19 - 04 - 2024

تونس .. كيف نقرأ الاعتقالات والإقالات بعد الانتخابات الفاشلة؟

تونس .. كيف نقرأ الاعتقالات والإقالات بعد الانتخابات الفاشلة؟

طوال يوم أمس السبت 11 فبراير/ فيفري 2023، عاش التونسيون على وقع أنباء إيقافات/ اعتقالات بدت في البداية مثيرة محيرة غير مؤكدة ، ثم مدهشة، وربما مخيفة.

 وقبل أيام معدودة وفي الفترة القليلة الفاصلة بين هذه الاعتقالات ويوم29 يناير الماضي، أقدم الرئيس "قيس سعيد" على إصدار مراسيم متتالية بإقالة ثلاثة من وزرائه ، الفلاحة والتربية .. وأخيرا الشئون الخارجية والتونسيين بالخارج ، وهذا في بيانات تحمل كلمات موجزة وبدون إعلان أسباب أو تفسير، وعلى نحو يحيى بالجمهورية التونسية ماكان ويعيدها إلى مربع دول الاستبداد والحاكم المطلق الصلاحيات في عالمنا العربي. وهذا ما لم يكن ممكنا في تونس ما قبل 25 جويلية / يوليو 2021 حيث كان إعفاء الوزراء وتكليفهم يناقش باستفاضة في البرلمان وأمام الرأي العام. وجاءت هذه الإقالات الثلاثة بعدما تأكد للكافة مقاطعة الأغلبية الساحقة للناخبين للجولة الثانية لانتخابات تشريعية أعادت "برلمان الرئيس"، ولكن بلا حزب حاكم كما كان قبل الثورة.    

  مسكينة تونس.. انقلب رئيسها المنتخب ديمقراطيا في أكتوبر 2019 ، وباشراف هيئة مستقلة منتخبة من البرلمان على البرلمان المنتخب نفسه ومعه وفي ذات اليوم. وانقلب أيضا على الهيئات الدستورية المستقلة لمكافحة الفساد والانتخابات والمجلس الأعلى المنتخب للقضاء، وقرر معززا بقوى ورموز نظام ما قبل الثورة وداعميها الإقليميين والدوليين تقويض مكتسبات الحريات والحقوق التي تحققت على مدى 10 سنوات بعد خلع وفرار الطاغية السابق "بن على". بل وأصبحت الجمهورية التونسية تعرف سيلا من المحاكمات العسكرية للمدنيين المعارضين. 

 التطورات المتسارعة اللاحقة على انتخابات "برلمان الرئيس" يوم 29 يناير 2023 يمكن قراءتها على محملين اثنين: الأول أن "سعيد" يندفع في أزمته وعزلته وفشله بالبلاد إلى الهاوية، والمزيد من التردي السياسي والاجتماعي والاقتصادي المعيشي، أو أن "السيد الرئيس" ـ وفي ظل ضعف معارضيه وانقسامهم ما يمكنه من الاستمرار في مشروعه بدون من يوقفه وما اتضح من هشاشة المجتمع المدني(*) ـ يمضى في طريق المزيد من الاستبداد والتسلط والقمع. وقد يصح القبول بالأمرين معا، وفي سياق ما يحفظه لنا التاريخ عن سير الطغاة، و حيث يتحول الطاغية إلى خائف ومخيف في الآن نفسه.    

  وفي إيجاز نسرد بعض ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيد بين 29 يناير و 11 فبراير 2023 في هذا الطريق :

ـ 31 يناير .. يسخر من عزوف الناخبين وهو يبرر فشل مشروعه،  قائلا إن التونسيين أصبحوا لا يثقون في مؤسسة البرلمان ولا حاجة لهم بها. و يعلن تمديد حالة الطوارئ في كافة أنحاء البلاد حتى نهاية العام 2023، وبعدما كان يجرى تمديدها شهرا فشهر. ويهدد معارضيه، ويضم إليهم اتحاد الشغل كبرى المنظمات النقابية وأعرقها من ثكنة "الحرس الوطني" بالعونية. و"الحرس الوطني" بمثابة قوة الأمن المسلحة الرئيسية المنتشرة في عموم تونس وولاياتها (محافظاتها). وتعتقل وزارة الداخلية الكاتب العام لنقابة الطرقات السيارة "أنيس الكعبي" التابعة للاتحاد بسبب الإضراب، الذي دعت اليه ونظمته النقابة بصورة قانونية يومي 30 و31 يناير. وهي سابقة خطيرة في علاقة سلطة الدولة بالاتحاد والعمل النقابي والإضرابات منذ الثورة التونسية.

ـ 31 يناير أيضا .. منظمة الشفافية العالمية تعلن تراجع تونس في مكافحة الفساد لتتقهقر أربع مراتب ، وهو أسوأ ترتيب لها منذ 7 سنوات.  وتقول في تقريرها السنوي لعام 2023 أن إغلاق الرئيس "قيس سعيد" مقرات الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أدى لعزوف الموظفين العمومين عن الإبلاغ عن وقائعه، وتهديد الشهود والمبلغين، وتنتقد تجميده وحكومته تطبيق قانون تضارب المصالح وقوانين أخرى جاءت بعد الثورة تلزم كبار المسئولين بالتصريح دوريا بالذمة المالية، وبمراجعتها من العديد من الجهات الرقابية والبرلمان . وكانت منظمة "أنا يقظ" التونسية ـ وهي واحدة من أبرز مكونات المجتمع المدني بعد الثورة ـ  قد حذرت قبل أيام من تخلف الرئيس "قيس سعيد" نفسه من التصريح بمكاسبه، و بالمخالفة للقانون. 

ـ 2 فبراير .. صحيفة اتحاد الشغل "الشعب" تصدر في موعدها الأسبوعي حاملة مانشيت أحمر اللون من كلمتين: "إعلان حرب"، وفوقه عبارة : "خطاب ثكنة العوينة"، وتحته :" إضراب جديد في الأوتوروت (الطرق السريعة) ومساندة واسعة من مختلف  القطاعات والجهات: هيئة إدارية وطنية طارئة. وعلما بأن قيادة الاتحاد ساندت اجراءات الرئيس "سعيد " في 25 جويلية 2021 وفي العديد مما ترتب عليها. 

ـ 3 فبراير .. "سامي الطاهري" الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل يصرح على هامش اجتماع الهيئة الادارية للاتحاد بمدينة "الحمامات"  بأن عناصر أمنية حضرت إلى قاعة الاجتماع للمرة الأولى منذ عام  2011 (عام الثورة وبدء الانتقال إلى الديمقراطية) . ويوجه رسالة من خلال الصحفيين لوزير الداخلية بأن الاتحاد لايتآمر في الغرف المغلقة، واجتماعه وكلمة أمينه العام مذاعة على الهواء.

ـ 9 فبراير .. تنسيقية عمال الحظائر (أي من يعملون بعقود مؤقتة عند الدولة وبالتوسع في الوظيفة العمومية بعد الثورة) تتهم وزارة الداخلية في بيان لها بالاعتداء بالعنف على هؤلاء العمال خلال وقفة احتجاجية في هذا اليوم بساحة القصبة مقر الحكومة. وقال بيان للتنسيقية: "جرى اختطاف محتجات ومحتجين وإخفاؤهم في أماكن غير معلومة،  وتعذيبهم من جانب رجال  الأمن". 

ـ 10 فبراير.. المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة دولة) يعلن ارتفاع نسبة الفقر بتونس في عام 2021 إلى نسبة 16,6 في المائة مقارنة بنسبة 15,2 في المائة، مع استقرار معدل الفقر المدقع عند 2,9 في المائة. 

***

 بحلول فجر اليوم 12 فبراير 2023 ، ثلاثة أسماء تأكد إيقافها / اعتقالها، وذلك وسط فيض من الشائعات والأقاويل في فضاءات تونس "الرئيس الخائف / المخيف"، وهم :

 ـ "كمال اللطيف"، وهو رجل أعمال نافذ منذ عهد ما قبل الثورة ويرتبط اسمه بزمن الطاغية السابق الجنرال "بن على". واشتهر ومازال بتأثيره ونفوذه على صناعة الإعلام والصحافة وحتى بعدها. لكن هنا السؤال : ولماذا الآن؟ . ولم يكن من قبل. وعلى الأقل، مضى على تولى " سعيد الرئاسة" نحو الأربعين شهرا. 

ـ "خيام التركي" رجل أعمال له أعماله السابقة في مصر. وكان قياديا في حزب "التكتل الديمقراطي". وهو حزب غير إسلامي (من أحزاب الاشتراكية الثانية: الديمقراطية الاجتماعية)، وإن كان هذا الحزب شارك في حكومة "الترويكا" بعد الثورة مع حزب حركة " النهضة" والمؤتمر من أجل الجمهورية للرئيس الأسبق "المنصف المرزوقي". ثم عاد "التكتل" ناقدا ومعارضا "للنهضة" خاصة وللإسلاميين بصفة عامة، وعين الرئيس " سعيد" من بين قياداته رئيس حكومة: "إلياس الفخفاخ"، والذي تصادم لاحقا مع  "النهضة" وحلفائها.

ـ أما الثالث فهو المهندس "عبد الحميد الجلاصي" القيادي المنشق على حزب حركة "النهضة" والمجاهر بانتقاد رئيس الحزب "راشد الغنوشي" والمجموعة المحيطة به الهيمنة على الحزب. ولقد واتتني  الفرصة من خلال زياراتي الصحفية المتعددة لتونس بعد الثورة والعمل مراسلا مقيما "للأهرام" بها التعرف عليه كمصدر صحفي محترم، وزيارة مكتبه مرارا في حي "مونبليزير" بالعاصمة. 

  ولقد انتبهت إلى أهمية "الجلاصي" من حيث حيويته الفكرية وقدرته على مراجعة وانتقاد "النهضة" والاسلاميين وانحيازه وزوجته السيدة النائبة السيدة "منية" للثورة والتغيير والديمقراطية. وهي عارضت قرار قيادة الحزب وصوتت كنائبة ضد صفقة المصالحة مع رجال إدارة ما قبل الثورة الفاسدين في البرلمان سبتمبر 2017. وهي الصفقة التي كان قطباها الرئيسيان "النهضة" وحزب "نداء تونس" الذي أسسه الرئيس "الباجي قايد السبسي" رحمه الله. 

 و"الجلاصي" مارس نقدا علينا لخط "النهضة" وأخطائها ـ وبخاصة بعد الثورة ـ بموضوعية وشجاعة وانحياز للشعب التونسي ولمصلحة البلد ومن أجل دولة عصرية ديمقراطية تعلى القانون والمواطنة. واستقال من عضوية " النهضة " نهائيا في مارس 2020، استقالة مسببة معلنة. ويعد نصها من الأهمية بمكان في نقد خيارات وأداء الإسلاميين فكريا وسياسيا لا في تونس وحدها، بل وعلى مستوى العالم العربي بأسره (بالأسفل رابط لنص الاستقالة في موقع إلكتروني تونسي).

 وكنت في 8 أغسطس / أوت 2018 قد جلست لأحاوره فقال بشجاعة وبصيره وكان مازال عضوا في مجلس شورى "النهضة": إن "تقدم القائمات المستقلة في الانتخابات البلدية مطلع مايو يعد عقابا للنظام الحزبي برمته". وأضاف قائلا مشخصا ايضا أزمة الجميع وغياب بديل سياسي متبلور : "عندما أراد الناخبون التعبير عن الغضب إزاء النهضة وحزب نداء تونس (مؤسسه الرئيس السبسي) ذهبوا الى القائمات المستقلة وليس الى المعارضة أو مناهضي التوافق بين الحزبين الكبيرين". 

وقال لي " الجلاصي" أيضا : "قرار منح حزب حركة النهضة المستقلين من خارجه  نصف مواقع قائماته في هذه الانتخابات البلدية لم يكن سهلا، حيث واجهته معارضة على مستوى تنظيمات النهضة في الجهات وحتى داخل مجلس الشورى، وبعد أن قام المكتب التنفيذي للحزب بطرح الاقتراح على هياكل الحزب". وأضاف في حوار يثرى نص كتاب قيد النشر: "النهضة تحولت بعد الثورة إلى ما يشبه (المصعد السياسي). لكنها لم تغادر كثيرا دوائرها التقليدية المحافظة من الطبقة الوسطى فما دونها" . 

ويعد "عبد الحميد الجلاصي" رمزا بين مثقفي تونس ونخبتها السياسية وحتى بعدما خرج من " النهضة". وله العديد من الكتب المنشورة المهمة. وقد قرأت بعضها مثل : "حصاد الغياب" وهو في عدة أجزاء روى فيها تجربته في العمل السري والاعتقال والسجن والتعذيب والتنكيل، و" دولة الخوف". ولا أعرف بتونس هل اصدر كتابه الموعود "مراجعات في الفكر والسياسة"، وذلك بعد مغادرتي تونس بعد زيارتي الأخيرة في أكتوبر 2019.

***

 ويقينا فإن اثنين من الموقوفين / المعتقلين أمس بتونس ممن يجاهرون بمعارضة سياسة واجراءت الرئيس " قيس سعيد " علنا، وهما " الجلاصي " و"التركي" . اللافت أيضا في إيقافات / اعتقالات الساعات القليلة الماضية بتونس أن وكيل الجمهورية (النائب العام بتونس) نفى علمه بها. فضلا عن أن الموقوفين اقتيدوا من قوة غير معلومة إلى أماكن احتجاز غير معلومة للآن.  وأيضا كون المستهدفين منها بلا روابط متصورة أو محتملة بينهم. وفي هذا، ما يعزز الاعتقاد بإنها نوع من "إرهاب سلطة الدولة المطلقة" لمعارضي الرئيس ومعهم المجتمع بأسره.  وكذا كونها بمثابة "فرقعات" أو " ألعاب نارية وسحابات دخان" لأزمة تتعمق . 
----------------------------------
بقلم: كارم يحيى
(*) راجع سلسلة من ستة مقالات بموقع جريدة "المشهد" الإلكتروني بين 19 ديسمبر 2022 و 7 يناير 2023 بعنوان :"مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس"
(**) رابط نص استقالة المهندس "عبدالحميد الجلاصي"

مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال





اعلان