25 - 04 - 2024

أن تُصادِقَ مسيحياً مِنْ أسيوط

أن تُصادِقَ مسيحياً مِنْ أسيوط

أعتبرُ نفسى رجلاً سعيد الحظ لأسبابٍ كثيرةٍ، من بينها أننى نشَأتُ فى مدينة أسيوط لأبٍ قاضٍ أزهرىٍ مستنير .. وأسيوط مدينةٌ ذات طبيعةٍ خاصة، إذ أن نسبة المصريين المسيحيين بها كانت فى هذا الوقت (ولا تزال) تزيد عن نسبتهم فى أى مدينةٍ أخرى فى مصر .. مِن المُفترض والحالُ كذلك أن تزيد احتمالات ما يُسمّى حوادث الفتنة الطائفية .. لكن الواقع كان (ولا يزال) غير ذلك تماماً .. إذ أدّت النسبةُ الكبيرة إلى حتمية التداخل ومِن ثمّ التعايش بصورةٍ لا يوجد مثيلٌ لها إلا فى شُبرا .. لم يكن يخلو منزلٌ تقريباً من سكّانٍ مسلمين ومسيحيين .. وبما أن علاقة الجيرة أقوى مِن علاقة الأخوّة فقد لَعِبَتْ ربّاتُ البيوت الدور الرئيسى فى التقريب بين الأُسَر وتنشئة الأطفال كأخوةٍ رغم اختلاف الأديان.

عندما أراد أبى أن يُلحقنى وأخى بنادٍ رياضىٍ لم يتردد فى اختيار النادى الأقرب وهو نادى جمعية الشُبّان المسيحية رغم وجود نادٍ لجمعية الشُبّان المسلمين .. أسهَمَت الرياضة والأنشطة فى تمتين علاقاتٍ سوّيةٍ بين الشباب وإطفاء نيران التعصُب .. كان نجوم النادى من الديانتيْن يَلقَوْن التشجيع بنفس الحماسة، لأنهم ببساطةٍ يُمثلون نادينا جميعاً .. أذكر ثلاثى الأشقاء المسلم (رماح ورامى ورفقى) وثلاثى أرميا المسيحى (الأشقاء كمال وسامى ومجدى) وغيرهم .. لاحقاً حدّثنى عالِمُ الجيولوجيا الفذّ رشدى سعيد عن إنشائه قسم الصُبيان فى جمعية الشُبّان المسيحية فى العشرينيات، فقلتُ له ألا تعلمُ أننى كُنتُ وزير ثقافة حكومة هذا القسم فى نادى أسيوط بعد إنشائك له بحوالى أربعين سنة .. ضحك الخبير العالمى عندما قلتُ له مُداعباً أنها كانت حكومة كفاءات لا مكان فيها للمُحاصصة الحزبية أو الطائفية.

فى انتخابات اتحاد الطُلاّب بمدرسة ناصر الثانوية كان لا بد مِن الفوز أولاً على مستوى الفصل قبل التصعيد .. كانت المشكلة أن فصلى هو فصل المتفوقين وكانت أغلبيته من المسيحيين ومُنافسى مسيحى ، أى أن النتيجة محسومةٌ له طائفياً .. فإذا بى أحصد الأغلبية بكل ما تحمله النتيجة من دلالات .. كُنّا (ولا زِلنا) مجموعةً مُتلاحمةً من الأصدقاء بلا عُقّد .. كُنّا شديدى التديّن وشديدى الترابط فى آنٍ واحدٍ .. فلا المُسلمُ تَنَصّر ولا المسيحى أَسْلَم ولا المَحَّبَةُ ضَعُفَت .. وكُنّا نتبادل النكات، ونكتشف أنها واحدةٌ .. بطلُها عند المسلمين قسيس وعند المسيحيين شيخ.

هل كانت العلاقاتُ مثاليةً؟ بالطبع لا .. ولكنها كانت مشاكل معاملاتٍ بين مصريين لا بين مسلمين ومسيحيين .. هل لم يكن هناك تعصب؟ بالطبع كان هناك متعصبون هنا وهناك لكن العقلاء كانوا ولا يزالون أكثر .. والدليل أن أسيوط تكاد تنعدم فيها حوادث ما يُسمّى بالفتنة الطائفية (أمسكوا الخشب).

زُرتُ كثيراً من دول العالم ذات الأغلبية المسيحية وخرجتُ بيقينٍ أنَّ مسيحيى مصر (وفى صدارتهم مسيحيو أسيوط) هم أكثر مسيحيى العالم تَدَيُّناً .. فالمسيحية فى أصلها ديانةٌ مُسالمةٌ، والمصريون على العموم شعبٌ مُسالمٌ، والأسايطة منهم يميلون للالتزام والمحافظة .. فإذا انصهر كل ذلك فى سبيكةٍ واحدةٍ، صِرتَ أمام تكوينٍ إنسانىٍ فريدٍ يختلف عن كل مسيحيى العالم ..  بشرٌ غير أولئك الذين يملأون الدنيا قتلاً وظُلماً باسم المسيح عليه السلام.

تتجسد فى مسيحيى مصر روحها الصابرة المتسامحة المتحضرة .. هم جزءٌ من بَرَكَة هذا البلد .. ما خانوا ولا غَدَرُوا ولا تخاذلوا عن نصرة الوطن أبداً .. والله لا يرضى عمن يظلمهم.

فى رحلة العمر أعتز بذخيرةٍ من الأصدقاء .. مصريين وعَرَبا .. مُسلمين ومسيحيين .. هم عزوَتى فى السرّاء والضرّاء .. لكن يبقى الأحباب من مسيحيى أسيوط فى ركنٍ ركينٍ من الفؤاد بعد أن خَبَرتُهم وخَبَرونى .. كنتُ أقول لابنى محمد الذى نَشَأَ فى العمارة التى نسكنها بمدينة نصر مع ٢٤ أسرة، كلُهم مسلمون إلا أسرة مسيحية واحدة ليس لها أبناء فى مثل سِنّه (أنا أسعد مِنك حظاً .. فأنت لم تُجرّب يا بُنّى نِعمةَ أن يكون لك صديقٌ مسيحىٌ ومن أسيوط .. أسألُ اللّهَ أن يرزقك صديقاً مسيحياً من أسيوط) .. لم يستجب الله لدعائى، إذ أنَّ ما حدث بعد ذلك أنه صادَقَ مُسلماً من المنوفية .. كان الله فى عونِه (أقصد صديقه طبعاً!) .. كل عامٍ ومصر كلها بخير.
---------------------------------
بقلم: مهندس/ يحيى حسين عبد الهادى

مقالات اخرى للكاتب

بل يجب الإفراج عن الجميع بمن فيهم الإخوان





اعلان