25 - 04 - 2024

وظَلَ وجهُه مُسودَّا وهو كظيم !

وظَلَ وجهُه مُسودَّا وهو كظيم !

ربطتني بالمَلِك مُؤخرا صداقةٌ حميمة وطَّد أواصرها ما وجدتُه فيه من رجولة وشهامة وإخلاص، لم أجده في كثيرٍ ممن عرفتُ من الناس .

والمَلك هو لقبٌ ورثَه أحمد فاروق أبو توت عن والده، وبه عُرف واشتهر بين الناس . وحتي يعرفَ القارئُ الفارقَ بين اللقب والكُنية، أقولُ إن الكُنية هي اسمٌ مسبوقٌ بأبٍ أو أم مثل أبو بكر، أو أم حَنين، أما اللقبُ فهو الصفةُ التي تسبقُ الاسم أو تلحقُه مثل كلمة الصديق في قولك أبو بكر الصديق، أو الصديقُ أبو بكر.

أعودُ فأقول : عرفتُ المَلك عندما كنتُ أمارسُ رياضة الجري ضاحية القرية من الجهة القبلية بجوار منزله الريفي المُقام علي رأس حقله، واستضافني مرة حتي يجفَّ عَرقي، ويسكُنَ وجيبُ قلبي إثر ماراثون جريٍ دام نصفَ ساعة، وهو جهدٌ شاقٌ لشخصٍ انقطعتْ صلتُه بالرياضة منذ ثلاثة عقود، وصار (ينهجُ) من مُجرد التفكير !

تكرر ترددي عليه، فجمعني مجلسُه بأناسٍ لم تكن لي بهم صلةٌ؛ لاختلاف الثقافة والفكر، ولكني وجدتُ فيهم نماذجَ رائعة فمنهم من امتاز بموهبة فذّة في استخدام لغة الإشارة، والتي بفضلها يستطيعُ إقناعَ المُخاطَب بما يقول، حتي وإن كان يَكذب !

حولَ مَوقدِ الفحم جمعتنا ليالي الشتاء ننتظرُ أقداح الشاي الساخن، ويتباري الحضورُ في سردِ الحكايات المُشوِقة، والنكاتِ الظريفة، والمُلَح الطريفة، التي تُنسيهم عناء العمل بالفلاحة، وما يَلزمُها من حرثِ الأرض وريِّها، وجَمعِ المحاصيل ودَرسِها، وجني الثمار ورشها، وغيرها من أعمالٍ شاهدتُها بعيني خلال قُربي من تلك الشِلة، التي تعرفتُ عليها، ولم أعُد أقوي علي الغياب عنها بعد حياة تقوقعٍ، وعُزلة عشتُها من قبل، وحقا المرءُ عدو ما يجهل، ومن ذاقَ عرَف .

بين تلك الشِلة، رأيتُ النُّبلَ في أبهي صوره، والصدقَ في أسمي معانيه، والتعاونَ الذي شربوه حتي الثمالة بفضل المُزاملة أو ( الزِمال)، الذي فرضته عليهم ثقافةُ الحقول، ومعناه أن يُعاونَ الأخُ أخاه في عمله اليوم، ويُعاونُه أخوه في حقله غدا، وبهذا يتغلبون علي أعمالهم الشاقة !

في ذلك العالم الجديد، ألفيتُ مواقفَ مُضحِكة، وأحداثا مُشوِقة منها أنه كان لأحد أفراد تلك الشِلة، وسأرمز له بالحرف (م) كلبا حراسة (ذكر، وأنثي)، وكانت الأنثي كلبة( رومي ) لونُها أسودُ فاحم، ذات شعرٍ طويل ينسدلُ علي عُنقها، وينسابُ علي ظهرها، فيكسبها جمالا ودلالا .

ألفتْ تلك الكلبةُ ترددي علي المكان، فكانت تقابلُني بالتِرحاب؛ لأنني أحملُ إليها طعامها، ليس لسوادِ عيونها، أو لانسدالِ شعرها، بل طمعا في أن أظفرَ بعد حَملِها ووضعها بأحدِ جرائها لأُطلقه في حديقةِ المنزل، يفرحُ به صغيري ( مُعاذ ).

استطلعتُ الخبر، فعلمتُ قُرب مَوعد إخصابها، فأكدتُ علي (م) ضرورة أن يَجلبَ لها كلبًا من سُلالة معروفة، فرفض لتفضيله الكلابَ الخليط لشراستها .

أذعنتُ لرأيه، وزرتُه في موسمِ تزاوجها، فرأيتُها، وقد التفتْ حولها كلابُ الحقول، يحدوها أملُ الفوز بهزة ذيل، أو رعشةِ عُنق، أو إرناءة لحظ، وكان من بين تلك الكلاب كلبٌ أسود، نحل شعرُه، وخيَّم عليه الجرب، فحذرتُ (م) من أن يمسَّ ذلك الكلبُ الدميم كلبته، وإلا فجزاؤها القتل، فقال ضاحكا : إنها لم ينحط ذوقُها لهذا الحد، ودخلتُ معه صحن الدار لقضاء مهمة، كان شُغلي الشاغل خلالها هو الخوف من أن يخلو ذلك الكلب بكلبتنا (المودرن)، وسريعا خرجتُ أتحسسُ خبرها، فوجدتها تقف خَلفَ حمار، وتلتفُ بحبله، لتجنُب صولاتِ ذلك الكلب الرذيل، لكنها - للأسف - كانت تخدعُنا، وهو ما كشفتْ عنه الأيامُ لاحقا، إذ ظللنا ننتظرُ ظهورَ بطنها؛ لنعلم أحملتْ أم لا ؟

فلما طالتْ فترةُ الانتظار، دون أن تظهرَ بطنُها أيقنَّا أنها مُبرَأة، إلي أن جاءها المخاضُ بليل، وولدت ثمانيةَ جراء .

غبتُ عن (م) فترة، وعندما رآني شدني من يدي لأري بعينيِّ رأسي المُصيبة، وما جلبته له تلك الآثمةُ من عار، إذا كانت الجراءُ كلُّها سوداء بلون الكلب الأجرب، فأيقنا أنها غافلتنا وخرجت إليه، أو تسللَ هو إليها بليل ووقع المحظور، ولم يكن التفافُها بالحبل إلا خداعا لنا وتمويها علينا، هنالك نظرت إلي (م) نظرة عتاب بوجه عابس، وجبين مُقطَّب، فإذا به وجهُه مسودٌ وهو كظيم يتواري منِّي من سوءِ ما بُشر به .

-------------------------

بقلم : صبري الموجي

مقالات اخرى للكاتب

د. خالد الخطيب .. مسؤولٌ تُرفع له القُبعة !





اعلان