10 - 11 - 2024

انتخابات النقابة ومستقبل الصحافة في مصر

انتخابات النقابة ومستقبل الصحافة في مصر

نشأة الصحافة المصرية قامت على فلسفة بعيدة كل البعد عن منطق الدعاية، وشديدة الالتصاق بمنطق الحقيقة
- الصحافة الدعائية من أسوأ أشكال الصحافة، خصوصاً إذا قامت هذه الدعاية على أكاذيب وابتعدت عن الحقائق
- إذا فقدت النقابة استقلاليتها، سواء من خلال تبعيتها للحكومة أو لفصيل سياسي تفقد قدرتها على القيام بدورها
- مصالح ضيقة وخاصة أبقت عدداً كبيراً من الصحفيين الموهوبين خارج النقابة، وضمت أعضاء أقل موهبة وكفاءة
- توصيات عدم ترشح من يشغل منصبا في الصحف القومية لمنصب النقيب أو عضوية المجلس منعاً لتضارب المصالح، لكنه يحدث ويفقد المجلس استقلاليته
- أي استجابة لمحاولات التأثير على الصحفيين والتلاعب بإرادتهم ووعيهم من خلال بث روح الاستسلام أو التلويح بمكاسب ستكون له نتائج كارثية
- لا بد من تبديد وهم أن فوز من يصورون أنفسهم للناخبين بأنهم مرشحو الدولة مضمون بغض النظر عن سير الانتخابات واتجاهات التصويت 

الحال الذي وصلت إليه نقابة الصحفيين هو امتداد للحال الذي وصلت إليه الصحافة في مصر، والذي لا يختلف اثنان على أنه يشهد تراجعا مستمراً يهدد مهنةٍ يزيد عمرها عن قرنٍ وبضعة عقود. 

إن تاريخ الصحافة في مصر وأرشيفها الذي يجري سرقته، كان حرياً به أن يجعل القاهرة عاصمة للخبر وللصحافة بحق ، ومركزا لكل المنصات الإعلامية التي انتقلت شرقاً على ساحل الخليج، وتحديداً في دبي. 

ورغم تحذير البعض من أن المهنة تلفظ أنفاسها الأخيرة، إلا أن القائمين على وضع السياسات الإعلامية، إذا كانت هنالك سياسات إعلامية من الأصل، لا يأبهون لها ولا يسعون لإعادة تفكير ضرورية إذا كان لنا الحفاظ على واحدة من مصادر القوة الناعمة للدولة المصرية، التي استحقت ريادة المنطقة وعن جدارة من خلال ملف الثقافة والإعلام، وامتلاك أدوات للنفوذ والتأثير في المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، لتضيف لمصر قوة إلى قوتها وتحدد البوصلة لشعوب المنطقة.

ساهمت عوامل كثيرة في هذا التراجع، يساعد تحديدها وتحليلها في تغيير الوضع الراهن إذا توافرت الإرادة لذلك. والإرادة هنا ليست فقط إرادة القيادة السياسية، وإنما أيضاً إرادة المشتغلين في المهنة والمؤمنين برسالتها، وكذلك المؤمنين بأنها حق أساسي من حقوق المواطنين في العصر الحديث، وضرورة من ضرورات تنظيم الحياة في المجتمعات البشرية والدولة. 

لقد أدركت المجتمعات البشرية على مر العصور، وظيفة الإعلام وأهميته، ومارست أشكالا مختلفة من الاتصال والتواصل بين مكونات المجتمع، وتطورت هذه الأشكال بتطور المجتمعات وزيادة التفاعلات بينها. 

لقد صُدم المصريون مع قدوم الحملة الفرنسية من الفجوة الشاسعة التي تفصلهم عن العالم الخارجي، وهي فجوة معرفية في المقام الأول، وأدركوا عندما استفاقوا من تلك الصدمة بضرورة الانفتاح على العالم ومعرفة ما يدور فيه، والاستفادة من التقدم الحادث في أوروبا، لاستعادة وعيهم بهويتهم الوطنية المتميزة وبضرورة التحرر من الاحتلال العثماني وما ألحقه بالبلاد من تأخر وجمود، وكانت البداية إصرارهم على اختيار الوالي الذي يحكمهم ورفض الولاة المعينين من الباب العالي.

الحقيقة.. ورسالة الصحافة

يمكن التأريخ لنشأة الصحافة المصرية في عصر محمد علي، ويلاحظ أن هذه النشأة ارتبطت بمساعي التجديد الإداري والاقتصادي للبلاد وإدراك والي مصر - محمد علي – ضرورتها لمتابعة ما يحدث في الأقاليم وفي المصالح، وأن شؤون الدولة في حاجة إلى طريقة جديدة لإدارتها، تستند إلى الحصول على معلومات وحقائق تمكنه من متابعة أعمال مديري المديريات، ومن ثم فإن نشأة الصحافة المصرية قامت على فلسفة بعيدة كل البعد عن منطق الدعاية، وشديدة الالتصاق بمنطق الحقيقة، لتقترب هذه الصحافة الناشئة بالفلسفة الحديثة للعمل الصحفي، والتي تنظر إلى الصحافة باعتبارها المهنة التي تقوم على جمع وتحليل الأخبار والتحقق من مصداقيتها وتقديمها للجمهور. وتجسد ذلك من خلال صحيفة "جورنال الخديوي" التي نشأت في عام 1826، وصدرت باللغتين العربية والتركية. 

ونشأت مع هذه الصحيفة وظيفة "محرر الأخبار" الذي يقوم بجمع التقارير من الأقاليم وعرضها على الباشا من خلال الجورنال ، معتمدا على مجموعة من الكُتَّاب. 

لقد أدرك الباشا ورجاله أهمية الصحافة كمكون من مكونات بناء الدولة الحديثة، قبل ما يقرب من قرنين من الزمان، ووضع الأساس للمهنة التي جذبت كوادر لها من خارج مصر، لاسيما من الشام، الذين أسسوا عدداً من الصحف والمؤسسات التي لا يزال بعضها قائماً. والأهم أن هؤلاء أدركوا أهمية أن يكون الهدف الرئيسي للصحافة هو قول الحقيقة والتنوير، وأن الصحافة بهذا المعنى أحد المؤشرات الرئيسية على تحضر الدولة.

لقد تطورت الصحافة مع تطور المجتمعات بحيث أصبحت ظاهرة اجتماعية حديثة، مهمتها الأساسية هي التعريف بمستجدات الأحداث على الساحتين المحلية والعالمية. وأصبحت الصحافة مرآة للمجتمع، وهي المصدر الرئيس للتعرف على اتجاهات الرأي وتفضيلات المواطنين، وأيضا مصدرا رئيسا لصناعة الرأي العام وتوجيهه. وأدركت العلوم الاجتماعية هذه الحقيقة مبكراً ، فطورت أدوات ومناهج لقياس تلك التوجهات من خلال مناهج تحليل المضمون وتحليل الخطاب. 

كذلك أصبحت أداة مهمة من أدوات الحوار على كافة المستويات وبين مختلف مكونات المجتمع، كما أصبحت أداة دعائية مهمة، وإن كانت الصحافة الدعائية من أسوأ أشكال الصحافة، خصوصاً إذا قامت هذه الدعاية على أكاذيب وابتعدت عن الحقائق. 

لكن مع تطور وسائل الإعلام وظهور وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ثم الانتقال إلى الإعلام الإلكتروني البوابات والمنصات الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعية بكل ما تحمله من إمكانات وقدرات كاملة، حدث خلط بين صناعة المحتوى ووسيلة نشر هذا المحتوى ونقله، وظهرت أجيال جديدة من المحررين العاملين في هذه المواقع والمنصات، أثرت على مهنة الصحافة لأن القائمين على المهنة الملتزمين بفكرة الصحافة المطبوعة تقاعسوا عن مواكبة هذا التطور، كذلك أدى التمييز الذي دأبت عليه النقابة بين الصحفيين والإعلاميين إلى تعميق المشكلة، التي من المتوقع أن تتفاقم مع التوسع في الاعتماد على وسائل التواصل الحديثة، والتراجع التدريجي للصحافة المطبوعة.

فراغ وأخبار ملفقة

كان لهذا التطور تأثير خطير على الركن الرئيسي في مهنة الصحافة، وأدى الموقف الجامد من قبل الصحفيين، والتوجس من المنصات الإعلامية الجديدة إلى فراغ كبير ملأته أشكال جديدة من العمل الصحفي من خلال ما يعرف باسم "صحافة المواطن" الأمر الذي فتح الباب أمام سوء استغلال هذه المنصات الجديدة في ظاهرة "الأخبار والتقارير" المزيفة والملفقة التي تسعى للتأثير على الرأي العام وتوجيهه عبر تقنيات معقدة لممارسة أشكال جديدة من التضليل بغرض توجيه الرأي العام لاختيارات قد تكون ضد مصالحه. 

وقد تستغل في عملية التزييف هذه شعارات لمنصات إعلامية ووكالات إخبارية لها مستوى كبير من المصداقية وعلى نحو يضرها. كذلك تعرضت القواعد الأخلاقية للمهنة ومستوى الاحترافية لأضرار بالغة على نحو يستدعي معه وقفة. ومن المتوقع أن يكون لنقابة الصحفيين دور رئيسي في تصحيح هذا الوضع. 

إصلاح النقابة كمقدمة لإصلاح الصحافة والإعلام

المهمة الأساسية والغرض الرئيسي لأي نقابة مهنية هي الدفاع عن المهنة والارتقاء بمستواها وتطويرها، وهذا شرط أساسي للدفاع عن العاملين في هذه المهنة وحمايتهم والدفاع عن حقوقهم والتصدي لانتهاك هذه الحقوق خصوصاً إذا ارتبطت تلك الانتهاكات بسبب ممارسة وظيفتهم ودورهم في المجتمع. ولكي تتمكن النقابة من أداء هذا الدور فبجب أن تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية في ممارسة أنشطتها والقيام بدورها. 

وإذا فقدت النقابة استقلاليتها، سواء من خلال تبعيتها المباشرة للحكومة أو للمؤسسات الصحفية أو حتى لهذا الفصيل السياسي أو ذاك، فإنها تفقد بذلك مقوماً أساسياً من مقوماتها، وتفقد قدرتها على القيام بدورها الرئيس في الارتقاء بمستوي المهنة والدفاع عن حقوق المشتغلين فيها. بل تتأثر النقابة بالتراجع الذي تشهده المهنة سواء على مستوى الأخلاقيات أو المهنية. 

لم يكن هذا التدهور منفصلا عن تراجع اهتمام الصحافة بخدمة الممول الأول والرئيسي الذي يضمن للصحافة استقلاليتها وحريتها، ألا وهو القاريء الذي يشتري الجريدة أو يشترك هذا الموقع أو ذاك. وهو يفعل ذلك إذا وجد الخدمة التي يحتاجها من هذه المطبوعة أو تلك، أو من خلال هذه المنصة أو تلك. بالتأكيد، إن القيود المفروضة على وسائل الإعلام دوراً رئيسياً في تراجع اهتمام القارئ بشراء صحف لا تقدم خدمة تستحق. وامتد التحول الذي شهدته الصحافة في مصر، والذي بدأ مع إعطاء الأولوية لنوعية جديدة من الممولين عبر الإعلانات إلى بروز صحافة الإعلان كبديل لصحافة الإعلام، إلى النقابة وممارسة العمل النقابي، وكان لهذا تأثير سلبي، ألحق ضرراً بالغاً بدور النقابة ورسالتها الأساسية في الدفاع عن ممارسة المهنة.

لهذه المشكلة جوانب، لعل أبرزها أن عدداً كبيراً من الصحفيين الموهوبين، لم يتمكنوا من الحصول على عضوية النقابة الأمر الذي يعرضهم لمخاطر شديدة في ممارسة عملهم. ورغم التطوير الذي استحدثته النقابة مؤخراُ في وضع ضوابط تضمن ضم من يمارسون الصحافة، إلا أنه لم يتم الالتزام بتطبيق هذه الضوابط، وهناك حديث متواتر في أوساط الصحفيين عن اعتبارات انتخابية وأخرى تتعلق بمصالح ضيقة وخاصة، أبقت عدداً كبيراً من الصحفيين الموهوبين خارج النقابة، وضمت عدداً كبيراً من الأعضاء الأقل موهبة وكفاءة، ولم تهتم النقابة بمتابعة تدريبهم والضغط على المؤسسات كي تهتم بالجانب التدريبي للعاملين في الصحافة، ولم تُطور آليات تضمن مراقبة الالتزام بمواثيق الشرف والقواعد الأخلاقية لممارسة المهنة. 

ومن الجوانب الأخرى لأزمة المهنة، هو عدم التصدي بالحزم والجدية الكافيين للانتهاك الأبرز، المتمثل فيما يعرف بتضارب المصالح أو تعارضها. إن هذه النقطة تحديداً هي النقطة الأبرز في مدونات السلوك للمؤسسات الإعلامية والصحفية الكبرى في العالم، وهي الضمانة الأساسية لاستقلالية الصحافة ومصداقيتها وممارسة دورها كأداة رئيسية للرقابة الشعبية المستمرة على أعمال السلطة بمكوناتها الثلاثة، وهو الأمر الذي يجعل الصحافة وبحق سلطة رابعة. 

فعلى الرغم من وجود توصية واضحة ومتكررة للجمعية العمومية للصحفيين بعدم ترشح أي صحفي يشغل منصبا في الصحف القومية المملوكة للشعب لمنصب النقيب أو عضوية مجلس النقابة، منعاً لتضارب المصالح، نجد أن الحصول على منصب من هذه المناصب غالباً ما يتم استغلاله للحصول على منصب في مؤسسات صحفية أو هيئات إعلامية، الأمر الذي يفقد عضو المجلس استقلاليته ويؤثر على قدرته في الدفاع عن المهنة وعن أوضاع الصحفيين، هذا بخلاف ترشح بعض رؤساء التحرير أو رؤساء مجالس إدارة الصحف لمناصب نقابية واستغلال مناصبهم تلك للتأثير على إرادة الصحفيين.

إن معالجة هذه المشكلة مرهون بشكل أساسي بوعي الصحفيين وبحرصهم على فرض ما أوصت به الجمعية العمومية وبإدراكهم أن هذا الوعي والاستقلالية هو نقطة الانطلاق للإصلاح المنشود الذي يحافظ على مهنة الصحافة ويضمن لها مستقبلاً مزدهراً وواعداً يعيد للصحافة المصرية مكانتها ودورها على المستويين الإقليمي والدولي ويعيد لها دورها المستقل والريادي على المستوى الوطني. 

إن الإرادة المفقودة والمنشودة، هي إرادة الصحفيين في المقام الأول، وأي استجابة لمحاولات التأثير على الصحفيين والتلاعب بإرادتهم ووعيهم من خلال بث روح الاستسلام أو التلويح لهم بمكاسب تمتد اليد اليسرى لانتزاعها منهم حتى قبل أن تمتد بها اليد اليمنى، وتحويل حقوقهم المكتسبة، وهي أقل بكثير من حقوقهم الواجبة، إلى نوع الرشوة للتأثير على إرادتهم وتصويرها على أنها منحة وليست حقا، ستكون له نتائج كارثية في وقت تتزايد فيه الضغوط الداخلية والخارجية على المهنة. ولن يجد الصحفيون العاملون في الصحف القومية المهددة بالتصفية، بعد ما لحق بها بسبب سياسات هوت بأرقام ونسب التوزيع وحولتها إلى مؤسسات خاسرة، نقابة قادرة على ممارسة مهمتها الأساسية في الدفاع عن حقوقهم. 

وسيكون لهذا الأمر انعكاسات بالغة على الصحف المستقلة. ولا أريد التطرق هنا للحديث عن مآسي الصحفيين في الصحف الحزبية. وإذا لم نواجه هذه الحقائق ونظهر إرادتنا في هذه الانتخابات سنجد أنفسنا في مواجهتها مستقبلا ولكن من موقع الضعف لا موقع القوة. لا بد من تبديد وهم أن المناصب مضمونة لمن يصورون أنفسهم للناخبين بأنهم مرشحو الدولة وبأن فوزهم بالمنصب مضمون بغض النظر عن سير الانتخابات واتجاهات التصويت كي لا تتكرر ظاهرة المرشح الذي قال إنه لا يحتاج أصوات الصحفيين لاعتقاده بأن فوزه مضمون بناء على وعود لا نعلم عنها شيئاً.

إن مجلس النقابة القادم، وكذلك نقيب الصحفيين، عليهم أعباء كثيرةً، للدفاع عن المؤسسات الصحفية وعن الصحفيين والمهنة أولاً، ووضع البرامج والخطط للتطوير، على مستوى التشريعات وظروف العمل الكريمة وكذلك على مستوى التدريب ومواكبة التغييرات التي باتت تتطلب ضرورة التفكير في تعريف من هو الصحفي، وهي مسألة ضرورية لضبط أداء الإعلام المصري بشكل عام في ظل التغيرات السريعة والمتلاحقة في صناعة المحتوى ووسائل تقديمه، وهي مسألة على قدر كبير من الخطورة لضمان فاعلية الإعلام الوطني في أداء دوره ورسالته وتمكين المواطن من ممارسة حق من حقوقه الأساسية. 

إن ملف الصحافة والإعلام وكذلك انتخابات النقابة يجب أن يكونا مقدمة لإعادة نظر شاملة فيما آلت إليه المهنة وأوضاع الصحفيين، والبدء في حوار منظم على مستوى الجماعة الصحفية لإصلاح ما يمكن إصلاحه وتغيير ما يجب تغييره قبل فوات الأوان، فمصير الصحافة ومستقبلها بات اليوم بيد الصحفيين إذا امتلكوا إرادتهم وكان قرارهم نابع من تقدير لمصالحهم الآنية والمستقبلية، وعلينا أن ندرك أن إصلاح الصحافة هو مقدمة لإصلاح الإعلام، وهما بدورهما مقدمة لإصلاحات جذرية طال انتظارها ويحتاجها المجتمع بشدة.
--------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

سباق على ترتيب الأوراق في الشرق الأوسط بعد فوز ترامب