31 - 10 - 2024

(اعترافات قرصان اقتصادي)

(اعترافات قرصان اقتصادي)

هدفُنا أن يتحول قادة البلدان المُستهدفة ليصبحوا جزءًا من شبكة واسعة مُهيأة لتحقيق المصالح الأمريكية، وفي نهاية المطاف يقع هؤلاء القادة في مصيدة الدّيون، مما يجعلنا نساهم دون شك في خلق مشاكل اقتصادية جديدة لهم، الأمر الذي يجعلهم يتخذون مواقف موالية لنا، وساعتها نستخدمهم لتحقيق أغراضنا السّياسية والاقتصادية والعسكرية. 

تلك المنظومة المتكاملة الأهداف يقف وراءها "البنك الدّولي"، و"صندوق النّقد الدّولي"، و"الحكومة الأمريكية"، و"جهاز المخابرات"، و"الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية"، و"الشركات الاحتكارية الكبرى".

كنا نُعِد لهم دراسات وهمية؛ لنقنعهم أننا سنستثمر مليارات الدّولارات في تطوير البنية التّحتية لتلك الدّول: كمحطات الكهرباء، وخطوط المواصلات، والتّخلص من جبال القمامة، بغية رفع المستوى المعيشي والصّحي لشعوبها، بَيد أن الحقيقة أن التّطوير كان وهمًا؛ إذ كنا نهدف بالأساس لتزداد العائلات الحاكمة في تلك الدّول ثراءً بشكل سريع، بينما الشّعب يظل يرزح تحت أثقال الفقر، وعليه وحده تقع أعباء تسديد الدّيون الأساسية؛ وفوقها تلك الأموال التي أنفقتها الشّركات الأمريكية على مشروعات البنية التّحتية، والتي تستردها الشّركات بالأساس عن طريق استغلال ونهب ثروات تلك البلاد.. كالسّيطرة على النّفط مثلا؛ أو مصالح سياسية وقواعد عسكرية وغيرها.

"اعترافات قرصان اقتصادي" أو "جون بركنز"... صاحب الكتاب الذي يحمل نفس العنوان؛ والصّادر مذ أكثر من عشر سنوات؛ ما يزال هو وصاحبه يثيران لغطًا شديدًا بقدر ما ينبهنا للمصائب الفادحة التي عَمَّت بعالمنا العربي؛ خاصة والعالم النّامي بشكل عام، وما تزال. 

يقول المؤلف في كتابه: "خلال أربعين عامًا؛ بنينا أكبر امبراطورية اقتصادية في العالَم، دون استخدام القوة العسكرية، بالاقتصاد وحده، وبأسلوب "العصا والجزرة"، ففي البداية نعرض على زعماء "العالَم الثّالث" أن يصبحوا أغنياء شرط الموافقة على قواعد لعبتنا، فإن لم يوافقوا، ننحيهم بكل بساطة عن السُّلطة باغتيالهم ماديًّا ومعنويًّا. 

كما فعلنا مع الملك "فيصل" بالسّعودية، و"محمد مُصَّدق" رئيس وزراء إيران الأسبق، ورؤساء: مصر؛ وشيلي؛ وجوانتيمالا؛ والكونغو؛ وفيتنام؛ الجنوبية وفينزويلا؛ وهندوراس؛ والإكوادور. 

كنا نذهب لهم ونقول للرئيس بشكل مباشر: سنبني لكم محطات كهربائية ليتيقن الشّعب أنك تهدف رفع مستوى معيشته، وفي المقابل سنعطيك عدة مليارات من الدّولارات تدخل في حسابك بشكل قانوني، ونُعيّن شقيقك مديرًا لشركة كذا، وشقيقتك ستصبح صاحبة الشّركة الفلانية التي سنستورد عن طرقها الآلات والعدد اللازمة للمشروع، أما أولادك فسيتعلمون مجانًا بأمريكا، وأصدقاؤك سيصبحون رجال أعمال مسيطرين على مشاريع البلاد، وهكذا تمتد الإغراءات.

فإن لم يقبل أسلوب "الجزرة" نستخدم "العصا"؛ أي تذكيره لمآل الرّؤساء الذين رفضوا التّعاون معنا، والحقيقة كانوا يفهموننا بشكل واضح، ويخضعون لأوامرنا؛ تجنبًا لمصير مأساوي مُرتقب.

**سلاح التّصفية**

سلاح التّصفية هذا نستخدمه كذلك في أمريكا ذاتها، فلا يجب أن ننسي ما فُعِل بـ "كينيدي"، "أوباما" نفسه يَعلم أن كل كبيرة وصغيرة يعلمها "مكتب التّحقيقات الفيدرالية"، ويدرك أن إطلاق الشّائعات عن طريق وسائل الإعلام كافية للفتك به كما فعلنا مع "كلينتون" وفضيحة "مونيكا"، وقد جربنا ذلك مع "أوباما"، حين حاول التّقرب من العالَم الإسلامي؛ فبدأت الشّائعات تنتشر بأنه: "ربما ليس مواطنًا أمريكيًّا"، أو "هو مسلم ويخفي علينا"، ثم "ما هذا الاسم الغريب باراك حسين أوباما ؟!" وهكذا.. بمعنى أنه إذا حاول الذّهاب بالسّياسة الخارجية لأبعد مما ينبغي نوجه له إنذارًا يتلقاه عن طريق وسائل الإعلام بما معناه: "احذر.. نستطيع الوصول إليك إذا تحركت في الاتجاه الخاطئ".

**الشعب الأمريكي ساذج** 

الشّعب الأمريكي شعب ساذج للغاية، مِنهاجهُ التّعليمي مبنيٌ بطريقة تجعله دائمًا يمشى وراء الزّعيم، موقٍنٌ أن رئيسه على صواب دائمًا، فمثلًا في "الحادي عشر من سبتمبر"؛ وطبقًا لأبسط الدّراسات الفيزيائية؛ حتى تلك التي يدرسها الطّلاب في المدارس لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتسبب "طائرة" في إحراق "البرجين" بهذه الطريقة، ثم تنصهر تمامًا ولا يتبقى من حطامها شيء؛ ويذوب جسمها بالكامل !!! 

كما أدرك نحو 40% من الأمريكيين هذه الحقيقة، لكنهم ليست لديهم الرّغبة في البحث وتجلية الأمر، رغم أنهم تساءلوا كثيرا: "لِمَ لَمْ تتم إقالة أي "جنرال" من منصبه بعد أن اصطدمت طائرة بمبنى "البنتاجون" أهم المباني في أمريكا ؟! لكنهم أيضًا اكتفوا بالأسئلة، والتفتوا لحياتهم المريحة التي يحيونها، وانصب جامَ اهتمامهم كالعادة على كيفية الحفاظ على السّكن والوظيفة، وليذهب باقي العالَم للجحيم.

بعد أن فقدنا "فيتنام" بانضمامها للمعسكر الشّيوعي؛ صدرت لنا الأوامر بأنه من غير المسموح أن تحذو "أندونيسيا" حذوها، وهذا دليل الارتباط التّام بين السّياسة والاقتصاد، فالسّياسة توجه اقتصاديات الشّركات الكبرى، وهي بدورها تتحكم في السّياسة، فإذا فشلتا معا؛ يكون التّدخل العسكري هو الحل الوحيد والأخير.

تمامًا كما فعلنا في "العراق"، ونثق تمامًا أن وراءنا شعب أمريكي يؤمن تمامًا أننا نقيم الدّيمقراطية في دول العالَم؛ بينما نحن في الحقيقة نستعمرها.

في "إيران" -حيث كانت بداية عملياتنا- عَلِم "محمد مُصَّدق" رئيس الوزراء حينذاك باستغلال الشّركات البريطانية لنفط إيران؛ فقام بتأميم شركات البترول لصالح الشغب الإيراني؛ وكان شخصية كارزمية يُهيئ نفسه ليصبح زعيمًا، فصدرت لنا الأوامر إبَّان حكم الرّئيس الأمريكي: "إيزنهاور"، فأرسلنا عميلًا أمريكيًّا  وهو حفيد الرّئيس الأمريكي "روزفلت"، ليقوم بتنظيم مظاهرات ممولة ضد "محمد مٌصَّدق".

وبالفعل انتهى به الأمر إلى أن أصبح قيد الإقامة الجبرية في بيته مدى الحياة.. وأعدْنا "شاه إيران" االمخلوع لعرشه.

في "السّعودية"؛ حين ذهبت إليها ذًهلت من جبال القمامة المُلقاه في الشّوارع، ولم يكن أمامهم من حل لها سوى أن تأكلها قطعان الماعز والخراف !!فتقدمنا بدراسة لإزالتها في مقابل شروطنا والتي تمثلت في الحصول على نفط "السّعودية" بثمنً بَخس، وأن تستخدم المملكة الدّولار الأمريكي (وكان هذا إنقاذًا له حيث كان يُعاني من تدهور شديد)، وألا تستخدم ثانية سلاح "حظر النّفط" كما فعلت في "حرب أكتوبر"، مقابل أن نتعهد لهم بحماية "آل سعود" وبقائهم أطول فترة ممكنة على كرسي الحُكم.

لذلك وقتما اجتاح "صدام حسين" الكويت، وهدّد ممالك دول الخليج؛ حافظنا تمامًا على السّعودية وحكامها، وحينما حاولت كل من: أندونيسيا وفنزويللا وإيران والعراق فرض حظر نفطي على "أمريكا" لم يستطيعوا؛ لأن "السّعودية" قدمت عرضًا بتعويض أمريكا ما تحتاجه، ففشل الحظر قبل أن يبدأ، ومن هنا كان من الضروري أن نسيطر على منظمة "الأوبك"، وهذا ما حدث تاليًا.

**اغتلنا الملك فيصل**

خلافات الملك "فيصل" معنا ورفضه لمطامعنا الاقتصادية؛ هي ما جعل التّعجيل باغتياله أمرًا حتميًّا، لأن سلاح الشّائعات لم يكن ليجدي معه كما فعلنا مع "كلينتون ومونيكا"، وبالفعل تم اغتياله في ديوانه الخاص وبين مرافقيه ومعاونيه وحُرَّاسه، واتُهم من قتله بالجنون، وكانت تلك إشارة بالغة الأهمية.. أن يُقتل الملك الوحيد الذي استخدم سلاح النّفط ضد "إسرا..ئيل".

في "الإكوادور"؛ قدمنا لرئيسها 200 مليون من الدّولارات، وقمنا بتعيين أفراد أسرته في مناصب هامة، واستخدمنا سلاح الإرساليات التّبشيرية، تحت ستار: إصلاح البنية التّحتية للبلاد، واتفقنا أن تقوم "الإكوادور" بسداد المليارات التي سنقدمها لمشاريع البنية خصمًا من ديونها، وفي حقيقة الأمر أن ما قدمناه ذهبَ معظمه رشاوي وأجور لأبحاثنا، وتضاعفت ديونها خلال ثلاثة عقود من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار، كل ذلك بهدف أن نجبرهم على أن يبيعوا لنا غابات "الأمازون" المليئة بالنّفط. 

ووصل الأمر أن تقوم الشّركات الأمريكية المُكلفة بإنشاء أعمال البنية التّحتية بالحصول على 75 دولار من كل 100 دولار من العائد النّفطي، ويتبقى 25 دولار فقط للإكوادور، منهم 75 % من المبلغ يذهب لسداد الدّيون ومصروفات الحكومة والدّفاع، ويتبقى دولاران فقط ونصف الدولار للتعليم والصّحة وبرامج دعم الفقراء !!

**في مصر**

في "مصر"؛ توجهنا حال فترة حكم "السّادات" إلى "الأسكندرية" بهدف إنشاء شبكة للمياه النّظيفة والصٰرف الصّحي، ليكتسب بذلك 'السّادات" شعبية كونه يسعى لإدخال مياه شربٍ نظيفة، وبدورها ستساهم في قلة انتشار الأمراض في مدينة "الأسكندرية"، وحقيقة الأمر أن الفقراء توهموا ذلك، بينما كان المشروع يصب كل اهتمامه على أحياء الأثرياء والمناطق التّجارية فقط !! 

قدّمنا امتيازات مادية ورشاوٍ هائلة للمسئولين، وتحملنا تكلفة المشروع على أن يتم خصمها من الدَّين العام للبلاد؛ تمامًا كما فعلنا مع كل الدّول السابقة، كما هددنا بشكل ناعم بسلاح الاغتيال إذا لزم الأمر !!

والحقيقة أن اهتمامنا بـ "مصر" كان يهدف في المقام الأول لأن تلعب دورا استراتيجيًّا لاستمالة "العرب" تجاه "إسرا..ئيل"، وتخفيف حدة الاحتقان والموقف المعادي لها، وبالفعل أصبحت مصر جسرًا للسّلام، وكان "كيسنجر" يقف بنفسه وراء تلك العملية.وفي نفس الوقت زادت الدّيون وخدمة الدّيون كذلك. 

الحقيقة أننا دائمًا وأبدًا نؤيد النّظم الدّيكتاتورية والشّمولية والطّغاة أينما كانوا، لأنهم يساعدوننا على توسيع رقعة المصالح الاقتصادية الأمريكية، ونُطيح بالزّعماء الذين جاءوا بانتخابات ديمقراطية إذا رفضوا تحقيق رغباتنا.

والنّتيجة أن "أمريكا" وحتى العام 2004 فقط دَيَّنَتْ العالَم الثّالث بـ 3 تريليون دولار، و375 مليار دولار خدمة الدّيون، وهي تشكل عشرين ضعفًا للمساعدات الأوربية المقدمة لهم.

يُنهي "جون بركنز" اعترافاته الصّادرة في كتابه "القاتل الاقتصادي" بقوله: إذا حاولتم إقناعي أن هناك إرهابًا عالميًّا شاملًا تواجهه "أمريكا"، فسأقول بكل أسف وصراحةٍ: أن الإرهابيين الحقيقيين هم نحن الأمريكان؛ بقواعدنا العسكرية التي تُطَوِق 130 بلدًا باتّساع العالَم، وباستعمارنا الاقتصاديّ له.
-----------------------------
قراءة: حورية عبيدة
لقراءة الكتاب