29 - 03 - 2024

انتخابات فارقة ومصيرية

انتخابات فارقة ومصيرية

شاع اعتقاد عام بخصوص انتخابات نقابة الصحفيين، اعتقد أن الوقت قد حان لتحري دفته ومراجعته، بل وتغيير الصورة التي استقرت في أذهان كثيرين من شباب الصحفيين ، وربما طالت بعض شيوخهم أيضاً ، أوصلت الانتخابات الراهنة على منصب النقيب إلى هذه النقطة التي لو مضت كما أٌريد لها أن تمضي ستقضي على ما تبقى من أمل وستتحقق كثير من النبوءات التي ذكرها الصديق العزيز سعد القرش في كتابه المهم الصادر في عام 2020 بعنوان "قبل تشييع الجنازة: في وداع مهنة الصحافة". وأخشى أن يعطي عزوف عدد من الوجوه البارزة عن خوض الانتخابات رسالة خاطئة لجموع الصحفيين، لاسيما الصحفيون الشبان، وأيضا لدوائر أخرى تخطط للإجهاز على مهنة الصحافة التي نشأت في مصر وازدهرت في نهاية القرن التاسع عشر، بحيث باتت مصر عاصمة الصحافة في المنطقة، وكانت المهنة من أهم ركائز قوة مصر وريادتها الإقليمية بل والعالمية، ودوائر ثالثة تخشى الحرية التي تفضح ممارساتها الفاسدة خلف الكواليس، وربما جسد الدور الذي لعبه عادل إمام في مسلسل "عوالم خفية" الذي أذيع في عام 2018، الدور الذي ينبغي أن يلعبه الشخص الذي اختار أن يمتهن مهنة اشتهرت بأنها "مهنة المتاعب" ورسمت صورة للصحفي المؤمن برسالة الصحافة ومهمتها وخطورتها، والأهم أنها الأداة الأساسية التي تُمكن المواطنين من ممارسة حق أصيل من حقوقهم الأساسية وهو حق المعرفة والإعلام، إلى جانب ما تقوم به الصحافة من مهام أخرى في توعية الجمهور ونقل المعلومات عما يدور في العالم وفي الداخل، وأيضاً دورها التنويري والتنموي كواحدة من أدوات التواصل في المجتمعات.

بين الصحافة والسياسة

رغم أن السياسة كامنة في تفاصيل كل نشاط عام ينخرط فيه الفرد وفي كل شأن من شؤون المجتمع، إلا أن ارتباطها بمهنة الصحافة أعمق على نحو لا يمكن لأي منهما أن يستقل عن الآخر. ولهذا السبب احتل مقر نقابة الصحفيين موقعاً مميزا في كل نشاط عام ارتبط بقضية محورية من قضايا الوطن، ولهذا السبب أيضاً تتعرض المهنة لكل ما تتعرض له من هجوم ويتعرض الصحفيون لهذا الكم من العنت على المستوى الجماعي، ولهذا السبب أيضا ظل مبنى النقابة محجوباً، ومنذ سنوات، بما يشبه الكفن بدعوى تجديد واجهة مسجل عليها جانب من وقائع فترة من تاريخنا الأحدث ، تؤرق كثيرين من أصحاب النفوذ الذين يعلون من شأن مصالحهم الضيقة الخاصة على المصالح العامة والمرسلة للعوام من المواطنين أبناء هذا البلد. 

وازدادت هذه الهجمة على الصحافة والصحفيين، بشكل خاص، في أعقاب إعلان قطاعات من المصريين عن موقفهم المعارض في قضية "تيران وصنافير"، فقد انتبه بعض من تؤرقهم الحريات والأصوات المعارضة إلى الدور الخطير الذي يمكن أن تلعبه نقابة الصحفيين والصحفيون في واحدة من جمعياتهم العمومية الحقيقية النادرة دفاعاً عن مهنة هي عنوان للحريات العامة، لاسيما حرية الرأي والتعبير. وبينما يؤمن الصحفيون بخطورة مهنتهم ومحورية رسالتهم، يضيق القائمون على شؤون الحكم والقابضون على مراكز صنع القرار من المهنة ومن حرية الرأي والتعبير وحرية تداول المعلومات، غافلين عن حقيقة أن المواطنين سيلجأون لوسائل ومنصات إعلامية أخرى للحصول على الخبر والمعلومة، وغافلين أيضاً عن النتائج الخطيرة التي قد تترتب على غياب الصحافة الوطنية الثرية بتنوعها على الأمن القومي والوطني، حين يُترك المواطنون عرضة لوسائل إعلام أخرى لفقدان ثقتهم في الإعلام الوطني الذي لا يقدم لهم شيئاً في زمن اختلطت فيه المعلومات والأخبار الزائفة بالحقيقة. 

من هنا، تكتسب انتخابات نقابة الصحفيين أهمية قصوى. إذ استيقظ الصحفيون على واقع جديد تماماً لم يألفوه من قبل، واقع ترسخ عبر سلسلة من الخطوات أُدمجت خلالها قطاعات من الصحافة في المنظومة ودفعت قطاعاً من الصحفيين إلى أن ينتهج نهج إعلاء المصالح الشخصية الضيقة على الصالح العام، وحرفت الصحافة بأشكالها المتنوعة، من صحافة قومية ومستقلة وحزبية عن مسارها، مع وجود استثناءات محاصرة ويجري تضييق الخناق عليها تمهيداً للإجهاز عليها بشكل كامل. وعلى مستوى الجمهور العام من الصحفيين جرى ترسيخ فكرة تتمحور حول عدد من القضايا الفئوية والمعيشية، والتي باتت عنواناً للعمل النقابي، ومحاصرة الوجوه البارزة من الصحفيين النقابيين وغير النقابيين المعنيين بالشأن العام بزعم أن الانخراط في شؤون السياسة يفسد المكتسبات التي قد يحصل عليها الصحفيون، وفي مقدمتها بدل التكنولوجيا المقرر للصحفيين كحق يعينهم على القيام بأداء مهمتهم، والذي يتعامل معه بعض المرشحين لمنصب النقيب على أنه منحة يجلبها للصحفيين وليس كجزء يسير من حقهم يعوضهم عن جانب من المشاق التي يتكبدونها من أجل أداء رسالتهم. ومنها أيضا خدمات باتت متوافرة في كثير من النقابات المهنية الأخرى، وفي غمرة، ذلك ضاع الدور الرئيسي الذي تلعبه النقابات المهنية والمتمثل في الارتقاء بمستوى المهنة والدفاع عن العاملين فيها وحقوقهم، خصوصاً إذا تعرضوا لانتهاكات بسبب ممارستهم لعملهم، خصوصاً إذا تقاطع عملهم أو تعارض مع دوائر نافذة في السلطة والدولة. 

بسبب هذا الأداء من قبل بعض المرشحين لمنصب النقيب وبسبب جعل رفع قيمة "بدل التكنولوجيا" محور حملتهم الانتخابية، وبسبب اعتماد عدد متزايد من الصحفيين على هذا البدل لدعم دخولهم الآخذة في التراجع، أصبحت المهنة في خطر، يمس الجميع، ولا سبيل للتعامل مع هذا الخطر وصده إلا باستعادة النقابة دورها ومكانتها، والدفاع عن الصحفيين الذين يدفعون ثمناً من حريتهم بسبب ممارسة مهنة هي بالضرورة مهنة للحريات والرأي.

إننا بحاجة ماسة لتغيير هذه الصورة التي رسخت في أذهان كثير من أبناء المهنة أولاً، وكان لها تأثير ضار على صورة المهنة بشكل عام في أعين المجتمع، والتي ساعدت في تراجع مكانتها وتأثيرها ودورها في المجتمع. وزاد من حجم التحديات التي تواجهها المهنة التي باتت مهددة كي تستعيد النقابة مكانتها ودورها في الارتقاء بمهنة العمل الصحفي والحفاظ على دوره ومكانته المحورية في النشاط الإعلامي في صوره المختلفة في ظل التحولات الناجمة عن ثورة الاتصالات وظهور أشكال ومنافذ جديدة لعرض المحتوى التحريري والصحفي. إن التكنولوجيا تفرض تحديات جديدة يتعين على نقابة الصحفيين مواكبتها وتوفير برامج التدريب والتأهيل اللازمة للارتقاء بالمهنية والحفاظ على مستواها الاحترافي وأخلاقياتها، واستحداث ما يلزم من لجان وشعب وأنشطة نقابية، وضمان رقي العاملين في المهنة على المستوى الاحترافي والمهني والأخلاقي في ظل التوسع غير المسبوق في أعداد أعضاء النقابة وفي منافذ النشر ومنصاته من صحافة مطبوعة ومسموعة ومرئية. 

إن هذا التغير مرهون بتطوير حوار بين الأجيال المختلفة من الصحفيين، ومرهون أيضا بأن تتولى شؤون النقابة وجوه جديدة كي يمكن التحرر من أساليب التفكير وآليات العمل التي كانت مسؤولة عن القدر الأكبر من التراجع الذي وصلنا إليه، والتي تبارت في التخلي قطعة - قطعة عن استقلالية النقابة واستقلالية الصحفيين وانتهاك حقوقهم وكرامتهم. لقد ظهر لدينا جيل من القيادات النقابية التي اتخذت من العمل النقابي وسيلة لتعظيم مصالحها الخاصة وشغلت مواقع ومناصب ومهام تغيبها عن النقابة وشؤونها على نحو لا تجد معه ما يكفي من الوقت والمجهود للوفاء بالمهام التي انتخبوا لإنجازها، فكان لهذا تأثير بالغ الضرر على انتظام عمل مجلس النقابة على مستوى الاجتماعات والمتابعة والمسؤوليات التي يتعين عليهم تحملها. ومن هنا لا بد من تأكيد توصية الجمعية العمومية بضرورة تفرغ النقيب وأعضاء المجلس للعمل النقابي فهم منتخبون لهذا الغرض أساساً. ومن شأن الالتزام بهذه التوصية أن يعزز من استقلالية النقابة ومجلسها ويقلل من مساحة تضارب المصالح وتعارضها. 

لفتة إصلاحية مؤثرة

إن انتخابات نقابة الصحفيين، بشكل عام، ليست حدثاً عادياً أو عابراً، وإنما هي حدث مهم يتابعه العالم ويعطي مؤشرات على توجهات النظام ونواياه الإصلاحية فيما يخص الحريات العامة، وفي مقدمتها حرية التعبير والرأي، وهو ملف يحظى باهتمام كبير لدى دوائر كثيرة في المنطقة والعالم. وتحظى الانتخابات المقبلة بأهمية خاصة إذ أنها تأتي في لحظة دقيقة مع الاستعداد لبدء حوار وطني طال انتظاره وتنعقد عليه آمال كبيرة في فتح المجال العام والشروع في إصلاحات سياسية وتشريعية حان وقتها. ويمكن أن تكون انتخابات نقابة الصحفيين الراهنة فرصة لتوجيه رسالة قوية ومؤثرة لجميع الأطراف في الداخل والخارج بأن مصر ماضية في الطريق لاستعادة ريادتها وعلى وجود إدراك متنام لدى القيادة السياسية للارتباط بين الحريات العامة وحرية الصحافة والإعلام وريادة مصر إقليمياً ودولياً، وأن تعطي هذه الانتخابات رسالة تساهم في تعديل الصورة السلبية التي لحقت بسمعة مصر نتيجة لسياسات دفعت إليها اعتبارات ولّت، وتشير إلى التزام سينسحب على أي انتخابات عامة مقبلة، بما في ذلك انتخابات الرئاسة 2024.

ربما كانت هناك مؤشرات أولية على المضي قدما في هذا الطريق، ظهرت مع انتخابات نقابة المهندسين، التي شهدت منافسة محتدمة بين المرشحين المتنافسين على منصب النقيب وعلى عضوية المجلس، فعبرت نتائج الانتخابات عن تصويت حر عكس إرادة المهندسين، ووقوف النظام وهيئاته على الحياد، الأمر الذي ضمن منافسة حرة ونزيهة بين المرشحين. من الأفضل، تأكيد هذه الرسالة مرة أخرى في انتخابات الصحفيين، التي تأتي بعد انتخابات المحامين التي غاب فيها عنصر المنافسة بين مرشحين أقوياء، لكنها مهدت الطريق لصحوة للمحامين للدفاع عن حقوقهم. ولا بد هنا من تأكيد أن وقوف الدولة وأجهزتها على الحياد بين المرشحين المتنافسين في انتخابات نقابة الصحفيين وعدم التهاون مع أي مرشح يزج باسم الدولة ومؤسساتها في المعركة الانتخابية للتأثير في إرادة الصحفيين خطوة مهمة وضرورية في الطريق إلى إصلاح أوضاعنا المهنية. 

إن انتخابات الصحفيين ومعركتها تفتح للنقاش العام ملفات كثيرة سواء فيما يتعلق بوضع المؤسسات الصحفية العامة أو الصحف الخاصة والمستقلة، أو فيما يتعلق بتراجع مستوى المهنية، وضعف تأثير الصحف على الرأي العام لتراجعها عن دورها في أن تكون الوسيلة الأساسية لحصول المواطن على المعلومة والخبر والاطلاع على تنوع الآراء الذي يساعده على فهم ما يجري والتفاعل معه تفاعلا إيجابياً وبناء، وكذلك هناك الجوانب المتعلقة بأوضاع الصحفيين ومشاكلهم سواء مع إدارات الصحف التي يعملون فيها أو مع حقهم وحريتهم في الحصول على المعلومات وممارسة عملهم بحرية ومهنية. والانتخابات مناسبة لبدء حوار عام حر ومفتوح حول هذه القضايا والمشكلات وتقديم اقتراحات وتصورات لمعالجتها والتعامل معها.
----------------------------------
بقلم: أشرف راضي 

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023.. النزوح الصامت ومعركة خان يونس وتوسيع الحرب إلى رفح





اعلان