29 - 03 - 2024

السيد أفندي عصر .. شمسٌ لم تَغِبْ !

السيد أفندي عصر .. شمسٌ لم تَغِبْ !

في تراسِ بيتِه المُطلِّ علي حديقةٍ صغيرة، أولاها خَفرُ الدرك عناية خاصة، فبدتْ كإحدي جِنان الخُلد، جلسَ علي كرسي خيزران يُطالِعُ صحيفة الأهرام لمعرفة آخر الأخبار .

قاوم بردَ (طوبة) القاسي ببيجامة من الكستور المُقلَّم طوليا، فوقها روبٌ من صوف الجوخ، وغطي رأسَه بـ(زعبوطٍ) من الصوف أخفي معالم وجهه، الذي لم تظهر منه سوي نظارةٍ سوداء سميكة العدسات تُعظِم له كلمات الجريدة ليستطيعَ قراءتها .

أبهرتني هذه الصورة، التي لم أرها إلا في أفلام السينما، فسألتُ عن صاحبها، فإذا هو (السيد أفندي عصر) عمدة قريتنا المَهيب، الذي قيل عن حَزمه وعزمه حكاياتٌ وروايات.

ورثَ السيد أفندي عصر (العُمدية) كابرًا عن كابر، فاستتب في عهده الأمن، واختفتْ الجريمة، وذابت الخلافاتُ بين الأسر بعد تاريخٍ طويل من الدم .

نال درجةَ (الأفندية) عن استحقاق، وحالتْ ثورةُ يوليو بينه وبين درجة (البكوية) .

في قريةٍ عملَ معظمُ أهلها بالفلاحة، حيث (الشقا والغُلب)، الذي تتكرر رحلتُه يوميا بسَوْقِ الغنم والمواشي إلي الحقول صباحا، لتعود ليلا بعدما تجلد صاحبَها سياطُ الغيطان، وما يجري فيها من زرع وقلع وري تحت لهيب الشمس المُحرقة، ولدَ السيد أفندي قبلَ ثورة ١٩ بعامين، ونشأ في بيت عزٍ ونعيم، فدفعه أبوه للتعليم ليهرب بجلده من عيشة الشقا وسط الحقول، التي نحلتْ وبر الفلاحين، وورشِ صناعة الأقفاص، التي تحكي الأساطيرُ أنه فرتْ منها الجن، فحصل علي دبلوم التنمية الصناعية قسم زخرفة، وعملَ إثر تخرجه في كلية الزراعة جامعة القاهرة مدة عامين، حتي آلتْ إليه (العمديةُ) عن جده سنة ١٩٤٩م، فضحي بوظيفته، وعضوية الاتحاد الاشتراكي، وعضوية جمعية عرابي .

ما إن أمسكَ الرجلُ بزمام القرية، حتي أثبت أنه عمدة من العيار الثقيل، فوأد كثيرًا من الفتن، وأذاب العديدَ من الخلافات، والتي لولا دهاؤه وحكمتُه في التعامل معها لسبحتْ بسببها قريتُنا في بحورٍ من الدم .

اختير لكفاءته في احتواء الأزمات، التي دوختْ رجالَ الأمن، عضوا بلجنة العُمد والمشايخ، فدُونتْ آراؤه في حل المشاكل؛ ليستفيد منها الآخرون .

امتاز الرجلُ - طيبَ الله ثراه - بحزمٍ وصلابة وقوة شكيمة، جعلت الصمتَ والسكون لغة مَجلسه، وإن كَثر الحضور، فلا يتكلم الناسُ إلا همسا، ولا يُسمع بدوار العمدية صخبٌ ولا لغط، ولا يُسمح بـ(قيل ولا قال)، فالكلام بإذنٍ، والحركة بحساب .

بجانب حزم الرجل، الذي أجمع عليه الكلُّ، عُرفَ بسخاء اليد، وكثرةِ البذل والعطاء حيثما حلَّ، وأينما ارتحل، لسانُ حاله :

اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلي، كما امتاز بشدة انتمائه لقريته، وحرصِه علي مُستقبل أبنائها، فضحي بأغلي أرضه لإقامة المدرستين الابتدائية والإعدادية، وتشفَّعَ لدي أخواله لإقامة مدرسة إمياي الثانوية .

بثيابه المصنوعة من أغلي الأصواف، وطربوشه المخروطي ذي اللون الأحمر القاني، الذي تتدلي من خلفه خيوطٌ حريريةٌ سوداء، اعتاد الرجل أن يجوب شوارع القرية ليتأكد من تواجد الخفر، واستتباب الأمن .

جمع الرجلُ إلي شدةِ الحزم لينَ الجانب، والحدب علي الضعفاء، ومكسوري الخاطر، ففي صبيحة أحد الأيام، وضع حلاقُ القرية طرفَ ثوبه بين أسنانه، وانطلق يتعثرُ في خطواته إلي دوار العمدة؛ ليحلق له شعره.

أمام السيد أفندي وقف الحلاقُ بقلب مُنتفضٍ، وأصابع مُرتعشة، يندبُ حظه، وهو يتتبعُ بعض خصلات الشعر الثائرة، التي حالت نظارة العمدة بينه وبينها، فأخذ يحور ويدور دون أن تثبُتَ له عينٌ في مِحجر، ففطن العمدة لمعاناته، فخلع نظارته، هنالك تنفس الحلاقُ الصعداء، وزعق بأعلي صوته قائلا : (أخيرا اتقلعت يخرب بيت أصحابك)، فضحك العمدة بملء فيه، وضرب كفا بكف من عفوية الرجل !

في بحرِ الحياةِ هادرِ الأمواج، وقفتْ إلي جوار السيد أفندي زوجةٌ، كانت هي الأخري عُمدة بحق، فنجحتْ - بما امتازت به من رأي سديد، وعقلٍ رشيد، وقلب رحيم - في إدارة بيته، وتربية أولاده وبناته، وتوفير جهده لمشاكل القرية، وهمومها التي كانت للرُكب .

السيد أفندي عصر .. إرادةٌ لا تعرف المستحيل، إدارةٌ لا تعرف التراخي، حزمٌ وعزم يُدرَس في إدارة الأزمات، جبرٌ لخاطر الضعفاء والمحتاجين، شياكةٌ ولباقة وثقافة تؤهله عن جدارة لدرجة (الباشاوية) .. رحم الله الفقيد، وبارك في ذريته من البنين والبنات، الذين بسيرهم علي نهجه - خاصة ابنه المهندس(جمال) عمدتنا الحالي - أبوا أن تغيبَ شمسه .
---------------------------
بقلم: صبري الموجي 

مقالات اخرى للكاتب

د. خالد الخطيب .. مسؤولٌ تُرفع له القُبعة !





اعلان