسيختار قوى قد تلحق أضراراً بالغة بالمكتسبات التي حققها المصريون على مدى قرن، منذ ثورة 1919 ودستور 1923، مثلما حدث في انتخابات 2011 البرلمانية وانتخابات 2012 الرئاسية. إن تفكيك هذه المقولة، يتطلب البدء في حوار جاد من أجل التوافق على الجوانب التي يجري غالباً تغييبها عن عمد في النظام الديمقراطي، الذي غالباً ما يجري اختزاله في مسألة الانتخابات واستبداد الأكثرية. 

ولعل أهم هذه المبادئ، والتي تشكل جوهر الديمقراطية، إلى جانب الكرامة الإنسانية، هو مبدأ حكم القانون، وتأكيد أن لا أحد فوق سلطة القانون مهما تكن مكانته الاجتماعية أو مركزه في السلطة، وكذلك مبدأ الفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة فيما بين السلطات الثلاث، ومبدأ المحاسبة، وأخيراً حماية قدرة المجتمع على تغيير السلطة التي لا يرضى عنها تغييراً سلمياً. وهذا التغيير السلمي تحديداً هو جوهر عملية الانتقال إلى الديمقراطية، وأن النظام الديمقراطي هو النظام الوحيد الذي يضمن الاستقرار والتكيف مع التغير، فالتغير سنة من سنن الكون.
------------------------------
بقلم: أشرف راضي 




مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023 | هل يؤسس الرد الإيراني لمعادلة جديدة في الصراع مع إسرائيل حقاً؟





اعلان