26 - 04 - 2024

كفاية

كفاية

فى مثل هذه الأيام قبل ١٨ عاماً .. الساعة ١٢ يوم ١٢ شهر ١٢ سنة ٢٠٠٤ انطلقت (بدون تصريح) أول مظاهرة لحركة "كفاية" .. كل عامٍ ومصر بخيرٍ ولها المجد .. وجَزَى اللهُ مُؤسسى كفاية عن مصر خير الجزاء .. ولَطَّخ بالخزى كل من يحاول بالقهر والتزوير أن يمدد فترة حُكمِه، ويُوَّرِث هذا الوطن الكريم (أيَّاً كان المُوَّرَث له: الأهل أو العشيرة أو المؤسسة).

وقد اعتدتُ فى هذه المناسبة من كل عام أن أُعيد نشر مقالٍ كتبته لجريدة الأهرام سنة ٢٠١٤ بعنوان (بل افخرى يا مريم) بتصرفٍ .. قبل أن أُمنَع لاحقاً من الكتابة والظهور فى كل وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، وقبل أن تعود أمانة سياسات الحزب الوطنى إلى صدارة المشهد (بكل رموزها من أبناء البنك والصندوق لا ينقصهم إلا الوريث)، وتبتلع السجونُ نُبلاءَ كفاية .. وكأنما قَدَرُ هذا البلد أن يظل فى رباطٍ إلى يوم القيامة .. معركة تتجدد بين ظَلَمَةٍ تتعدد صُوَرُهم وتتبدل أسماؤهم وجلودهم .. وأجيالٍ تتوالد لا تتوقف عن المقاومة والابتكار والهتاف فى وجوههم (كفاية).

كانت مريم صُغرى أبنائى قد انزعَجت وتأثرت عندما أخبرَتْها زميلاتُها أن أحد الكائنات تطاوَلَ فى مُرافعته فى إعادة محاكمة الديكتاتور (فى لحظةٍ كاشفةٍ من تجليات الثورة المضادة)، واتّهم حركة كفاية بأنها قبضت ثمن اشتراكها فى المؤامرة الكونية ضد النظام العفيف الشريف النظيف اللطيف الذى كان جاثماً على مصر قبل يناير 2011.

يعتز أبنائى (ومن بينهم مريم) بأن أباهم لم يترك لهم إرثاً إلا سمعةً طيبةً .. أساسُها انتماؤه إلى أنبل وأشرف حركات المقاومة وأكثر مبتكرات المصريين عبقريةً فى التاريخ الحديث .. الحركة المصرية من أجل التغيير ..  الشهيرة بحركة كفاية .. لكن يبدو أن السَفَلَة يستكثرون علينا حتى هذا الاعتزاز.

يا ابنتى .. عندما كان هذا المتطاول يتقاضى ثمن دفاعه عن الجواسيس والشواذ والقَتَلة، كان أبوك وأعمامك فى حركة كفاية يدفعون من أعمارهم وسمعتهم ومناصبهم وأرزاقهم (ولا يزالون) ثمن وقوفهم فى وجه رأس نظام الاستبداد والفساد الذى جرّف الوطن وحاول أن يُقزّمه ليكون على مقاس ابنه.

كان كلٌ منهم مستقراً فى حياته، وبعضُهم أعلامٌ فى مجالاتهم .. وعندما طَفَح الكيل وظهر الفساد فى البر والبحر والجو وبدا واضحاً أن رأس النظام مُصّرٌ على الاستمرار فى حُكمه المزوّر حتى آخر نَفَسٍ فى صدره ثم يُورّثه لابنه محدود الكفاءة والموهبة .. كان يمكنهم أن يكتفوا بمقاومة هذه الإهانة وهذا الفساد والاستبداد بقلوبهم وهو أضعف الإيمان .. لكنهم أَبَواْ أن يكتفوا بمصمصة الشفاه .. فخلَعوا أرديتهم وانتماءاتهم السياسية ولم يتدثروا إلا برداء الوطن .. وشكّلوا هذه الحركة النبيلة .. وفاجأوا مصر والعالم بهتافهم المدوّى .. لا للتمديد .. لا للتوريث .. وظلوا سنواتٍ يقفون بأعدادهم القليلة على سلّم نقابة الصحفيين، كفرض كفايةٍ عن ملايين المصريين .. كانوا ينوبون عن شعبٍ بأكمله .. ووصَل الأمر أحياناً لأن يقف محمد عبد القدوس وحيداً حاملاً ميكروفونه فى يدٍ وعَلَمَ مصر فى اليد الأخرى .. كان كلٌ منهم على ثغرٍ من ثغور الوطن يذود عنه .. وكان الثغر الذى تشرّف أبوكِ مع آخرين بالذود عنه هو جبهة المال العام الذى تَداعَى عليه الأَكَلةُ من مصاصى الدماء.

فى البداية تعامل المصريون مع هذه الثُلّة المجاهدة بالدهشة .. ثم تحولت الدهشة إلى إشفاق .. وتحوّل الإشفاقُ إلى إعجاب .. ثم تضامُن .. ثم انضمام .. ثم احتضنتهم مصرُ وذابوا بين الملايين التى نزلت إلى الميادين لتخلع الطاغية فى يناير ٢٠١١.

يا مريم .. تعلمين ويعلم المصريون أن قامات كفاية من أمثال عبد الجليل مصطفى ومحمد أبو الغار وجورج إسحق وأحمد بهاء الدين شعبان وعصام سلطان وغيرهم ممن تضيق المساحة بحصرهم .. هم من النوع الذى يُعطى ولا يأخذ .. مِثلُهم لا يقبض وإنما يدفع الثمن راضياً مرضياً .. دَفَعَه أحد منسقى حركة كفاية .. العالم الوطنى الجليل الدكتور عبد الوهاب المسيرى عندما اختُطف من ميدان السيدة زينب وهو فى السبعين من عمره مريضاً بالسرطان، وأُلقى فى الصحراء مع زوجته العالمة الجليلة الدكتورة هدى حجازى فى برد يناير ٢٠٠٨ فأُصيب بالتهابٍ رئوىٍ شديدٍ ومات بعد ذلك بستة شهور .. ودَفَعَه منسقٌ آخر لهذه الحركة النبيلة .. الصحفى الوطنى الدكتور عبد الحليم قنديل الذى ضُرِب ضرباً مُبّرحاً ثم تم تجريده من ملابسه وتُرِك فى منطقةٍ نائيةٍ فى ليلةٍ قارسة البرودة مع تحذيرٍ له بألا ينتقد مظاهر التوريث مرةً أخرى .. أما الثمن الذى دفعه أبوكِ فأنتِ أدرى به .. غير أن شهرة أبيكِ وزملائه جنبّتهم أثماناً أغلى، دفَعَها المئاتُ من شباب كفاية ومجهوليها دون أن يشعر بهم أحد.

يا ابنتى .. بعد عشرين عاماً من المقاومة غير المتكافئة من البطل عمر المختار وصَحْبِه للاحتلال الإيطالى .. وبعد أن خان من خان، وباع من باع،  وأطبق المحتلون على الثُلّة القليلة المتبقية .. سأله أحدُ الصامدين معه (لماذا نستمر فى المقاومة واحتمالاتُ النصر منعدمة؟)،  فأجابه البطل الثمانينى (لكى يفخر أحفادنا ويقولوا  عن هذه الفترة: كان هناك رجال).

هَوِّنِى عليكِ يا بُنَّيَتى ولا تجزعى مِن هذا التطاولِ مدفوعِ الثمن الذى ينفجر فى وجوهنا ويظن أنه يستطيع إعادة كتابة التاريخ على هواه .. سيذهب أبوك وزملاؤه إلى دار الحق .. وسيذهب مبارك وأعوانه ومحاموه وإعلاميوه ومذيعاته وفضائياته واستوديوهاته التحليلية وكل هذا الغثاء .. وسيذهب العجوز المتطاول ويَبلَى الروب الذى يرتديه والنقود التى يتقاضاها .. وستجلسين إلى أحفادك ذات يومٍ يسألونكِ كيف تجرّأ هذا النظام الفاسد المستبد على مصر فى هذه الفترة المخصومة من عمر الوطن وسعى للتوريث دون أدنى اعتبارٍ للشعب، ألم يكن هناك من يقاوم؟ .. عندها ستتذكرين أباك وزملاءه وتذرفين دمعةً وتترحمين عليهم .. ثم تتسع ابتسامتك وتقولين لأحفادك بفخرٍ : (لا .. لقد كان هناك رجال).
----------------------------
مهندس/ يحيى حسين عبد الهادى


مقالات اخرى للكاتب

بل يجب الإفراج عن الجميع بمن فيهم الإخوان





اعلان