26 - 04 - 2024

الحمارُ الرومانسي !

الحمارُ الرومانسي !

من ذكرياتِ الطفولة المؤلمة والمُضحكة معا أنه كان لخالي حمارٌ أبيض، ضخمُ الجسم، مُمتلئُ الصدر، طويلُ العنق والرجلين، يظنه الناظرُ إليه من الوهلة الأولي أحدَ الخيول العربية الأصيلة، فيُمني نفسه بركوبه؛ مُعتقِدا أنه سيقطع رحلته به في (هبوب الريح)، وما إن يمتطيه وتقع (الفاس في الراس)، حتي يعلم أنه وقع في شَرَك حمار بليد يفوق في بلادته (البغل الأسترالي).

عرفتُ طباع ذلك الحمار اللئيم عندما ركبتُه يوما، يحدُوني أمل أن أكون مثل (أحمد وِلد شيبوب)، في تتر مسلسل(مارد الجبل)، وهو يمتطي صهوة جواده بمصاحبة غناء محمد ثروت، وهو يقول : (مارد وفارد في الجبل طوله)، أو أن أكون مثل امرئ القيس عندما أنشدَ أبياته الخالدة في وصف الخيل، والتي يقول فيها : مكرٍ مفرٍ مُقبلٍ مُدبرٍ معا كجلمود صخر حطه السيلُ من عل، فإذا رحلتي به قطعة من العذاب .

نعم قطعةٌ من العذاب، إذ لم يرتفع فمُ هذا الحمار ذي العنق الطويل من الطريق مُتتبعا سُبل العشب الأخضر ولو للحظة، دون أن يُعيرَ ضربي ووخزي له - عساه أن يغُذ في السير - أيَّ اهتمام.

كان سيري علي رجليّ أيامَ الصيف القائظ أهونَ عليَّ من ركوب هذا الحمار البليد، الذي اعتاد في مِشيته أن يهز عُنقه الطويل المنكفئ علي الأرض يَمنة ويسرة، كما لو كان مجذوبا يهتز في حَلقة ذكر، وبالتبعية كنتُ أهتز من فوقه أماما وخلفا، وأنا أعضُ الأنامل من الغيظ من شدة بطئه وبلادته، التي  تكاد تقتُلُني صبرا.

كانت بلادةُ هذا الحمار مُصطنعة وليست طبعا؛ ليهرب بها من كثرة الشغل، ولي علي هذا الاتهام شاهدٌ ودليل، إذ كان الدمُ يجري في عروقه، ويتحول إلي حمار (حصاوي) إذا اعترضتْ طريقه أنثي حمار .

في أحد أيام الصيف القائظ، اتفقتُ مع خالي علي ركوب حمارته الأخري السوداء، تاركا ذلك الحمار البليد لابن خالي الأكبر (حسين)؛ لقدرته علي كبح جماحه، وإحكام زمامه، وبالفعل ركبَ (حسين) الحمار أعلي (حِمل) البرسيم عَشَاء المواشي والأغنام في حظيرة البيت ليلا، ونفدتُ أنا بجلدي ورب الكعبة .

علي حمارة خالي السوداء تتبعتُ حُسينا والحمار أسيرُ الهويني، إذ كنتُ خلفهما بمسافة كافية لا تُمكن ذلك الحمار من رؤية حمارتي حتي (لا يركبُه العارض) ويتحرش بحمارتي .

في طريق العودة ظل حسين يلهج بالدعاء سائلا المولي : ألا تُقابله حمارةٌ أخري، فتصير ليلته (أسودَ من قرن الخروب) بعدما تدب في الحمار عافيتُه المُختفية حتي حين .

لم يكن بابُ السماء مفتوحا، إذ فوجيء حسين بحماره البليد يقفُ فجأة، فكاد أن يقع من ردة ذلك التوقف المفاجئ، ورفع الحمار عنقه المنكفئ أرضا طوال الرحلة، ومدّ أذنيه الطويلتين إلي الأمام، كما لو كان يستطلعُ قدوم عدو يتربص، أو حبيب طال غيابه .

كانت صدمةُ حسين كبيرة، إذ ألفي من بعيد (حمارة) قادمة، فتجمد الدمُ في عروقه، وقبلَ أن يصرخَ بعبارة (الحقوني)، زمجر الحمار، وملأ الأفق نهيقا، ورفع رجليه الأماميتين، وارتكز علي الأرض بالخلفيتين، وهنالك سقط حسين وحِمل البرسيم.

وما إن صار الحمارُ حرا طليقا، حتي انبري  يُطاردُ (الحمارة) القادمة، دون أن ينفع معه صدٌ ولا رد، إذ كان (يرفس) كلَّ من يقترب منه، ولم يتمكن المُخلِصون من كبح جماحه، إلا بـ(الشوم والعصي)، بعدها هرعوا ليرفعوا حِمل البرسيم إلي ظهره، ويفتشوا عمن يقوده، فإذا بهم يجدون حسينا (متكورا) تحت الحمل، وقد كُسرت ذراعُه، وظل يصرخ ويتألم و(يولول).

هنالك تطوع أحد ذوي النخوة بتوصيل الحمار إلي دار خالي، تاركا حسين وهمه الكبير، الذي جعله يقسمُ أيمانا مغلظة بألا يمتطي ظهر هذا الحمار مرة أخري، وبرَّ بقسمه، وظل علي تلك الحال أعواما حتي مات الحمار .
------------------------
بقلم: صبري الموجي

مقالات اخرى للكاتب

د. خالد الخطيب .. مسؤولٌ تُرفع له القُبعة !





اعلان