19 - 06 - 2024

نعم .. "القرضاوي وصحبه" ناصروا ديكتاتورية البشير

نعم ..

بشيء من حسن النية ، توقعت ان تأتيني الانتقادات على مقالي "الشيخ القرضاوي والسودان" من أصوات ليبرالية او علمانية او ماشابه ، لكن المفاجأة ان الانتقادات الأكثر حدة (والتي لم تخل من تجاوز واساءة واقع الأمر ) جاءت من انصار الاسلام السياسي، وكان مصدر التفاجؤ أمران ، أولهما هو أنني في الحقيقة لم أقل "رأيا" تصورته ، وإنما قلت "مصفوفة معلومات"، لا أكثر ، وكان كل دوري استخراجها ونفض الغبار عنها بعد أن كادت تطمسها أقدام التضليل والشعبوية، وثانيهما ، أني لم اذكر هذه المعلومات من بوابة إقصاء الرجل  وتياره (تيار  الاصوليين الجدد) ، أو اغتياله معنويا ، وإنما من بوابة "استكمال الصورة" ، والتذكير بما له وما عليه ، ضمن منهجية تشكيل رؤية نقدية عن كل شخص وتيار ،، في منطقة أرهقت من عبادة الأصنام.

والواقع أن دعم د. القرضاوي وصحبه، لانقلاب البشير العسكري الإخواني ، لم يكن أمرا مخفيا ، ولا  ميلا فرديا ولا هنة شخصية ، وإنما كان "عملا مؤسسيا" يعرفه القاصي والداني ، تبناه الأصوليون  الجدد ، عبر أذرع ومنصات واضحة مثل  "اتحاد علماء المسلمين" الذي تراسه د. القرضاوي، و"قناة الجزيرة" – طبعة أحمد منصور ، وصحيفة "الشعب " المصرية، والعمل الحزبي الاسلامي العربي، وعلى يد  شخصيات مؤثرة  اعتبروا الخرطوم كعبتهم ذهابا وإيابا منذ أطاح البشير وعسكره بالحكم الديمقراطي الذي اختاره الشعب بعد ثورة 1985، كما  تواصل دعم هؤلاء الأصوليين الجدد  للانقلاب ،  منذ الاستيلاء على السلطة في يونيه 1989  وحتى مابعد قيام ثورة شعبية ضدها في 2018 ، سواء بإنكار ماحدث أنه انقلاب من الاساس ، أو اعتباره انقلابا مشروعا مادام يتلفح باسم الدين والشريعة، أو تبرير سلوكه ، او تبني موقفه في حرب الجنوب ومذابح دارفور ، او في الدفاع عنه لحظة الربيع العربي في مواجهة  انتفاضة 2013 وحتى مابعد 25 أكتوبر وانقلابه ، حيث يشكل االكيزان والإخوان المسلمين و أنصار البشير قلب "الثورة المضادة "اليوم .

من اللحظة الأولى ، منح د. يوسف القرضاوي ، ومعه كامل  تيار الأصوليين الجدد انقلاب الانقاذ  في 30 يونيه 1989 الشرعية الدينية والسياسية أمام الملايين من الجمهور الذي يمتلكون ألبابه ، وكما يروي السياسي السوداني الراحل الكبير الإمام الصادق المهدي " في حوار له مع صحيفة (المجهر ) في 20اغسطس 2017" فإن  الدكتور يوسف القرضاوي (حين سئل ، هل يجوز القيام بانقلاب لتطبيق الشريعة الاسلامية ، قال نعم ، إذا كان انقلابا مثل السودان نعم )، وهي عبارة تعكس الصفوية والانتقائية  وازدواجية المعايير التي تعامل بها تيار (الأصوليين الجدد) مع كامل تجربة الانقاذ ، بوصفها" تجربة إسلامية مستثناة من الحكم عليها بالديكتاتورية مثل باقي ديكتاتوريات البشر" .

كذلك ، توافدت  رموز "الأصوليين الجدد" ، والذي على قمته د. يوسف القرضاوي ، على مطار الخرطوم منذ اللحظة الاولى للانقلاب، دعما ومباركة ، فكتب الأستاذ فهمي هويدي مقاله الشهيرالذي وصف فيه الانقلابيين بـ (مجلس الصحابة الذي يحكم السودان )، وواصل الأستاذ فهمي هويدي دفاعه  عن نظام البشير حتى بعد الربيع العربي ، فدعا  في 6 ابريل 2013  بعد تولي الإخوان المسلمين السلطة في مصر إلى "تحرير العلاقة بين نظام د محمد  مرسي وسودان البشير" ، معتبرا أن إحدى العقبات لتوتر العلاقة كانت "موقف نظام مبارك من السودان بعد تولي الحركة الاسلامية السلطة، وهو مما أثار امتعاض مبارك حيث كانت له (أي لمبارك)  معاركه الخاصة ضد الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمين "، دون أن يتطرق الأستاذ هويدي في الأسباب أو التقييم إلى طبيعة نظام البشير الانقلابي كنظام شبيه بالنظام الذي أطاحت به انتفاضة يناير في مصر 2011  ، كما صور تعبير (وجود معركة خاصة بين مبارك والإسلاميين)، الذي استخدمه الأستاذ هويدي ، وكأن المعركة مابين مبارك والإخوان والجماعات ، معركة شخصية ، مصدرها "اختلال نفسي" عند مبارك، أو نزاع على قطعة أرض أو إرث ، بينما كان هذا الصراع سياسيا له أسبابه الموضوعية ، جزء منه متعلق بتكتيك "الضرب والاحتواء والتحالف " الذي مارسه مبارك مع الإخوان  بعد تصاعد سطوتهم (اعتقال قيادات مع السماح لهم بـ 88 عضو في مجلس الشعب  في نفس الوقت)، ، وجزء منه  تصدي أمني ضد حركة ارهابية قامت فيها (الجماعة الاسلامية )، بسلسلة مذابح قتلت فيها الأقباط في (أبو قرقاص وأسيوط والإسكندرية والفيوم والقوصية والمنيا ودميانه وصنبو وديروط وطما وطهطا وملوي ومنشية ناصر وعين شمس )، وقتلت فيها السياح (مذبحة حتشبسوت) واغتالت المثقفين (قتل فرج فودة).  

أما الأوضح في موقف "الأصوليين الجدد" من السودان، والأكثر مدعاة للنقد لخطورته، حين هرع "اتحاد علماء المسلمين" وعلى رأسهم الدكتور يوسف القرضاوي إلى السودان في 2004 بدعوة من حكومة البشير ، كـ "لجنة تقصي حقائق "، حيث  يتضح من اللحظة الاولى اتخاذ موقف مسبق مناصر لحكم البشير وروايته بما لايليق بلجنة حقوقية محايدة ، حيث صرح د. القرضاوي قبل الوصول "أن الوفد سيستطلع الوقف على الطبيعة .. وفي القضايا التي يسعى الإعلام الغربي لتهويلها بهدف التواجد في المنطقة ولفت الأنظار عما يجري في الأراضي المحتلة في فلسطين والعراق"،(المؤتمر نت -2-9-2004)،،  اما د سليمان العودة ، فيكون اكثر وضوحا فيصرح "ان اتحاد علماء المسلمين يقف مع السودان قلبا وقالبا ، وهو ضد المؤامرات الدولية المعادية للبشير "، وان "السبب الرئيسي في هذه الهجمة على السودان هو الدور الدعوي الذي يقوم به في عدد من الدول الإفريقية"، (موقع المسلم).

 أما عضو اتحاد علماء المسلمين د سليم العوا قيذهب إلى أكثر من هذا بكثير فيقول في مقابلة تلفزيونية مع قناة الجزيرة بعد عودته  ( لقد تحرينا الأمر عندما كنا في الخرطوم مع مجموعة برلمانيين ، وحين ذهبنا إلى دارفور قمنا بإجراء مقابلات مع العديد من النساء اللاتي أخبرننا أنه لم يكن هناك اغتصاب ) ( كتاب ماوراء دارفور ، الهوية والحرب الاهلية في السودان ص 117)، وحين يواجهه المذيع بتقارير منظمة العفو الدولية التي تؤكد وجود اغتصاب ، يحيل د. العوا القضية فيقول "ان نساء دارفور يخلطن بين لفظ غصب، وهو ما تم من طردهن من المنازل ، وبين اغتصاب (نفس المصدر)، ويضيف " إن كل اتهامات الاغتصاب اخترعت للتشهير بالحكومة السودانية وتوفير الذريعة للتدخل الاجنبي )(نفس المصدر).

لكن الأخطر من هذا كله ، وبما يعتبر الدعم الجوهري الذي تلقاه البشير من هذا الوفد ، هو تقرير "لجنة تقصي الحقائق التابعة لاتحاد علماء المسلمين " في 2-9-2004 والذي قالت سطوره عن الوضع في دارفور إنه "على الرغم من قيام حالة إنسانية تقتضي تدخلاً سريعاً من المؤسسات الإسلامية والعربية والإفريقية الإغاثية ، فإن الإعلام العالمي قد بالغ في تصوير هذه الحالة تصويراً يفوق الأمر الواقع، حيث نُشرت أخبار عن التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، والاغتصاب الجماعي تبين الوفد أنها عارية عن الصحة ، ومع ذلك فقد تبيّن للوفد وقوع أحداث حرق لبعض القرى، ووقوع قتلى من الأطراف المتنازعة في دارفور، ولحوق أضرار بالأموال على أنحاء مختلفة، وذلك كله يقتضي تعويض المتضررين وتحمل ديات القتلى وفق العرف القائم في المنطقة". .

هذا فيما يتعلق بدارفور ، أما في أحداث الربيع العربي ، فقد قدم "الأصوليون الجدد" دعما مغايرا.

فبينما كانت لهجة د القرضاوي ومعه فريق "اتحادعلماء المسلمين "  منذ مطلع الربيع العربي "جذرية "و"ثورية" في مواجهة كل ديكتاتوريات  المنطقة، كانت لغتهم "رقيقة" و "ناصحة " و" جزئية " و"إصلاحية" و"عاتبة " فيما يخص نظام البشير، وكان جوهرها رفض تسمية نظام البشير ديكتاتورية أو انقلابا، وعدم الدعوة إلى ثورة وإطاحة نظام ، على عكس ما فعل في كل شبر في الربيع العربي ، فصرح القرضاوي كما سبق الاشارة إلى أن "انقلاب البشير اختفى ولم يعد أساسيا" ، بينما أشار زميله علي القره داغي بأن "انقلاب البشير سقط بالتقادم "، مع أن هذين التعبيرين أولى بهما ، لو صح التحجج بهما  ، نظام مبارك مثلا  الذي جاء بعد 30 عاما من يوليو 1952، ومر عليه ثلاث رؤساء ، أو نظام القذافي مثلا الذي جاء 1969.

كذلك  تواصل هذا الموقف حتى مقدمات ثورة 2018 بالسودان حيث اكتفى "اتحاد علماء المسلمين  بالإعراب عن قلقه لما يجري "، و دعا "الحكومة والمتظاهرين الى الالتزام بحزم ضد القتل والتخريب "، و " ضرورة تشكيل مجلس من ممثلي المتظاهرين والحكومة لحل الازمة"،  وبالقطع لايحتاج المرء أن يقارن هذا الموقف ، وتوصيف الثورة ب"الأزمة"،  مقارنة ببيان الاتحاد الناري ذاته  في 10 يناير 2011 بشأن ليبيا والذي يندد  فيه "بالأعمال الإجرامية ضد المتظاهرين "، ويدعو فيه "النظام الليبي أن يتقي الله في هذا الشعب الذي يحكمه منذ أربعة عقود".

إن هذا لا يعني أن د. القرضاوي وصحبه كان موقفهم كان استاتيكيا لم يتطور نسبيا بتطور اللحظة ، ولا يعني نفي  خروج هذا الانتقاد العابر أو ذاك، أو هذا التحفظ أو ذاك من قبيل "الإدارة الذكية " للموقف ،  لكن المعيار هنا  جوهر الموقف لا تفاصيله ، وما إذا كانوا اعتبروا قفز الضباط على السلطة في 1989  انقلابا ام لا، وما مارسوه ديكتاتورية ام لا ، ما إذا كانوا وقفوا  ضد جرائمه الكبرى أم لا، ساندوا ثورات الشعب ضده مثلما فعلوا مع باقي المنطقة أم لا . بايجاز ، النظر للموقف  كله بمنهجية وإنصاف من لا يسمح للشجرة أن تعميه عن الغابة ، خصوصا لو كانت هذه الشجرة صناعية قوام لحائها يناصر القبلية السياسية والأيدولوجية. 
------------------------------
بقلم: خالد محمود 


مقالات اخرى للكاتب

نعم ..





اعلان