27 - 04 - 2024

رواد التنوير (14) | د. شبلي شميّل .. بصيرة الاستنارة التي تخترق حجاب الأزمنة

رواد التنوير (14) | د. شبلي شميّل .. بصيرة الاستنارة التي تخترق حجاب الأزمنة

- قضية الإرهاب الديني لا اختلاف بين وضعها في الإسلام ووضعها في الأديان الأخرى والداء في الثقافة التي تدين به، وفي رجال الدين الذين يؤولون تعاليمه
- برر نقده للمتدينين بثلاث علل: أولها سلوكياتهم المنحطة، وثانيها تعصبهم، وثالثها التخلف الذي صارت إليهم شعوبهم على أيديهم
- رأى في عمله الطبي والفكري رسالة لا تخصصا ، فعالج الفقراء بالمجان، ونشر أراءه المستنيرة عن طريق الصحافة على نطاق واسع .
- كتب للسلطان العثماني قائلا إن المدنية تقوم على ثلاث دعائم: الحرية والعدل والعلم، وتنبأ بسقوط الخلافة لانتحالها كل أسباب الانحطاط
- في سنة 1899م كتب عن مزايا النظام الجمهوري وعيوب النظام الملكي مبشرا بثورة شعبية عارمة تطيح بالملكيات الفاسدة والسلاطين المستبدين
- من أقواله: 
"لست أخشى تخطئة الناس لي إذا كنت أعرفني مصيبا ولا يسرني تصويبهم إذا كنت أعرفني مخطئا"
"تقادم علينا السبات حتى بتنا في رتبة من صنف الأحياء، لا هي بالميتة فتدفن جثة هامدة، ولا هي بالحية فتبعث بشرا سويا"
"حين ينصرف الإنسان عن تنميق الكلام إلى إتقان العمل تتقوم فيه طباعه فتقل سخافته ويكثر جده ويقل رياؤه وينشط من الذل ويرتقي ارتقاء حقيقيا ويحق له حينئذ أن يعد نفسه إنسانا".

في سنة 1908م أصدر اللورد كرومر كتابه "مصر الحديثة" عزا فيه كثيرا من سمات التخلف في المجتمع المصري إلى الإسلام واتباع المصريين لتعاليم القرآن. وكتب د."شبلي شميل" مقالا بعنوان "القرآن والعمران" للرد على الكتاب ، نشرته جريدة "المؤيد" ضمن نقاش واسع وردود مطولة في الصحافة المصرية، وبدأه بالقول:

"ليس من غرضي هنا أن أتكلم عن الأديان كشرائع موحاة. ولا أن أبين مزية دين على آخر. ولا أن أدخل في غمار البحث في قضايا كل دين لإقرارها أو تخريجها إلى ما يوافق ، بل أن أبين حقيقة علاقة الأديان بالعمران وتأثيرها الحقيقي فيه من وجهها الاجتماعي. إن أكثر الباحثين في هذه العلاقة ينسبون كل ما يرونه في العمران من ارتقاء وتقهقر وحركة وجمود إلى الدين وأكاد لا أعلم أحدا خالف هذه القاعدة".

كان اعتقاد د."شميل" - بخلاف ذلك – أن الدين رغم أنه يؤثر في أخلاق الأمم التي تدين به، لكن هذا التأثير واحد جوهريا، لا اختلاف من جهة التأثير على أخلاق الأمم بين دين ودين آخر، لأن الأديان كلها واحدة من حيث الجوهر، وسعي الأديان كلها واحد لا يتغير، هو إصلاح حال الإنسان في العمران (المجتمع). ووسائل الأديان إلى إصلاح حال الإنسان كذلك واحدة، إذ تحاول الوصول إليه عن طريق مبدأ واحد هو الثواب والعقاب في الحياة الأخرى، لتحمل الإنسان على أن ينصاع إليها.

والنتيجة التي يصل "شميل" هي أن: "حقيقة الأديان لا دخل لها في العمران". والدليل أن: "دينا التوحيد السائدان اليوم هما دين الإنجيل ودين القرآن. الأول يعلمنا التساهل إلى حد أن ينسى الإنسان نفسه في مصلحة قريبه أي أخيه والثاني يجعل الفقير شريك الغني في ماله إذ يفرض له عليه نصيبا منه". أي أن غاية المسيحية والإسلام كسائر الأديان هي في نهاية المطاف غاية واحدة، وعلى ذلك يقول: "لو جاز لي أن أبين ماهية الفرق بينهما لقلت أن الدين المسيحي يوسع المجال للنظر والمحمدي للعمل أي أن الأول دين التجريد والثاني دين المحسوس ، ولكنهما يلتقيان في نقطة واحدة ، وهي إصلاح الإنسان في دنياه – ومن غريب المفارقات أن أتباع الأول ساروا شوطا بعيدا في الحياة العملية وأتباع الثاني وقفوا متقهقرين – وهذا لا يخالف ما قلناه فيهما وإنما يؤيد مبدأنا من أن حقيقة الأديان لا دخل لها في العمران".

الدليل التاريخي الذي يؤيد به رأيه قوي المنطق، هو أن المسيحية لم تغن عن المسيحيين شيئا في قرون تخلفهم ، مثلما أن الإسلام لا يغني المسلمين شيئا في أزمنة تخلفهم، ولذلك يرى أنه: "إذا أرادت الأمم الإسلامية أن تجاري الأمم المتمدنة في ارتقائها ، فالقرآن لا يحول دونها كما أن الإنجيل لم يكن الباعث على نهضة الأمم المتمدنة وما عليها سوى أن تجاريهم". إذن فالعقبة الأساسية التي تقف في وجه نهضة الأمم وتمنعها من مجاراة حركة التمدن العالمية ليست هي الأديان ولكنهم رجال الدين. فتلك العقبات التي يقيمها رجال الدين في طريق نهضة الأمم ويعتبرونها من جوهر الدين أو من ثوابته: "كان يمكن أن نعتبرها في الدين الإسلامي كسواها في سائر الأديان مما يمكن تجاوزه لولا أن المسلم يرى استمساك رجال الدين بها وقيامهم في وجه المصلحين منهم كأنها من فرض الشارع".

وعندما يتناول "شبلي شميل" قضية الإرهاب الديني لا يرى اختلافا بين وضعها في الإسلام ووضعها في الأديان الأخرى، يقول: "ولكن الباحث الذي يتعقب كلام كل من الكتابين – الإنجيل والقرآن – يجد فيهما كثيرا من مثل قوله: (اقتلوهم حيث ثقفتوهم) بعد قوله: (قاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) ومثل قوله: (ما جئت لألقي سلاما بل سيفا) بعد قوله: (من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر) إلى غير ذلك من المفارقات التي لا يذهب مغزاها على العاقل ولا مكانها من القول ولكن قد تضر كثيرا بالجاهل وتكون عنده سببا للتشبث السقيم وللأخذ في سباسب الجدال العقيم فتضر بالدين وبمصلحة العمران معا". ولا يترك "شميل" القاريء حائرا أمام هذه الإشكالية قبل أن يقدم له طريقا للخروج من المأزق: "لذلك رأى العقلاء من المؤمنين في النصرانية والإسلام وجوب رد مثل هذه القضايا المشتبهة إلى مبدأ الدين الجوهري".

سيرة فكر

في سنة 1850م ولد "شبلي إبراهيم شميّل" في بلدة "كفر شيما" جنوبي لبنان ببيت شامي اشتهر رجاله بالنبوغ في العلم والأدب. أخوه "ملحم شميل" (1836 – 1885م) عُرف بالنبوغ في الرياضيات بالإضافة إلى كتابته للشعر وممارسته للصحافة والأدب ، كان يعمل مدرسا في مدرسة "الروم الكبرى" وهي واحدة من مدارس الإرساليات المسيحية التي كان لها فضل كبير في تعليم القطاع الأكبر من المسيحيين الشوام. وأخوه "أمين شميّل" (1828 – 1897م) كان من أشهر المحامين في مصر بعد هجرته إليها، أصدر "مجلة الحقوق" وهي أول مجلة قانونية في العالم، وبرع في ميادين الصحافة والأدب والتاريخ، وكان من أوائل الكتّاب الذين دافعوا عن المسيحية والإسلام في مواجهة نقد المستشرقين.

نشأ "شبلي" نشأة دينية وعُرف عنه الذكاء والاستعداد الفطري للمعرفة ونضج القريحة مع هدوء الطبع وسماحة الخلق والتواضع الشديد. وقد دفعه شغفه بالعلوم إلى النفور من الدراسة الدينية المليئة آنذاك بالمغالطات والأكاذيب العلمية كتأكيد ثبات الأرض وخرافة الثور الذي يحملها على قرنيه، والشياطين التي تتلبس أجساد الناس فتصيبهم بالصرع واللوثة... إلخ. ظل "شبلي" يطمح خلال سنوات وصباه أن يصبح في شهرة أستاذه "ناصيف اليازجي" (1800-1871م) الأديب المتبحر في التراث وآداب اللغة العربية ومفخرة بلدته وأهلها. وهو ما جعله يتعمق في دراسة اللغة العربية وقراءة أمهات الكتب الأدبية والتاريخية والفلسفية، كما تصفح القرآن بتوجيه من أخيه "أمين" ليستقيم لسانه ويرتقي أسلوبه في العربية، وفي تلك الفترة خاض نقاشات مطولة مع أخيه عن أسباب تدهور بلاده وانحطاط الحضارة الإسلامية، وكان رأي "أمين" أن الدين ليس هو الداء، لكن الداء في الثقافة التي تدين به، وفي رجال الدين الذين يؤولون تعاليمه بطريقتهم.

في سنة 1861م ألتحق "شميّل" بالكلية الأمريكية ببيروت لدراسة الطب ، فاستهوته علوم النبات والفيسولوجيا والكيمياء والفيزياء. في سنة 1871م تخرج من القسم الطبي بالكلية ثم سافر إلى فرنسا ليتمم دراسته وكان عنوان البحث الذي تقدم به لنيل الإجازة: "اختلاف الحيوان والإنسان بالنظر إلى الإقليم والتربية". وفي باريس قام باطلاع واسع على الاتجاهات الفلسفية والعلمية الذائعة في أوروبا آنذاك، فاستهواه فلاسفة العلم والأنوار ومناقشاتهم في تاريخ الإنسان ونشأة المجتمعات والأديان وتطورها، وجذبت انتباهه واستغرقته نظرية التطور وكتابات عالم البيولوجي الشهير "تشارلز داروين" وعالم الاجتماع والأنثروبولوجي "هربرت سبنسر" (1830-1903م) والفيلسوف الألماني "بوخنر" وفلسفته في النشوء والارتقاء ونظريته عن التولد الذاتي (الحيوي). وهو الموضوع الذي استغرق متن كتابات "شبلي شميّل" في الصحافة وأصدر فيه مؤلفيه الأساسيين في مصر.

في سنة 1873م عاد إلى مسقط رأسه في لبنان لكنه لم يستقر فيه ، إذ سرعان ما أزعجه استبداد الحكم العثماني ورجال الدين وتخلف الرأي العام بتركيبته الطائفية، فغادر في العام التالي إلى مصر التي اشتهرت بكثرة مثقفيها المستنيرين من قادة الفكر ورموز الإصلاح فأصبحت قبلة للمثقفين الشوام الهاربين من عسف السلطات العثمانية ورجعيتها. لينزل في الإسكندرية أخريات سنة 1874م ثم ينتقل إلى مدينة طنطا ليفتح فيها عيادته ويمارس عمله الطبي والفكري لمدة عشر سنوات، وقد رأى في العلمين معا رسالة لا تخصصا، واجبا وطنيا وإنسانيا وليس مجرد آداء مهني، فعالج الفقراء بالمجان، ونشر أراءه المستنيرة عن طريق الصحافة على نطاق واسع .

تنويري محترف

كتب "شبلي شميّل": "آفتي – إذا كان ذلك يعد آفة – أنه متى بدت لي حقيقة تستهويني لا أعود أضبط نفسي عن إبدائها وعذري في ذلك أن الحقيقة لا يكفي أن تُعلم بل يجب أن تقال أيضا وإلا بقى الناس في العمى وساءوا مصيرا". وكتب: "لست أخشى تخطئة الناس لي إذا كنت أعرفني مصيبا ولا يسرني تصويبهم إذا كنت أعرفني مخطئا". 

في سنة 1884م وبعد سنوات من نشر المقالات عن نظرية التطور (النشوء والارتقاء) في الصحف والمجلات أصدر "شميّل" كتابه "شرح بوخنر على مذهب داروين". أحدث الكتاب ضجة هائلة وأثار غضب رجال الدين المسلمين والمسيحيين في مصر ولبنان الذين هاجموه بشدة، كتب فيما بعد تعليقا عليها: "لقد أحدث نشر هذا الكتاب لغطا عظيما مع أنه لم يطبع منه إلا خمسمائة نسخة لم تنفد إلا بعد خمس عشرة سنة، لغطا قليلا من الخاصة المعدودة فقاموا ينفونه كله أو بعضه كل على قدر علمه أو حسب هواه، وكثير من العامة الذين أكثروا من الجلبة عن سماع لا عن مطالعة لأنهم سمعوا أن فيه مساسا بأعز شيء لديهم هم عليه حريصون. على أن هذه الرجة التي حصلت حينئذ هي المقصودة مني في ذلك الحين، لإيقاظ الأفكار من نومها العميق. ومن منا نحن الشرقيين اليوم أولى بهزة تصل فينا إلى أعماقنا، وقد تقادم علينا السبات حتى بتنا في رتبة من صنف الأحياء، لا هي بالميتة فتدفن جثة هامدة، ولا هي بالحية فتبعث بشرا سويا".

أصبح الكاتب في نظر رجال الدين شخصا متهما في عقيدته فلاحقوه بإثارة حفيظة جيرانه ومرضاه والمترددين على عيادته بطنطا، فاضطر لإغلاقها والانتقال إلى القاهرة سنة 1885م. سكن "شميّل" حي الغورية وافتتح بمشاركة زملاء له مركزا طبيا للعلاج بالمجان. وفي العام التالي شارك في تأسيس جمعية "الاعتدال" التي أخذت على عاتقها نشر أفكار التنوير أو بلغة القرن 19: نشر الآداب العصرية والأخلاق الاجتماعية في الرأي العام. وقد أغلقت سلطات الاحتلال البريطاني سنة 1889م جمعية "الاعتدال" لاتهامها بنشر الآراء السياسية. وفي نفس العام 1886م أصدر "شميّل" مجلة "الشفاء" وهي أول مجلة متخصصة تصدر في مصر والعالم العربي لنشر الثقافة الطبية. وقد عبر عن أعماله الاستنارية العظيمة تلك بقوله: "إن اليوم الذي ينصرف فيه الإنسان عن تنميق الكلام إلى إتقان العمل هو اليوم الذي تتقوم فيه طباعه فتقل سخافته ويكثر جده ويقل رياؤه وينشط من الذل ويرتقي ارتقاء حقيقيا ويحق له حينئذ أن يعد نفسه إنسانا".

في سنة 1896م كتب "شميّل" خطابا مطولا للسلطان العثماني "عبدالحميد" ذكر فيه أن المدنية تقوم على ثلاث دعائم: الحرية والعدل والعلم، متنبئا بسقوط الخلافة لانتحالها كل أسباب الانحطاط، ومتحدثا عن شمس المدنيات التي تأفل بغياب إحدى هذه الدعائم. وشن حملة هائلة على تخلف الشرقيين وآفات الثقافة الدينية الشرقية من أقواله فيها: "الشرقي اليوم فضلة ( = عالة) في الاجتماع لا عمدة، بل هو شريك سلبي لاقتسام المنفعة، لا إيجابي للعمل بها، بل هو يقتسمها مرغما في ورودها إليه من الخارج، ويقوم في سبيلها معارضا من الداخل". وفي سنة 1899م كتب عن مزايا النظام الجمهوري وعيوب النظام الملكي مبشرا بثورة شعبية عارمة تطيح بالملكيات الفاسدة والسلاطين المستبدين. الأمر الذي جعله محاطا بعيون وجواسيس السلطان التركي بعد اتهامه بالتآمر على نظام الخلافة واشتراكه في جمعيات سرية علمانية!. ومن أجل ذلك وبسبب اتهامه بالانتماء لحزب سوري أدرج "جمال باشا" حاكم الشام العثماني المشهور بالسفاح اسم دكتور شميّل على قوائم المحكوم عليهم بالإعدام لمناهضتهم السلطات العثمانية!.   

في سنة 1908 أصدر "شميّل" الطبعة الأولى من "مجموعة الدكتور شبلي شميّل" تضم معظم مقالاته التي كتبها في صحف ومجلات زمنه: المقتطف، المؤيد، الهلال، المقطم، الوطن، البصير، مصر الفتاة، الجريدة، الصاعقة، الأخبار.. وغيرها. وفي نفس السنة كتب عدة مقالات تضمنها الجزء الثاني من مجموعة أعماله عن الاشتراكية صاغ فيها تصورا لإنشاء حزب اشتراكي عربي على غرار الاحزاب الأوروبية. وفي سنة 1910م أصدرت مجلة "الهلال" طبعة ثانية من كتابه "فلسفة النشوء والارتقاء صدّر المؤلف غلافها بهذه الكلمات: "طالع هذا الكتاب بكل تمعن ولا تطالعه إلا بعد أن تطلق نفسك من أسر الأغراض لئلا تغم عليك وأنت واقف على شرفة عقلك تتلمس الحقيقة من وراء ستارها".

كتب دكتور "شميّل" مبررا نقده للمتدينين بثلاث علل: أولها سلوكياتهم المنحطة، وثانيها تعصبهم، وثالثها التخلف الذي صارت إليهم شعوبهم على أيديهم. وقال مدافعا عن نفسه ضد تهمة الإلحاد وتعمد الطعن في الدين: "أنا لست متعصبا ضد الأديان بمعنى الكلمة الموجب لكراهة من لا يشاركك في اعتقادك الخاص، فإذا شددت النكير على الأديان فليس قصدي أن أحرج أحدا في إيمانه ولولا ما أشاهده كل يوم في معاملاتنا من الشرور المستعصية المبتلى بها المجتمع بسبب هذه الحاسة ولا سيما في وطننا الخاص، لما قمت قومتي على الأديان وأحاربها في كل ما كتبت حتى اليوم".

لست ميشرا ضد الإيمان

"مصطفى رياض" باشا رئيس وزراء مصر لثلاث مرات متوالية كتب عنه "شميّل": "كان رياض من محبي العلم والأدب ولقد نصرهما في مواقف كثيرة في الحكومة وخارجها. ومع أنه لم يكافأ دائما كما يستحق، لأسباب طارئة سياسية أو لسوء تفاهم كثيرا ما يتطرف بتدخل آخرين، لم ينفك يعتبر أصحابهما – العلم والأدب – حتى آخر أيامه اعتبارا يوجب له الفخر، وقد عرفني أولا من قراءة كتاباتي في الجرائد والمجلات".

تردد "شبلي" في لقاء "رياض" باشا عندما أعرب عن رغبته في لقائه، كان لدى "شميّل" بالإضافة لتواضعه الشديد اعتزاز كبير بشخصيته وفكره يجعله يتجرج دائما من مقاربة ذوي السلطان، وهو ما عبّر عنه بعد أن توثقت بين الرجلين عرى الصداقة بقوله: "ما كان ذلك استخفافا مني بمجلس الرجل فإني حتى الساعة لم أعرف رجلا أجللته وأحببته كما أجللت وأحببت رياضا وهو كان يسر مني جدا بهذه الحرية. وكأننا كنا على اتفاق في الرأي. وقلما رأيته يخالف لي رأيا إلا في المسائل الاعتقادية وهذه كنت أتجنبها أمامه على قدر الطاقة حتى لا أقلقه في ضميره. لأني كنت ألحظ عليه شيئا من القلق كلما مسها الحديث بشيء وأنا لست مبشرا ضد الإيمان".

ويصف صديق مشترك بين الرجلين علاقتهما بالقول: "أتريد أن تعرف كيف يوجه شميّل الخطاب إلى رياض؟ هو يقول له أولا: دولتك، ثم: سعادتك، ثم: حضرتك، ثم يقف ويتقدم نحوه ويشير بيده إليه ويقول له: أنت، متدرجا في ذلك بحسب تدرجه في الحديث وتحمسه فيه". هذا الإباء الخلقي في شخصية "شميّل" وصف به "جمال الدين الأفغاني" لقاءه به سنة 1875م. وإن كان "الأفغاني" قد خدع "شميّل" عن حقيقة أهدافه السياسية وميوله الفكرية الحقيقية، خلال الحديث القصير الذي جرى بينهما. 

كان موضوع الحديث تصور الإنسان البدائي للإله، ورأى "الأفغاني" أن الإنسان الأول وجد ضالته في السماء ليسمو بها عن سائر الموجودات الأرضية المنحطة. وكان رأي "شميل" أن الإنسان البدائي فكر في الإله كي يحتمي به من مخاوفه من المجهول أو إعجابا بما هو كائن من حوله، وعليه ألّه الإنسان الأول الطبيعة. في ذلك الوقت كان "الأفغاني" قد شرع في ذلك الوقت في محاولة تطويع الأفكار الماسونية لخدمة أهدافه، ويسعى لتأسيس محفله الماسوني الأول في مصر، مما جعله يتحدث مطولا خلال اللقاء عن وحدة الأديان والتسامح بين البشر والإخاء والمساواة بين الشعوب. وهو ما جعل "شميّل" يتوهم – في صراحته وصدقه المطلقين مع نفسه ومع الناس - أن "الأفغاني" أقرب للفلاسفة الرواقيين المؤمنين بوحدة الوجود منه إلى المشايخ المسلمين. وصرح بذلك بعد ذلك في مقال له عن "الأفغاني" نشره في مجلة "المقتطف"، لكنه تعجب في نفس الوقت من رسالة "الأفغاني" التي ترجمها الأستاذ الإمام "محمد عبده" بعنوان: "رسالة في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم وإثبات أن الدين أساس المدنية والكفر فساد العمران"، نشرت الرسالة في مصر سنة 1895م ونقض فيها "الأفغاني" نظرية التطور بحجج سطحية تثبت عدم استيعابه لأطروحاتها، فقد رأى أن البرغوث لن يصبح فيلا بعد ألوف أو ملايين السنين لأننا نرى في البرغوث ما يشبه خرطوم الفيل!، وهو ما يدل على سوء إدراكه لنظرية "داروين". إلا أن "الأفغاني" أقر في نفس الوقت اقتناعه بمبدأ الانتخاب الطبيعي والصراع من أجل البقاء. وكل ذلك جعل "الأفغاني" ملغزا وغير مفهوم في نظر "شبلي شميل" وهو ما جعله في النهاية يسجل اعترافه بأنه لم يخبر حقيقته.

لم يدرك دكتور شميّل تلاعب "الأفغاني" بالدين رغم أنه اتهم به الزعيم الوطني "أحمد عرابي" وجعله سببا من أسباب هزيمته، وهو ما كتبه في فصل من مذكراته قال فيه: "قد يظن بعض السياسيين أنهم يأتون ذلك عن حكمة ليدفعوا عنهم شر الجهلاء كما فعلت الحكومة العثمانية الدستورية اليوم إذ ظنت أنها تملك قياد الجهلاء، وهم لا يملكهم إلا إقامة العدل الصحيح ومن ورائه السيف حتى يقره العلم، فتزلفت – الحكومة – إليهم بأن منعت نشر أفضل كتاب في الإسلام لأعظم مصلح في المسلمين وهو كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين. وما أشبه سلوكهم في هذه المسألة بسلوك عرابي إذ قام يتبرك بالحجب (الأحجبة) ويلبس المسابح ليتقرب إلى العامة وهو يحسب أن النصر له من ورائهم، وما كان له من ورائهم إلا الفشل. وهم – السياسيون – بعملهم هذا اليوم أبعدوا غاية الدستور عنا غافلين عن أن التنازع حولنا اليوم شديد".

يجب أن نعترف أنه كانت للدكتور "شبلي شميّل" بصيرة استنارة يمكنها أن تخترق حجب المستقبل لدرجة الشعور الماثل بأنه لايزال يكتب اليوم بيننا.
---------------------------
بقلم: عصام الزهيري
من المشهد الأسبوعية







اعلان