30 - 04 - 2024

مع اقتراب معرض الكتاب .. هل سيموت النشر الورقي؟ (تحقيق)

مع اقتراب معرض الكتاب .. هل سيموت النشر الورقي؟ (تحقيق)

روشتة علاج لحل أزمات الكتب والمطبوعات: الحرية ثم إلغاء الضرائب والجمارك بداية الطريق
- جرجس شكري: لا توجد إملاءات .. ونشرت بحرية شديدة كل الكتب المثيرة للجدل
- شريف صالح: لا توجد لدينا مصداقية واتحدى أي دار نشر تعلن عن مبيعاتها بشفافية
- أشرف غريب: مشروع بتكليف رئاسي لانشاء منصة ثقافية موحدة تضم أرشيف الصحف والمجلات
- زكي سالم: كيف يقرأ المواطن كتابا، وهو جائع؟! الباحث عن ضروريات الحياة لن يضع الفن والثقافة على أولوياته
- خالد عدلي : المستقبل  للنشر الالكتروني لسهولته ولمحاربة الغلاء علاوة على سرعة انتشاره
- محمد الروبي: إما نهجر المهنة أو تهجرنا هي وإما أن نرضخ ونتأقلم مع النشر الإلكتروني ونتعود على الشاشات
- سمير درويش: المستقبل للمنتج الإلكتروني، وما يفصلنا عنه ضَعْفُ معرفتنا بأدواته والحنين (القديم) للورق 

أيام قليلة تفصلنا عن الدورة الـ 54 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي يرتاده في المتوسط  مليونا زائر سنويا، ويُعد من أكبر معارض الكتاب في الشرق الأوسط، وأيّا ما كانت الأزمات الحالية يبقى هو الحدث الثقافي الأبرز والأهم والأضخم والأكثر حضورا؛ فالجميع داخليا وخارجيا يعرف حجم مصر الثقافي وقدرها الفني وتأثيرها الأدبي، ورغم ان هذا العام شهد العديد من الأزمات الاقتصادية التي أثرت بشكل مباشر على صناعة النشر الورقي؛ إلا ان هناك حالة تفاؤل كبيرة؛ لدرجة توقع معها خبراء هذا المجال ان تحقق هذه الدورة نسب نجاح تفوق نسب النجاح التي حققتها الدورة السابقة، والتي شارك فيها حوالي  1063  دار نشر، ولكن بحسب ما نشر ، فان عدد دور النشر التي ستشارك هذا العام يبلغ 860 دارا، وهو رقم يتعارض مع تصريحات القائمين على هذه الدورة؛ خاصة وانهم أعلنوا بشكل رسمي عن حزمة من الإجراءات لإنعاش حالة الركود التي أصابت سوق النشر بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية. 

فقد سبق وابدى الناشرون استياءهم من ارتفاع إيجارات المساحة المخصصة للدور؛ ليفاجأوا هذا العام بان قيمة الإيجار ارتفعت مرة آخرى مما دفع وزيرة الثقافة نيفين الكيلاني لإصدار قرار بتخفيض جزئي من نسبة الزيادة، ومن جانبهم قام المسؤولون بعدة اجراءات هدفت إلى زيادة عدد دور النشر المشاركة في هذه الدورة؛ حيث وافقت الهيئة على مشاركة جميع دور النشر التي تقدمت للاشتراك في المعرض، فضلًا عن تخصيص جناح في المعرض لدور النشر الصغيرة؛ كما غابت قائمة الانتظار التي كانت تحمل عددا كبيرا من دور النشر خصوصا الجديدة؛ إلى جانب منح توكيل لدور النشر التي خصص لها جناح بمساحة 18م، وكلها تسهيلات  لم تكن موجودة من قبل ، لتشجيع أكبر عدد ممكن من الناشرين على المشاركة.

وسواء كان العدد 860 أو 1063 دار نشر ، فالأهم شعور المسؤولين بالأزمة التي يشهدها سوق النشر الورقي في مصر؛ سواء على مستوى الجرائد والمجلات أو الكتب؛  خاصة وان الأمور أصبحت واضحة للقاصي والداني؛ فبعض الإصدارات الورقية توقف بالفعل بينما تحول البعض الآخر للنشر الالكتروني، وكلما قرأت وبحثت في هذه الأزمة وجدت الجميع يدور في فلك عدد محدد من الأسئلة النمطية والإجابات الأكلاشهية؛ فوجدت نفسي أمام إجابات جاهزة كالوجبات السريعة التي لاتسمن ولا تغني من جوع، وما بين التخوفات المستقبلية والتباكي على الماضي وصراعات الحاضر ، تحولت الأزمة من حالة فردية إلى حالة عامة، وأصبح سوق النشر الورقي مهددا بالانهيار بشكل كامل، والأسباب تنوعت ما بين ارتفاع أسعار الورق وارتفاع تكلفة الطباعة وجشع التجار، ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟ أم ان الأزمة لها أبعاد آخرى؟ 


 زكي سالم

يري آخر حرافيش نجيب محفوظ الكاتب زكي سالم أن القضية قضية حريات؛ فالصحف التي طوال عمرها تقدم أخبارا جديدة وتحليلات تعكس وجهات نظر متنوعة فقدت تنوعها؛ وأصبح المعروض سواء في الجرائد والمجلات أو حتى في الكتب يعكس وجهات نظر أحادية ومن إتجاه واحد؛ علاوة على وجود مضايقات يتعرض لها المشتغلون في هذا المجال. بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي الراهن، والذي جعله يتساءل بسخرية مريرة: كيف يقرأ المواطن كتابا، وهو جائع؟! فالمواطن يبحث عن ضرورياته، ولذلك لن يضع الفن والثقافة على أولوياته.

 قد يوافق البعض على هذا الطرح، ولكن أمين عام النشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة الناقد والشاعر جرجس شكري يرى ان أزمة النشر أساسها المحتوى؛ فالمحتوى الجيد سيفرض نفسه، وعن أزمة الحريات يقول شكري: نشرت كل شيء كنت أرغب في نشره .. الثابت والمتحول لأدونيس، وتهافت الفلاسفة، وتهافت التهافت؛ يتابع "شكري" حديثه: وكما تعرف ان الكتابين يتناولان الصراع الشهير بين الإمام الغزالي والفيسلوف ابن رشد، ولم يعترض أحد، ولم أتعرض لأي نوع من الوصاية ولا الإملاءات؛ كما نشرت 40 كتابا من سلسة الهوية، وهي كتب نوعية ومتخصصة في التاريخ المصري والشخصية المصرية، وهذه الكتب نفد أغلبها، ونشرت 50 كتبا من ورائع تراث المسرح العالمي وأغلبها نفد .. نشرت كتب رفاعة الطهطاوي ونفدت؛ ذهبت الكوميديا الإلهية وكليلة ودمنة لمعرض الكتاب ونفدتا ؛ فالقضية تكمن في اختيار المحتوى؛ فالمحتوى الذي يحترم عقل القارىء سيجد طريقه بسهولة للسوق. 


  جرجس شكري

يتابع شكري: طبعا هناك تحديات؛ فسعر الورق في ارتفاع مستمر، وتكلفة الطباعة أصبحت عبئا شديد، ولكن سيظل الكتاب الورقي باقيا، ولكن شرط اختيار المحتوي الجيد .. يكمل شكري حديثه: أنا احدثك عن كتب نشرتها بالفعل. 

أقاطعه: هل هناك اختلاف بين أزمة الجرائد والمجلات وأزمة الكتب؟ يرد: لا تختلف كثيرا أنا اعمل بمجلة الإذاعة والتلفزيون منذ منتصف التسعينيات وقتها بعنا 2000 نسخة، وبعنا أيضا في نفس الفترة 50 ألف نسخة، وكان المعيار هو المهنية والجودة ..على رؤساء التحرير وفرق العمل؛ بل على الكتاب عموما إعادة النظر في المحتوى الذي يقدمونه. 

كان كلام "شكري" دقيقا وواضحا بل ومحددا، ولكن عند طرح الموضوع على طاولة النقاش سمعت أصواتا تُرجع نجاح مؤسسات الدولة بسبب الدعم الذي تحصل عليه هذه المؤسسات؛ رغم أننا في الوقت ذاته شاهدنا  إصدارات آخرى تتوقف وتتحول للنشر الإلكتروني؛ مثل الأهرام المسائي والمساء والكواكب، وغيرها من الإصدارات، ناهيك عن الأزمات المتلاحقة كأزمة المصري اليوم، وأزمة محرري موقع مصراوي؛ أنا هنا لن أناقش هذه الأزمات، ولكنها ذات دلالة كاشفة لطبيعة الأزمة التي طالت الجميع؛ فحتى من استطاع الاستمرار لجأ لترشيد النفقات؛ سواء بتقليل عدد الصفحات أو بتقليل مكافآت النشر أو بوقفها من الأساس. 

ما حدث مع الجرائد لم يختلف كثيرا مع دور النشر، والتي إبان هبوب نسائم معرض القاهرة أعلنت بشكل واضح عن باقات النشر، وعلى المؤلف اختيار الباقة التي تناسبه، والغريب في الأمر ان هذا الوضع أصبح قاعدة عامة، والاستثناء هو عدم حصول الدار على نقود نظير النشر .. بالطبع لن أنكر وجود دور نشر تتكفل بكل شيء، ولن أنكر أيضا وجود دور آخرى تساهم مع الكتاب في التكاليف؛ سواء في النشر أو في خدمة ما بعد النشر؛ كتنظيم حفلات التوقيع؛ أو دعم الكاتب في المسابقات؛ أو تقديم كتب مجانية للقراء .. ولكن هذا لا ينفي المشكلة، والتي تزداد وتتفاقم يوما بعد يوم؛ مما هدد طبيعة العلاقة بين المؤلف والناشر، وفرض شكلا جديدا من أشكال التعامل.  ورغم ان بعض دور النشر اعلنت على صفحاتها بشكل واضح التفاصيل المالية لهذه الباقات؛ إلا اننى سأشير لهذه الدور بالرموز حفظا لماء الوجة؛ ف دار (م) حددت ثلاث باقات مالية، وكل باقة توفر مجموعة من المميزات، ومن ضمن المميزات تجهيز الأعمال وتسجيلها بشكل قانوني، والمقصود بالشكل القانوني الحصول على "رقم الإيداع"؛ مع ان رقم الإيداع هي مهمة الدار الأساسية؛ أى انها ليس مزية! أما دار (و) فقدمت مجموعة من المميزات التي يلهث خلفها كتاب هذا الجيل؛ منها حصول المتعاقد على مجموعة من الفيديوهات المصورة، وفيديو للمتعاقد وهو يلقي قصائده أو يقرأ قصصه، وإنشاء موقع إلكتروني باسم المتعاقد على منصة "بلوجر" ..إلخ، وكلها مميزات بالفعل جيدة، ولكنها تكشف طبيعة القارىء والكاتب والناشر على حد سواء؛ وتأكيدا على ما اقول وجهت إحدى دور النشر إعلانها لمن لديه خبرات وأفكار وقصص نجاح ويريد تجميعها في كتاب قيّم؛ لكنه لا يعرف من أين يبدأ وكيف يبدأ فقدمت الدار خدماتها وهي: خدمة تحرير وإعادة المحتوى!، وخدمة الكاتب المساعد!، وخدمة المدقق اللغوي .. أعتقد كان ينقص الإعلان ان تكتب هذه الدار (كل ماعليك عزيزي المؤلف ان تخبرنا باسمك وتحضر نقودك). 

اما دار (الع) فصاغت الإعلان بشكل براق دون الإعلان عن أي رسوم مالية لكنها ارفقت مع الإعلان صورة مدون عليها الرسوم المالية. أما عن دار (ال.. ال) فقد أعلنت على صفحتها الرسمية تقديم فرصة للباحثين، وتتلخص الفرصة في قيام الدار بنشر أبحاثهم في مجالات العلوم! بالطبع لن اتفرع واناقش قيام بعض دور النشر والمراكز البحثية بعمل أبحاث بالنيابة عن الباحث نفسه، ولن اتفرغ لمناقشة البلاغ الذي قدمه جبرتي المسرح د. سيد علي أستاذ النقد بكلية الآداب، إلى النائب العام ضد هذه الصفحات الفيس بوكية؛ لكنني ساقف عند صراحة ووضوح دور النشر في تقاضيها للمبالغ المالية، والتي كانت بالدولار .. ناهيك عن الأقاويل المتعلقة بقيام دار نشر كبرى بتحصيل مبلغ  دولاري نظير قيامها بالتعاقد مع الكاتب؛ الذي يكون مجبرا على التعاقد ليس فقط لانها دار نشر صف أول، وبالتالي سيجد الكاتب لنفسه مكانة مميزة في خريطة النشر والمعارض علاوة على البريق الإعلامي وما إلى ذلك، ولكن لان هناك جائزة كبرى من ضمن شروطها غير المعلنة ان يكون الكتاب صادرا على دار نشر 5 نجوم!. 

حقيقة الأمر أزمة النشر الورقي كشفت المسكوت عنه ليس فقط بالنسبة لبعض دور النشر، ولكن أيضا بالنسبة للكتاب؛ فقد أصبح النشر لدى البعض مشاعا؛ فكل من يملك نقودا ينشر دون رقيب، وهذا صدر لنا في المشهد الثقافي أنصاف مواهب، وهناك كُتاب ينشرون لإشباع الموهبة، وهناك من ينشر كنوع من الرفاهية والوجاهة، وهناك من ينشر للتواجد أو للمشاركة في مسابقة ..إلخ، وفي نهاية الأمر أصبح الكاتب هو الممول. 

استمرار العلاقة بهذا الشكل المعكوس ساهم في استقواء دور النشر؛ بل وقيام بعض الدور بفرض شروطها، والتي وصلت لتحديد الجنس الأدبي؛ فهناك دور نشر ترفض نشر الشعر خاصة شعر العامية، وكذلك الحال بالنسبة للمسرح الذي يعاني من الأساس قلة عدد الكتاب. 


 خالد عدلي

ولهذا أكد مؤسس دار نشر المثقف الناشر خالد عدلي على ان المستقبل  للنشر الالكتروني مؤكدا على ان المستقبل للكتب بصيغة (اي بوك) وذلك لسهولته، ولمحاربة الغلاء علاوة على سرعة انتشاره فضلا عن عدم وجود حدود للتخزين، وكلها عوامل مشجعة لدور النشر.   

وعن التحديات التي تواجه دور النشر أكد "عدلي" على ان قرصنة الكتب تحد رئيسي أمام دور النشر؛ يأتي بعدها غلاء الأسعار ثم مغالاة المكتبات في الحصول على نسبة من المبيعات، وقد تجاوزت هذه النسب40% و 50 % وعن الحلول طالب "عدلي" بتدخل الدولة في دعم الورق والطباعة خاصة وان مصر تمتلك فنيين مهرة؛ كما طالب "عدلي" برفع الضرائب والجمارك؛ فضلا عن دعم المعارض.  

وبينما أفكر في كل هذه التحديات محاولا الوصول لحلول تكون خارج الصندوق، وقعت عيني على صورة منتشرة على صفحات الفيس بوك لدار المعارف وبداخلها أجهزة كهربائية. اخذت ابحث بين التعليقات عن السبب ولم تمض سويعات، ونشرت الدار على صفحتها بيانا توضيحيا لما اعتبرته حملة تشويه، وأوضحت الدار في منشورها الرسمي؛ ان الصورة المتداولة وإن كانت حقيقية، فإن ما تم صياغته في البوست الخاص به غير حقيقي بالمرة، فلا تقوم دار المعارف بعرض أو بيع أي أجهزة كهربائية أو مستلزمات منزلية إطلاقًا، بل إنها أدوات مكتبية شاملة (آلات حاسبة – دباسات – خرامات ورق – مساطر – ماكينات فرم – خزن). 

وبعيدا عن معركة دار المعارف لابد من البحث عن حلول بديلة، ومها بدت هذه الحلول صعبة أو غير منطقية؛ لكنها ستصبح قبلة الحياة لجسد يصارع الموت في ظل أزمة اقتصادية طاحنة طالت الجميع ومنهم العاملين في هذا المجال؛ مما دفعهم لاتخاذ ردود فعل تناسب طبيعة الأزمة، وهو ما اشار إليه الكاتب عمر قناوي، والذي أكد على ان المدقق اللغوي والمحرر رفعا أجرهما؛ مما ساهم في ارتفاع تكلفة العملية الإنتاجية، وبالتالي سبب ارتفاعا في سعر الكتب، مما أثّر سلبا على حركة التوزيع ، والتي زادت بسبب موجة الغلاء لعدم قدرة المواطنين على تلبية احتياجاتهم الأساسية من مأكل وملبس، وبالتالي سيتراجع اهتمامهم باقتناء الكتب واعتبارها سلعة رفاهية أو كمالية. وعن المقترحات قال قناوي: هناك عدة إجراءات للخروج من هذه الأزمة منها أن تقدم الدولة عدد من التسهيلات للناشرين والمكتبات مثل الإعفاء الضريبي لعدد من السنوات مع عدم فرض جمارك على الكتب الواردة من الخارج مع تخفيض الجمارك على الورق الذي يتم استيراده، وأخيرا أرى أن تنظم الجهات المسؤولة والمعنية مثل المجلس الأعلى للثقافة والهيئة العامة للكتاب واتحاد الناشرين مؤتمرا للنقاش حول الأزمات التي تواجه صناعة النشر الورقي وكيفية حلها، على أن تكون القرارات التي سيخرج بها المؤتمر ملزمة.

رغم ان الحلول جيدة وتعطي بارقة أمل، لكنها تبقى حلولا خيالية خاصة في ظل حالة الانفصال الدائم بين المسؤولين وأصحاب المشكلة، وبالتالي يبقى السؤال مطروحا ما هو مصير النشر الورقي؟ هل سيموت الكتاب؟ هل سيأتي يوما وتختفي الجرائد والمجلات؟ لمن المستقبل للورقي أم للالكتروني؟ 


 د. شريف صالح

يجد الناقد والكاتب شريف صالح صعوبة في تحديد مصير النشر الورقي خاصة وان الموبايل نفسه سينقرض في المستقبل البعيد، وستحل محله شريحة تزرع داخل المخ، يرى "صالح" ان الكتاب الورقي سيتراجع ليس فقط بسبب الأزمة الاقتصادية؛ بل لانه لم يعد المصدر الوحيد للمعرفة يقول صالح": قديما كان الكتاب هو الوسيلة الوحيدة والدقيقة والنزيهة للمعرفة، ولكن حاليا الأمر تغير كليا؛ خاصة مع تسارع إيقاع العصر وضيق الوقت؛ فلن يجد البعض رفاهية الجلوس لمدة تتجاوز الأربعة أيام لمطالعة كتاب!. اقاطعه متسائلا: هل شكل تلقي المعرفة سيتغير؟ بمعنى آخر هل القراءة لن تصبح الوسيلة الأنسب لتلقي المعرفة؟ يرد في بساطة متناهية: نعم فاليويتوب وجوجل وغيرها من وسائل السوشيال ميديا أصبحت بدائل أسرع  للمعرفة؛ خاصة وان طبيعة القارىء الحالي اختلفت بالسلب؛ فقارىء هذا العصر مسكين أمامه مصادر كثيرة للمعرفة، ولكن مع تسارع إيقاع العصر قل اهتمامه بالكتاب والجريدة .. يتابع صالح: اتذكر قديما عندما كنا ننتظر روايات الهلال، وقتها كانت الأسماء رنانة أذكر منها بهاء طاهر، ومحمد البساطي .. يصمت لحظة ويتابع: قديما كانت توجد سلسلة بديعة جدا اسمها مختارات فصول؛ كان ينشر فيها أسماء كبيرة مثل إبراهيم أصلان، وعبد الحكيم قاسم. كنا ننتظر صدور الكتاب كأنه حدث، ولكني حاليا للأسف الشديد ابتاع الكتب كنوع من الصدقة على الكتاب. 

أقاطعه متساءلا: فسر لي إذن تصريحات دور النشر التي تقول ان لديها أرباح ومبيعات؟ يرد في سرعة: مع احترامي لكل دور النشر لا توجد لدينا مصداقية ومكاشفة  وأنا اتحدى أي دار نشر تعلن عن مبيعاتها بشفافية. نحن لدينا ثعرات كثيرة منها عدم حصول الكاتب على أرباحه ان وجدت أرباح أصلا؛ فما بين المماطلة وعدم المكاشفة ورفض تنفيذ بنود العقد يجد الكاتب نفسه في دوامة مستمرة؛ فلا توجد مصداقية لا في المكسب ولا في الخسارة، وبالتالي لا استطيع تصديق أي تصريحات ولا نفيها أيضا. 

وعن أزمة الحريات يقول صالح: بالطبع الحريات عامل من ضمن عوامل كثيرة أنا شخصيا لدي رواية حاولت نشرها لكني وجدت تخوفات من الناشر،  ودعني أناقش الحريات بمفهوم أوسع من المفهوم السياسي المباشر؛ أنا اتحدث بمفهوم ثقافي؛ بمعنى ان الناشر نفسه أصبح رقيبا يختار وينتقي ما يريد نشره؛ فهناك دور نشر قد ترفض رواية قوية عن الريف المصري وتفضل نشر كتب عن الدجل والشعوذة للدخول في قائمة البيست سيلر.

انتهى صالح من حديثه وبات من الواضح ان الأمور أعقد مما اتصور ولها أبعاد أكثر مما أظن؛ فكُتّاب هذا الجيل يبحثون عن الانتشار وبعض دور النشر تلهث خلف المنتشر أيا ما كانت جودته، وبالتالي من أين يجد القارىء كُتّاب ومفكرين بحجم أبناء الأجيال السابقة، ولو وجد هل سيكون لهم صدى وسط جوقة نشاز تعزف على أوتار افتراضية في عالم صاخب؟ 


محمد الروبي

ذهبت محملا بالأفكار لرئيس تحرير مسرحنا الكاتب محمد الروبي ، فللرجل تجربته يقول الروبي: منذ سنوات بدأ القلق من احتمالية اختفاء النشر المطبوع (جرائد ومجلات) .. وظللنا نقاوم نحن الذين تربينا على ملمس الورق ونسعد بإعادة الصفحات أثناء القراءة مرة ومرات. بل ونحتفظ بالمطبوعة التي تحمل أسماءنا كما لو كانت شهادة تقدير أو وسام شرف .. بدأ القلق مع ظهور الشبكة العنكبوتية وتساءلنا هل حقا سيأتي اليوم الذي ستختفي فيه الورقة وتبقى الشاشة بديلا؟ ومع قلقنا كانت تزداد مقاومتنا المعتمدة فقط على الاعتياد والظن بأن الكتابة هي (ورقة وقلم). لكن مع مرور السنوات وطغيان الشبكة العنكبوتية وجدنا أنفسنا نعتمد عليها في البحث المساند لكتاباتنا. نبحث عن معلومة أو تاريخ أو صورة ثم نجلس أمام ورقتنا نكتب ونكتب ثم نطبع ما نكتبه على الجهاز الخاص بنا ونرسله إلى المطبوعة الورقية لتنشره. حينها لم ننتبه أن تلك هي البداية فقط؛ بداية تخلينا سعداء عن ملمس الورقة ومن بعده تخلي المطبوعة نفسها عن ورقها. ثم اكتشفنا أن الأمر لا يخص المحرر فقط وتفهمنا بعد حين مع استمرار الغضب أن الأمر يحكمه منطق تؤثر فيه عدة عوامل ، فإذا كنا نحن نكتب على الجهاز الالكتروني فلماذا نستكثر على المطبوعة نفسها الأمر نفسه؛ أن تنشر هي الأخرى على الجهاز نفسه؟ في البداية غضبنا حين علمنا أن بعض المطبوعات أغلقت مطابعها واكتفت بمواقع إلكترونية بديلة. ثم اعتدنا الأمر خاصة مع ارتفاع أسعار الورق الذي جعل من الطباعة ترفا لا يحتمله إلا الأثرياء من الناشرين. دارت العجلة وظلت بعض المطبوعات تقاوم. لكنها مقاومة النفس الأخير. فالعجلة تسير بسرعة تتناسب مع سرعة الانتشار وقلة التكلفة، وها نحن لا نجد مفرا من الرضوخ. فإما أن نتعنت في التمسك بأن الكتابة ومن بعدها القراءة حرف مطبوع على ورق. وحينها نهجر المهنة أو بالأحرى تهجرنا هي. وإما أن نرضخ ونتأقلم مع المفروض علينا. والنتيجة كانت وستظل أنه لا اختيار. إذن فلنكتب وليقرأ الناس ولنقرأ معهم على هذه الشاشة. الأمر هنا لا يخص ما نريد لكنه يخص كيف نتعامل مع ما نحن مجبرون عليه.

انتهى "الروبي" من حديثه الواقعي، ووجدت نفسي أفكر معه في معطيات الواقع؛ فبعد ان تحولت بعض الإصدارات للعمل بشكل الكتروني ماذا عن الأرشيف خاصة بهذه الإصدارات وبغيرها؟ ماذا عن أرشيف  بحجم أرشيف مجلة الكواكب؟ 


 أشرف غريب

يوضح مدير مركز الهلال للتراث الناقد والكاتب أشرف غريب بانه لا يوجد شيء اسمه أرشيف الكواكب يوجد شيء اسمه أرشيف دار الهلال، وكل الإصدارات من المصور والكواكب وحواء وسمير وطبيبك الخاص والكواكب ومجلة الهلال في النهاية كلها تخدم على أرشيف دار الهلال. يصرح "غريب":هناك مشروع كبير جدا هدفه تحويل كل ورقة في دار الهلال إلى معادل رقمي، وذلك بالتعاون مع وزارة الاتصالات بتكليف رئاسي وجار العمل لضخ منصة ثقافية موحدة تشمل كل المؤسسات الصحفية والثقافية في مصر تحت عنوان تراث مصر. 

كنت استمع إلى "غريب"، وأنا اتساءل لماذا تركتنا الدولة في مهب الريح نضرب أخماسا في أسداس؛ فوقت  إعلان توقف مجلة الكواكب تساءل الجميع  عن مصير الأرشيف بينما كان للدولة رؤية أعمق؛ فلماذا إذن الصمت؟ لماذا لم يخرج علينا مسؤول يوضح حقيقة الأمر؟ لماذا لم يتم عمل ضجة إعلامية ليعرف القاصي والداني حجم المجهود الذي ستبذله الدولة حفاظا على تراثها؟ هل الصمت مقصود؟ أين الإعلام من كل هذا؟ تركت أسئلتي ورجعت للتسجيلات الصوتية التي أرسلها لي "غريب" والذي يرى ان سبب أزمات النشر يعود إلى إيقاع العصر وما استتبعه من استسهال؛ فتنوع السويشال خلق قارئا يستسهل الأمور. يتابع غريب: رغم أي شيء يبقى للورق قيمته عند الأجيال القديمة ربما كحنين للماضي وللذكريات؛ ربما لان هناك قراء مازالوا يمارسون عادة القراءة؛ ربما أشياء كثيرة، ولكن في النهاية تبرز قيمة الورق في التوثيق؛ فستظل الوثيقة الورقية أهم، والدليل اننا حتى الآن نعود للجرائد وللوثائق .. يتابع "غريب": مشكلة النشر الالكتروني أنه فاقد للدقة ، فتواتر الخطأ يجعله قاعدة وعندما تريد تصويبه تصبح نغمتك نشازا رغم أنك الأصوب؛ ناهيك عن الافتقار للمهنية، ولكن لاشك ان الفن من المشهيات التي تدفع القارىء لاقتناء العدد الورقي؛ فالفن مغري وهو ما حدث أثناء فترة رئاستي  لتحرير الكواكب، وكذلك الحال أثناء وجودي حاليا كمدير لمركز الهلال للتراث فالمحتوى الجيد يحقق مبيعات جيدة.


 سمير درويش

تجربة آخرى لها تفردها وتنوعها وتميزها؛ بل ولها رؤيتها التي فرضت نفسها لسنوات طويلة انه رئيس  تحرير مجلة ميريت الثقافية الكاتب سمير درويش ، فللرجل باع طويل جدا في الحقل الثقافي الورقي والالكتروني؛ الرسمي والمستقل يرى "درويش":

ان الكاتب العربي لا يزال لا يشعر أن كتابه صدر، أو أن عمله الإبداعي نشر في إحدى المجلات، إلا حينما يمسك (جسدًا) في يده، في حين أن دور النشر الكبرى حول العالم تضع ثلاثة أسعار للكتاب في المواقع الشهيرة لتوزيع الكتب مثل أمازون وجود ريدز وغيرهما: سعر للكتاب الورقي بغلاف مقوَّي، وسعر للغلاف العادي، وسعر للنسخة الإلكترونية وقد ابتكروا جهازًا لشرائها وقراءتها، وبالطبع يتم توزيع النسخ الإلكترونية بأضعاف عدد المباع من النسخ الورقية، لأن قراءتها أسهل، حيث يستطيع ضعاف البصر التكبير، ولأنها لا تحتاج إلى أماكن تخزين، ومن ثم إلى تنظيف، غير أن الوصول إليها وإلى أي جزء في محتواها أيسر بآلاف المرات.

قرأت تعليقًا لأحد (المشتغلين بالكتابة) يقول إن أي شيء إلكتروني لا يعوَّل عليه، لأنه ينمحي بضغطة زر، وهذا دليل كافٍ على الجهل بالتطور التكنولوجي الذي أصبح يحمي الملفات ببساطة بواسطة تخزين آلي يجعل الفرد لا يخاف من ضياع أي شيء، على عكس الكتاب الذي ينفد ولا تجد نسخة منه، وبعض دواويني الأولى نفدت بالفعل ولا أمتلك نسخًا منها.

الخلاصة أن المستقبل – شئنا أم أبينا- للمنتج الإلكتروني، وما يفصلنا عنه ضَعْفُ معرفتنا بأدواته من ناحية، والحنين (القديم) للورق ورائحته وملمسه.. إلخ من ناحية أخرى، خاصة أن أسعار الورق ومواد الطباعة الأخرى ترتفع بشكل جنوني، إضافة إلى أن جيلي كان يطبع 3000 نسخة من الديوان عادي جدًّا، وتنفد الكمية، والآن لا يوزع أهم الشعراء سوى عدد زهيد لا يتجاوز الصفرين!

دور النشر التي يمكن أن تقول إنها (ناجحة) في مصر وأنت مرتاح الضمير نوعان: الأول الدور العريقة مثل الشروق والمصرية اللبنانية والكتب خانة، هي تعمل –غالبًا- على الأسماء المعروفة مضمونة التوزيع، والثاني هي الدور الحديثة التي خرجت من جروبات القراءة مثل "دوِّن" و"عصير الكتب"، وهي دور تجارية تنشر القصص والروايات الخفيفة التي تلقى رواجًا بين الشباب.. مع الإشارة إلى أن (النجاح) نسبيٌّ أيضًا هنا، لأن كل تلك الدور تطبع كميات ضئيلة جدًّا، في حدود 100 نسخة، ويعاد طبع العمل كلما نفد. وفيما غير ذلك فكلها دور صغيرة تحصل على أموال الكُتَّاب والشعراء، وتعدهم بطبع كميات ولا تطبع إلا ربعها!

بالنسبة للجرائد، فإن بعض الجرائد الراسخة أُغلقت مثل الحياة اللندنية، وجرائد كثيرة في الغرب والشرق تحولت إلى مطبوع إلكتروني، ببساطة لأن الجريدة لم تعد مصدرًا للخبر، فالخبر ينتشر في السابعة صباح اليوم مثلًا، والجرائد اليومية تنشره صباح غدٍ، بعد 24 ساعة، بعد أن يكون القارئ استهلكه ونسيه وذهب لما بعده والذي بعدهما. والحل في رأيي أن تتحول الجرائد من الخبر إلى التقرير الإحصائي والمقال، أي أن تعمل على الخبر بالشرح والمقارنة والتحليل، لا أن تنقل الخبر فقط.

اعتقد نحتاج لصفحات وصفحات لنضع روشتة علاج متكاملة، ولكن تبقى السطور السابقة خطوة مهمة قدمنا من خلالها وصفات علاجية لمشكلة النشر الورقي في مصر، والتي أصبحت صداعا مزمنا في رأس مجتمع مبدع بالفطرة يمتلك إرثا حضاريا وثقافيا كبيرا جدا مملوءا بالتنوع يحتاج لتدوين لحظي وتأريخ فوري؛ لذا سيبقى للحديث بقية.
-----------------------------------
تحقيق مينا ناصف







اعلان