10 - 11 - 2024

على طريق الخلاص (٢) سؤال الدم

على طريق الخلاص (٢) سؤال الدم

(أَتَعْلَمُ أَمْ أَنْتَ لا تَعْلَمُ     بأنَّ جِراحَ الضحايا فَمُ

أتَعلَمُ أنَّ جِراحَ الشهيدِ    تَظَّلُ عن الثأرِ تستفهمُ) - محمد مهدى الجواهرى.

قُلنا إن خارطة الطريق التى جُرِّبَت فى كل الشعوب التى ابتُلِيَتْ بأسوأ مما ابتُلينا به، تبدأ بمكافحة الاحتقان الداخلي وتجاوز الثارات .. إذ أنه لا أملَ فى أى نهوضٍ قبل أن تَخمد النيران المتأججة فى القلوب والعقول .. لا أقصد بالقطع ما اصطُلِح على تسميته بالمصالحة السياسية، فهى فى الحقيقة ليست إلا صفقاتٌ عانت منها مصر على مدى عدة عقودٍ .. صفقات بين طرفين وفقاً لموازين القوى بينهما، أما الشعب فلم يَجنِ من ورائها خيراً (قطعاً نحن نطلب الحرية لكل مظلومٍ .. ولكن عدلاً لا صفقةً).

المطلوب مصارحةٌ لا مصالحة .. مصارحة لا تتم إلا فى دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطية (نحلم بها وسنظل نعمل لها، ونتحمل الأذى فى سبيلها "ولَنَصبِرَنَّ على ما آذَيْتُمونا" .. وَإِنْ لم نلحق بها فلا بد أنَّ أحفادنا سينعمون بها ذات يومٍ بإذن الله .. إذ يستحيل أن تستمر مصر فى هذا القاع طويلاً) .. مصارحةٌ لا كتالوج محدداً لها، وإنما هى أفكارٌ تتشارك مع أفكارٍ لنخرج منها بعدالةٍ انتقاليةٍ بلمسةٍ مصريةٍ، تبدأ بطرح الأسئلة .. وأوَّلُها سؤال الدم عن كل الأحداث الدموية التى خَضَّبَت وجه مصر على مدى السنوات الاثنتى عشرة الأخيرة .. فلدماء الضحايا ألسِنَةٌ لن تَكُّفَ عن الزئير ولن تُخرِسَها أعتى أدوات القَمع .. وستظل تستولِد كلَّ يومٍ غِضاباً وحانقين جُدُداً .. إلى أن تنجلى الحقائق .. وبعد ذلك فقط إما صفحٌ أو قصاص.

سؤال الدم يجب أن يشمل كل المجازر والضحايا بلا استثناء: بدءاً من أحداث الثورة فى ميادين التحرير، مروراً بأحداث مجلس الوزراء، ومحمد محمود، وماسبيرو، والعباسية، وبورسعيد، والحرس الجمهوري، والمنصة، ورابعة والنهضة، وإحراق الكنائس، وكل العمليات الإرهابية .. وغيرها من المجازر الجماعية .. بالإضافة إلى الجرائم الفردية كاغتيال عماد عفت وجابر جيكا ومحمد الجندى والحسينى أبو ضيف وشيماء الصباغ وضحايا ميكروباس ريجينى .. وكل روحٍ أُزهِقت بتعذيبٍ أو فى سجن .. وهى دماءٌ مصريةٌ ليست خاصةً بفريقٍ دون فريق .. فلا قميص رابعة مِلْكٌ للإخوان (معظم الضحايا لم يكونوا من أعضاء الجماعة) .. ولا دماء ماسبيرو شأنٌ خاصٌ بالكنيسة .. ولا الثأر لدماء ضحايا الإرهاب حقٌ حصرىٌ للعسكريين .. وإنما هى كلها دماءٌ مصريةٌ غالية، نَزَفَتْ من جسد الوطن، وتؤلمنا جميعاً .. مسلمين ومسيحيين .. عسكريين ومدنيين .. ولا تجوز المتاجرة بها.

والمصارحةُ لا تعنى الانتقام وإنما هى عمليةٌ شاملةٌ سبقتنا إليها شعوبٌ كثيرة .. تمزج بين التحقيق النزيه الشفاف والاعتراف والاعتذار الشجاع .. ثم العقاب والتعويضات أو الدِيَّات والعفو الشامل باستفتاءٍ شعبىٍ .. على سبيل المثال.

لكنَّ لهذه المصارحة شروطاً لا تتم بغيرها .. أبسطها أن تُشرف عليها وتديرها لجنةٌ من الخبراء الوطنيين الثُقات العُدول ممن لم يخدش تاريخَهم ولا نزاهتَهم ولا كفاءتَهم شائبةٌ .. تساندهم أجهزةٌ ومؤسساتٌ محايدة حياداً حقيقياً .. فى دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ فعلاً لا تهريجاً.

الكل أخطأ، وإن اختلفت الأوزان .. والكُلُّ أُصيب، وإن اختلف الألم .. لكن يظل أكثرنا أَلَماً هم أولياء الدم المباشرون: الأم الثكلى، والأب المكلوم، والابن المُيَّتَم، والزوجة المُترملة .. كلٌ من هؤلاء فقد حبِيبَه فى حدثٍ يختلف وفق زاوية الرؤية .. الاتهامات مختلفةٌ لكن الحزنَ واحدٌ .. هل يختلف حزن أم كريم بنونة (يناير) عن حزن أم العقيد أحمد المنسى (رفح) عن حزن أم أسماء البلتاجى (رابعة) عن حزن أم مينا دانيال (ماسبيرو) عن حزن أم الحسينى أبو ضيف (الاتحادية) عن حزن أم عمار محمد بديع (ميدان رمسيس) عن حزن أم شيماء الصباغ (ميدان طلعت حرب) عن حزن أم طفلٍ قُتِل فى استاد بورسعيد؟ .. فليكن هؤلاء هم نقطة البدء .. بعيداً عن دهاليز السياسة وصفقاتها.

فى الصعيد .. تهرس طاحونةُ الثأر عشراتِ الجماجم .. إلى أن يعفو وَلِىُّ دمٍ احتساباً لوجه الله، فتتوقف المجزرة .. إذ لا يُزايدُ على صاحب الدم أحد .. هل تذكرون الإعلامى العظيم فهمى عمر كبير الهوارة الذى تَسَامَى على حُزنِه وخَرَقَ العُرفَ السائد وتَقَّبَل العزاء فى فلذة كبده ليُخمد فتنةً كبرى فى قنا قبل أن تنشب؟ .. يومَها لم يستطع أحدٌ أن يزايد على حزن أبٍ مفجوع .. مِن المفارقات أن الأكثر حُزناً وأَلَماً هم الأقدر على التسامح .. وعلى هؤلاء نُراهِن.
------------------------
مهندس/ يحيى حسين عبد الهادى

مقالات اخرى للكاتب

بل يجب الإفراج عن الجميع بمن فيهم الإخوان