28 - 03 - 2024

الجذور التاريخية للتحفيل الكروي! (فترة الهامشيين) (2 ـ 3)

الجذور التاريخية للتحفيل الكروي! (فترة الهامشيين) (2 ـ 3)

"قاعدين ليه ماتقوموا تروحوا"!

أشرنا في الجزء الأول من تاريخ التحفيل الكروي إلى أنه اكتسب مشروعيته من محاوره الثلاث الأساسية : النخبة الجديدة ـ انتعاش الطبقة الوسطى ـ الشعبية الكاسحة لكرة القدم على كوكب الأرض، إلى أن جاءت نكسة  1967 بتداعياتها السياسية الموجعة في الداخل والخارج لتغلق كرة القدم ملاعبها .

في تلك الأيام ، بدأ التحفيل الكروي بين مشجعي الكرة بمختلف ميولهم وانتماءاتهم الكروية في طريقه هو الآخر إلى التوقف بسبب تعطيل النشاط الكروي الرسمي ، إلا أن تداعيات الحرب وتعبئة الدولة مواردها لمواجهة العدوان الإسرائيلي ، ضربت المعادلة الثلاثية للتحفيل الكروي ، فمن جهة اضطرت النخبة المصرية إلى الانسسحاب من ميدان التحفيل وتقدمت إلى المواقع الأمامية لجبهات القتال لإزالة آثار العدوان ، باعتبار أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. ومن جهة ثانية بدأ الحلم الشعبي في الدولة الوطنية القادرة على حماية حدودها يتبخر على أعتاب الانكسار العسكري والسياسي، ومن جهة ثالثة (العامل الأبرز) انطلقت الكرة "الشراب" ترتع وتلعب في الشوارع والأزقة والحواري والأحياء الشعبية لتتحرر من قبضة النخبة ، وينطلق مارد التحفيل إلى الشارع وتتلقفه الشرائح الدنيا والوسطى من جماهير الكرة بطول وعرض المحروسة.. ومن هناك انطلق من مشجعي مباريات الكرة الشراب أول هتاف تحفيلي في الزمن الجديد له ، متناغما مع الحالة السياسية بشكل عام والكروية على وجه الخصوص : "قاعدين ليه ماتقوموا تروحوا" ، ليبقى هذا التحفيل الكروي خالدا في الملاعب بل وينتقل إلى أبناء العمومة من عائلة التحفيل الاجتماعي المصري إلى وقتنا هذا ، للدرجة التي استخدمتها الصحافة في نقدها للمسئولين سواء في مصر أو عديد من االدول االعربية على النحو الذي جاء في مقال نقدي ، كتب فيه أحد الصحفيين مخاطبا المسئولين عن وضع تمثال المطربة الكبيرة ليلى مراد أمام دورات المياه بشاطىء الغرام ومعترضا : "قاعدين ليه ماتقوموا تروحوا"، وكذلك استعان الكتاب الكويتيين بهذا الشعار على النحو الذى جاء في مقال نقدى للكاتب حمد بو دستورفي جريدة الوطن ينتقد خلاله أعضاء مجلس الأمة متهما أياهم بالمتاجرة بمشاكل المتقاعدين خاتما مقالته بـ"قاعدين ليه ماتقوموا تروحوا".. وفي السودان لم تنقطع الجماهير الثائرة عن ترديد هذا الهتاف في مواجهة عجز الحكومات عن توفير الخدمات الحياتية اللازمة.

بالعودة إلى سنوات حرب الاستنزاف ، وعلى أصوات دوي المدافع حدث صدع كبير بين جماهير الكرة عندما انتشرت شائعة رفض النادي الأهلي استقبال أندية مدن القناة التي تم تهجيرها بسبب الحرب للتدريب على ملعب التتش بالجزيرة ، ورغم نفي لاعبي الاسماعيلي لتلك الواقعة على لسان واحد من أشهر اللاعبين الذين ساهموا في فوز الاسماعيلي بأول كأس أفريقية (راجع تصريحات سيد بازوكا) ، إلا أن الشائعة انتشرت داخل الأوساط الشعبية التي كانت على أهبة الاستعداد لتصديق مثل تلك الشائعات المختبئة خلف ظلال الغضب الشعبي من النخبة المسيطرة في العاصمة ، مركز القيادة والسيطرة والحكم.

في أعقاب عودة النشاط الكروي موسم 71ـ 72 ، ضمن خطة الخداع الاستراتيجي التي تعطى انطباعا للعدو ، أن دولة تعيد النشاط الرسمي لكرة القدم ، لا يمكن لها أن تحارب وتقاتل ، التقى فريقا الأهلى والزمالك ضمن مباريات الدوري العام تحت أجواء تحفيلية كروية لا تخلو من الكوميديا والسخرية.. وقبل اللقاء بأربع وعشرين ساعة تسمر المصريون أمام شاشات التلفزيون لمتابعة سهرة كروية ضيفاها كل من طلبة صقر كبير مشجعي الفريق الأحمر وجورج سعد  كبير مشجعي الأبيض ، وفي مداعبة ودودة على خلفية الصداقة الحميمة بين قطبي مشجعي الفريقين ، دارت ألطف وأظرف تحفيلة بين الأهلاوية والزملكاوية:

طلبة: هناك تقارير أمنية تؤكد أن سرقات الشقق تنخفض بشدة عندما يلعب الزمالك لأن البوابين يتركوا العمارات ويذهبون لمشاهدة الزمالك.

جورج: أيوة بس نفس التقارير الأمنية أكدت أن سرقات الشقق تكاد تختفي من القاهرة عندما يلعب الأهلي لأن كل الحرامية يذهبون إلى الاستاد لمشاهدة الأهلي.

بيد أن التحفيل الثنائي الذي شاهده المصريون ليلة المباراة لم يتوقع أحد أن ينقلب اللقاء إلى معركة داخل استاد القاهرة بعدما احتسب الديبة حكم المباراة ضربة جزاء على الأهلي اعتبرها لاعبو وجمهور القلعة الحمراء ظالمة ليختلط الحابل بالنابل ، ويضطر الحكم إلى إلغاء المباراة بعد وابل من الطوب "الأحمر" الذي انهال على الملعب وقوات الأمن ، وتم إالغاء النشاط من جديد.

لم يظهر كلا من رجلي التشجيع الأهلاوي والزملكاوي على شاشات االتلفزيون قبل إيقاف الدوري العام بعد النكسة ، لكن الحراك الاجتماعي الذي حدث للطبقة الوسطى بعد 67 ، أخلى الأجواء أمام شريحة اجتماعية من خارج النخبة لتتقدم وتشغل الفراغ الذي تركته الأخيرة بعدما ذهبت إلى خط النار ، وبدا المشهد العام للتحفيل وكأنه "يد تلعب ويد تحمل السلاح"..

انتهت حرب أكتوبر، وعاد النشاط الكروي الرسمي ومعه التحفيل يطل برأسه من جديد من شبابيك النخبة الجديدة التي تشكلت في أعقاب فض الاشتباك (محادثات الكيلو101) والتبشير بسلام يعود بمليارات الدولارات على المصريين وأيضا سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أعلنها الرئيس الراحل أنور السادات..ليبدأ التحفيل الكروي دورة حياة جديدة مع انتظام مسابقة الدوري العام.

دورة حياة يمكن تشبيهها (مجازا) بدورة حياة الذباب ، حيث تزاوجت السلطة مع النخبة الجديدة التي تشكلت في أعقاب انتصار اكتوبر (القطط السمان ورجال المقاولات ومافيا الجمارك) ويلقى التزواج "بيضه المخصب" على "المواد العضوية" المتحللة في الحياة الاجتماعية للمصريين (الفساد الاجتماعي) وتفقس يرقات تتغذى على الأعراف والثقافة السائدين وقتها ، لتنمو وتتحول إلى شرنقة تأكل قشرة بيضها قبل أن تصبح ذبابة تطير وتحوم حول حياة المصريين تضرب بجناحيها قلب ثقافتها سواء كان في المسرح (مدرسة المشاغبين) أوالأغنية (الطشت قاللي) أو السينما (أفلام المقاولات) وامتدت إلى المدارس (الدروس الخصوصية ) والإعلام (صحافة االنميمة) وقبل كل ذلك ملاعب كرة القدم.

في حقبة السبعينات ظهرت البواكير الأولى لشخصية التحفيل الكروي الجديد، شخصية تائهة بين الماضي والحاضر ، تنتقل بهتافها من "شيلوا الرف" ـ اعتراضا على التحكيم ـ إلى سب حكم المباراة علانية بأمه وأبيه .. شخصية تحفيلية كانت تهتف قبل اكتوبر 73 "يا زمالك يا مدرسة لعب وفن وهندسة" إلى شخصية جديدة تهتف "الزمالك عمهم وحابس دمهم .. شخصية بذيئة اللسان تهجو أحد نجوم اللعب (حسن شحاته) وتسبه في عرضه وتهتفت: "يا كريم قول الحق حسن ابوك واللا لأ"..

كانت شخصية التحفيل في طورها الجديد تعبيرا عن الصدع العظيم الذي حدث للمنظومة الأخلاقية نتيجة خدعة الانتعاش الاقتصادي المنتظر في أعقاب 73 من جهة ، وتقدم الشرائح الاجتماعية الهامشية الصفوف الأولى لمشجعى كرة القدم من جهة ثانية .

استمرت دورة حياة التحفيل على إيقاع الذباب.. تخصيب في منافذ الجمارك (التهريب) وتجارة المخدرات (مملكة الباطنية) وانسحاب الدولة تدريجيا من تقديم الخدمات التعليمية والصحية والإسكانية للمواطنين، ثم يرقات تنقض على الموروث الأخلاقي وتأكل قشرته إلى أن بلغت الذبابات مستوى لخصه الكاتب الصحفي المرموق محمد سيف الدين في جريدة الأهرام (بداية الألفية الحالية) بمقال عنوانه : اترك ساعتك وولاعتك قبل دخول نادي الزمالك!.

كان إنذار محمد سيف تعبيرا عن الصعود الخطير للفساد الذي يضرب الحياة الاجتماعية وفي القلب منها كرة القدم ، إلا أنه لم يحسب (أو يتوقع) ما ينتظرنا نتيجة التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الاتصال الذي تم تخصيبها هى الآخرى بقوانين دورة حياة الذباب وألقت بيرقاتها على المواد االعضوية المتحللة في الشارع السياسى والاجتماعي والثقافي ،سواء كانت انتخابات زائفة وتشريعات تنتصر للاحتكار وتدعمه ، أوقضاء يتم ازدراء أحكامه من قبل أعلى سلطة تشريعية (مجلس الشعب) تحت شعار "سيد قراره" أو تصفية القطاع الصناعي الوطني لصالح سماسرة الاستيراد ، أو انتشار تيار ديني سياسى يتحالف في الخفاء مع السلطة ويتاجر بالزيت والسكر على أبواب المساجد في أحياء الفقراء.

تكاثر الذباب وانطلق في دورة حياته دون أن يعترضه أحد ، ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ، حدث التطور الثالث لدورة حياة التحفيل الكروي في مصر .. لكنه في تلك المرة بدأ دورته بالدم.. كيف؟..للحديث بقية.
_________________ 
بقلم: أحمد عادل هاشم

مقالات اخرى للكاتب

إيديولوجيا العنف .. لم تعد فاتنة !





اعلان