28 - 03 - 2024

شعبان يوسُف قيّم الثّقافة المِصريّة (لُعبةُ الهَدْم والبِنَاءِ)

شعبان يوسُف قيّم الثّقافة المِصريّة (لُعبةُ الهَدْم والبِنَاءِ)

لعلّ في قول الشّافعيّ رضي الله عنه ما يعزينا فيما نُحسّهُ حولنا من أمراضِ العَصرِ:
نعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فِينَا *** وَمَا لِزَمانِنا عَيبٌ سِوَانا
وَنَهجُو ذَا الزَّمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ *** وَلَو نَطَقَ الزَّمانُ لَنَا هَجَانَا

وَلَيسَ الذِّئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ *** وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضًا عَيَانا
فلا ينكرُ أحدٌ، ولا يُماري في كونِ زَمانُنَا مثل غيرهِ من الأزمانِ التي عمَّت فيها البلوى، وطمّت فيه الأمراضُ الخبيثةُ اللّعينة حقيقةً؛ والأنكى  أن تصيرَ أمراضُ كثيرٍ منَ المثقَّفينَ الذين يفترضُ فيهم بناءُ الوعي، وتشكيلهُ مُستعصيةً؛ متأبيةً على العلاج النّاجعِ؛ فقد استشرتْ فيهم أمراضٌ عُضَالٌ، لاسيّما الكِبرُ والنَّرجسيَّةُ والادّعاءُ والتَوّهُّم؛  بأعراضهِا المُؤلمة من تضخّمِ الذَّاتِ، والأنانيَّة، فضلًا عن تسرُّبِ مخاطرِ أمراضِ العامَّةِ الأكثر وضوحًا إليهم؛ كالانتهازيَّة، والوشاية، والسّعاية، وغياب الحُلم، واشتعال شَهوة السُّلطة والتَّسلُّط، والعَصبيّة، والتّحزّب، والتّوهم، والإيهام، والنّنفُّج، والنُّكران.
تخطفُ أبصارَنا ذُبالةٌ من ضوءٍ صافٍ؛ كابتسام الوليد البريء، في هذي العتمة الغاشيةِ، أشعلها في ظلماتِ بحرِ ضلالاتنا اللُّجيّ، الكاتبُ والشَّاعرُ والأديبُ والمفكّر والصَّحفيّ، وصائد الكنوز الثّقافيّة، وقيِّم خزانة الثَّقافة المصريَّة شَعبان يُوسُف.
كتبَ الأستاذ شَعبان يُوسُف مئاتِ  المقالات المُؤثّرة في هدمِ كثير من الأصنامِ الثّقافيّة؛ بتصويب الكثير من أخطائنا الثَّقافيَّةِ والأدبيَّة عامّةً، وخطايانا الفكريَّةِ خاصَّةً.
وعلى الشّاطئ الآخر قام ببناء صُروحٍ  تشهدُ لهُ، وتبقي ذِكرهُ  بين المحبين والحانقين على السّواءِ؛ فقد أحيا نماذج فريدة لنصوصٍ مهمّةٍ، لولاه لاندثرتْ وغابتْ عنَّا حقائق لاغنى عنها؛ كروايةِ الأديب المصريّ، الكبير المغبونِ، شُهدي عطيَّة: "حارَة أُمّ الحُسينيّ"، وكثيرٍ من الطَّبعاتِ الأُولى لأعمالٍ شهيرةٍ، وأُخرى ظلَّت خَبيئَةً، أو مُخبَّأة، وغيرها كثير. وكتب مجموعةً من المقالاتِ الفارقةَ والاستثنائيَّةِ عن ضحايا الأديب الكبير يوسُف إدريس وعصرهِ، وجمَعَها في كتابٍ بعنوانِ :"ضحايا يوسف إدريس وعصره"، لا أظنّ أنَّ لهذا الكتابِ شبيهًا في الثَّقافة المعاصرة ؛ فالكتابُ ليس مجرّد سرْدٍ لمعلومات جديدةٍ ومدهشةٍ  لناقدٍ فذٍّ عن كاتب متفرّد، ذي حضور طاغ في عالم القصّة العربيّة،  ولكنهُ تفرّد أيضًا في مصادره الشّفاهيّة والمكتوبة التي يتميَّزُ بها، كما أنَّهُ إعادة اعتبارٍ نبيلةٌ لضحايا هذا العصر من الأدباء والكتَّاب.
وفي إطار هذا الهدم نجد كتابته عن أصحاب المواقفِ المغبونين؛ كما في كتابه:" صرخة فرج فودة"  الذي هدم فيه أفكار المتطرفين وحججهم بمعول فكره، وناجع حجاجه، وإزاء ذلك يبني مايراه نافعًا ومفيدًا؛ فيجمع بعض قصائد فرج فودة المجهولة، ووثائق له غاية في الأهميّة، يرصدُ فيها  انحيازه الكامل للحريَّةِ الإنسانيّة بمفهومها الواسعِ الرّحيمِ، ونظيره ما نجده في كتبه:"نجيب الرّيحاني: الصّفحات المجهولة"، و" المنسيون ينهضون"، الذي يحيي فيه ذكرى عشرين عبقريًّا ألقوا بأحجار ثمينة ثم مضوا؛ فيستحضرهم للوعي الجمعي  قبل أن يقتلهم الغياب، وهو ما نجده في كتابه عن "أدب السّجون"، وبهذا الدّافع الإنساني للدّفاع عن المنسيين والمهمشين، نجده مدافعًا عن قضايا المرأة المبدعة؛ كما في كتابيه:" الذين قتلوا مي"،" لماذا تموت الكاتبات كمدًا".


ومع ما نجدهُ من  نفور شعبان يوسف من الشّكل البحثيّ الأكاديميّ؛ فلم تخلُ كتُبُهُ من التَّنظير السّاطع الواضح لسياقات النُّصُوصِ، وعوامل تسويقها، وحظوظها المعقّدة الأسبابِ.
وعلى ما نلحظه جليًّا من سلاسةِ أسلوبِهِ، واسترساله العذبِ، دون تقعُّر في اللُّغة، أو تعمُّد للتفلسفِ، يغوص بنا إلى عُمقٍ، لم يصل إليهِ غيره فيما يعرف بسيسيولوجيا الأدبِ.
ومن هذا البناء النَّبيل ما كتبَهُ عن خيري شلبي فيلسوف الهامشِ،  بكتابةٍ أشبهَ بكتابة خيري نفسهِ في "عناقيد النُّورِ"، لتستحضرَهُ وتستحضرَها، ثم تغيبُ المشابهة فجأةً لتعلن غيابَ صاحبها؛ وهذه الكتابةُ الشّفيفةُ نجد نظائرها في كتابته بمخزونٍ وافرٍ من الشّجن عن إبراهيم أصلان، في كتابهِ: "خلوة الكاتب النَّبيل"، وما كتبهُ عن:"حلمي سالم ناقدًا ومحاورًا"، و"بهاء طاهر ناقدًا مسرحيًّا" .
ولأنّ شعبان يوسُفَ يكثِّفُ فكرتهُ في عناوينه المائزة يصوغُ عنوانًا مركَّزًا جامعًا مانعًا باصطلاحات المناطقةِ، لكتابهِ عن صبري موسى "سيرة عطرة وإبداع شامخ"، وكأنَّه رأى فيه وجهين بارزينِ، يمكنك النَّظرُ فيهما لتغوصَ داخل شخصيَّةِ هذا الأديب النَّاقد من نافذتيهِ: الإبداعِيَّة والإنسانيَّة، وقد نجح أن يضع أيدينا على مصراعي نافذتيه؛ ومن ثمّ؛ نجدهُ لا يكتفي لفتحي غانم بتلك الوجوه التي يعرفها غيرهُ، بل ثمَّة "وجوه أخرى لفتحي غانم"  يجدرُ أن يعرّفنا إيّاها.
وللأهميَّةِ؛ فلم أكتب هذا المقال لسَرد جهود شعبان يوسف التي بهرنا نورها في  ملتقيات المجلس الأعلى للثَّقافة، ولا برنامج عصير الكتب، ولا ورشة الزّيتون التي صارت من أهمّ منارات الثَّقافة العربيَّة بأصالتها ونزاهتها واستمدادها من شخص شعبان يوسف السلام النَّفسيّ والانفتاح على كلّ الاتجاهات والأفكار، والتَّواضع الجَمّ الذي انعكس على فتح أبوابها لضيوفها كافّةً من المغمورين قبل المشهورين متى أحسّ يوسفُ بجودة النَّصّ واستحقاقهِ،  بذائقته المثقفة بثقافةِ قرنٍ كامل من التَّنوير الفِكريّ والثَّقافيّ.
ولكنّي اليوم أشيرُ إلى جانب آخَر، أو حالةٍ أخرى خلقها شعبان يوسف بعبقريَّة متفرّدة لم أجد لها نظيرًا فيما  نتمحَّل من نصوصٍ تفاعليَّةٍ، أو نُلفِّق لإيجادها؛ وهو نصُّه المتشظّي بشكلٍ أشبهَ بالعبثِ المُنظَّم، أو الفوضى المُتعَمَّدة؛ بكتابة قصاصات من أحداث يوميَّةٍ، تُظلّلها دعابةُ المُفارقة، أو صدمةُ المُفاجأة؛ أعني روايته التّفاعليّة "عبلة" أو :"أم وائل" التي جاءت في شكل يوميّاتٍ متعالقةٍ ومتعانقةٍ.
جذبتْ هذه اليومِيَّاتُ آلافَ المُتابعين من أنحاء العالم العربي ليُعلّقُوا، ويُضيفوا، ويُعدِّلوا، ويسخَرُوا...  المهم أنّهم، في النّهايَةِ، يَتعاطفُون، ويُكملُون؛ كلٌّ حسبَ ثقافتهِ، ومِزاجهِ اليوميّ، ورؤاه الخاصَّة، وتصنيف تلقّيه.
ومن اللافت أن تتوزَّع آراء النُّقَّاد بين تصنيفها رِوايةً حداثيَّةً، أو نصًّا مَسرحيًّا طليعيًّا، أو سيرة روائيَّةً، أو سيناريو للسّينما أو للتَّلفزة،  ويُصرُّ شعبان على أنَّها مُجرَّد يوميَّاتٍ. وأرى أنَّ السِّرَّ الكامن وراء هذه المقروئيَّة الواسعة بعيدًا عن سحر السَّردِ، وطزاجتهِ، وروح الدُّعابة الماكرةِ، ما يصنعهُ شعبان بنفسهِ حين يحاول إخراجها من أحزانها ووحدتها واغترابها بالغوصِ في صميم حارةٍ مِصريَّة افتقدنا ملامِحَها التي تحمل رُوح الشَّخصيَّةِ المصريَّة المشحونة في لغةٍ من السّهل الممتنعِ اغترفها من صميم العاميَّةِ المصريَّةِ، تمزج بين المألوف الشَّائع والنَّادر المندثر، بفيوض من مشاعر الجرأة إلى حدّ الوقاحة المستترة والمحتملة في عالم أم وائل ووسطها من العامَّة والعمال والحِرفيّين وأولاد البلدِ، والحياء الزَّائد النَّابع من غُربة المثقَّف إلى حدود السَّذاجة والغفلةِ، أو التَّغافل المحتمل المراوغ؛ ممَّا يحمل متابعيه على الإسراع، والمبادرة إلى تنبيه الغافل، أو فضح المستور عنه، وفكّ تشفير رموز حوار شخوصهِ، التي يخال كلٌّ منهم أنَّها أقرب إليه من الأستاذ الصَّابر المغامر الماضي في عالمها المتشابك المترامي بلا حدود، في زخَم من الرِّجال والنِّساء الذين يرسمهم بمهارة فريدة بداية من اختيار الاسم والكُنية واللَّقب، والمكانِ، والزَّمانِ، والحدث العابرِ، واختزال سماتها الدَّاخليَّة والخارجيَّة في عنصرٍ أو أكثرَ ممَّا ذكرتُ، أو نوعِ عملِها، ودرجةِ إتقانِها وإهمالِها فيه.
وفي  التَّعليقات تجد ضُروبًا جديدةً من التَّلقّي؛ فهذا مريض أوجعه المرض يستشفي، وذاك غريبٌ هزَّه الشَّوقُ إلى مصر فتأخذه نوستالجيا النَّصّ إلى عوالم أكثر خصوبةً من خياله المعلَّق بحارته أو قريته أو زقاقه، وقد التهمتها جميعًا تشوُّهات التَّمدُّن المصطنع، والتَّحضُّر الزَّائف، والتَّناقض العبثيّ الذي يفقد سحره متى عاد الغريب إلى موطنه.
فهذه أديبة مثقَّفة أوجعتها أمراض المثقَّفين المُتنفّجين فيما يكتبون ويقولون؛ فتنتظر الفجر في شوق لتُخرج رُوحها  الحبيسةَ من سجن النّفاق الأدبيّ لتُحلّقَ في سماء شاسعة حرَّة حُريَّة الطَّير الذي يمارسُ حياته كلَّها حُرًّا طَليقًا دون أن يؤذي أحدًا.
وذاك أكاديميٌّ أزعجتهُ مناهجُ صمَّاء وعُنجهيَّةٌ مُضحكةٌ، وأبحاثٌ ملفَّقةٌ، يضحك من قلبهِ، ويعلّق تعليقًا يعكسُ رُوحًا مُغامرةً، وتأويلًا مُختلفًا. وذلك ساذجٌ عبثيٌّ يخرسه تعليقٌ نافِذٌ، وثمّة غيورٌ يتوارى في تعليقٍ شائِه، وآخرُ متنطعٌ جاء ليعكسَ في تعليقه العفويّ سبب حماقة رؤيته وحظه البائس من  السّلام النفسيّ، ونصيبه الوافر من ثقل الظّلّ.
وبين مُحبّ مشدوهٍ شَغوفٍ متفاعلٍ ولاهٍ أجوفٍ فضوليّ عابثٍ تزداد خصوبة نصٍّ متدلّه، يرقص من فرحته كراقصةِ مولدٍ مسكونة بالفنّ، ومفتونة بحشد كلّ مرتادي المَولِدِ.
شعبان يوسف هو الكاتب المصري المعاصر ذو الوجوه الأُخرى والسّيرة العَطِرة، وخلوته الرّوحيّة هي خلوة كاتب نبيل يذرف دَمعًا  في عدّ ليالي رحيل زوجه من وجه، وثمة وجه آخر يتمسّك بجناح الحلم؛ ليسعد من حوله؛ فهو ليس فيلسوف الهامش، ولا فيلسوف النُّخبةِ، بل فيلسوف الثَّقافة المصريَّة في جوهرها الأصيل.
ومن ثمَّ؛ لنا أن نبتهج ونسعدُ، بل نفخر بأن هذا النّسيج الإبداعي الفريد يمثّلنا ويختزلنا في جمل تجمع حارة محفوظ، وواقعيّة إدريس، وسخريَّة الحكيم، ومصريَّة يحيى حقّي، ومناكفة محمود السَّعدني، ومع ذلك يمثل بصمة خاصّةً مبهِجةً وثريَّة وطازجةً ومتفائلة وحميمةً، تميز الثَّقافة المصريَّة، لا أجد لها مثيلًا في الثَّقافة العربيَّة المعاصرة.


للأسف الشَّديد لابدَّ أن أعلنَ لأصحاب النُّفوس المأزومة المقهورة المتشنّجة المشكِّكَة المُفكَّكة أنّني لا أعرف شعبان يوسف معرفةً شَخصيّةً، ومعرفته شَرفٌ لا أدّعيه، وتُهمةٌ لا تُنكرُ، ولم أقابله في حياتي سوى مرة واحدةٍ؛ فقد شاركتُهُ ندوةً أدارها في المجلس الأعلى للثقافة، وخرجتُ منها منفعلًا لأنّي لمستُ منه اتِّهاما للأكاديميّين  بسوء الفهم وسياسة ملء الفراغ.
وقد عابثته ليلتها محاولًا الانتقام منه، وقد طرح مشروعًا جمع وثائقه لكتابتهِ؛ فذكرتُ له أنّ صلاح عيسى يمتلك ما لا يمتلكه من مصادر هذا المشروع لأُثيرَ حفيظتَه انتقامًا لنفسي وأبناء المهنة؛ فالتفتْ إليَّ ببراءة طفلٍ، وقال في ثقةٍ: فليكتبه عمّ صلاح، ياصديقي: موضوعات الثَّقافة المصريَّة تحتاج آلافا مثلي ومثل عم صلاح، ولكنْ، من يَعِي؟ ومن يخلصُ في كتابتِهِ؟
وقد أخذتني عن وطني غُربةٌ طويلةٌ اعتقدتُ أنَّها باعدتْ بيني وبين مِلح الأرض؛ فإذا بأمّ وائل والأستاذ يلقياني إلى طينِ الهويّة المِصريّة بأبعادها الدَّافئة العميقة الأصيلة الشُّجاعة المثابرة القادرة على تحدِّي كلّ جهالات الواقع وخيباته، وتحويلها إلى أمل باسمٍ لثقافة مصريّةٍ، ظلَّت رُوح الفُكاهة والمرح أهم ما يميزُ عبقريَّتَها.
-------------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال
(أستاذ الأدب والنقد بجامعة العريش - مصر)

مقالات اخرى للكاتب

في مَحبَّة العمّ نجيب محفوظ





اعلان