26 - 04 - 2024

البحث الأكاديمي بين النسخ والجنون

البحث الأكاديمي بين النسخ والجنون

كنا في جلسة علمية، وأخذ أحد الأكاديميين يفتخر بأن كليته أنجزت رقمًا قياسيًّا من أبحاث الماجستير والدكتوراه، ودون تفكير شرعت أقلب في سجل دراساتهم العليا؛ فوجدت أن موضوعات الرسائل، وأفكارها لا تزيد عن عشرة، بشيء من التسامح والتجاوز؛ فكلها أفكار مكررة، تكاد معظمها أن تكون نسخًا متطابقةً، ويشوّه بعضها بعضًا في محاولاتٍ يائسةٍ للتمويه والإيهام! 

ومن ألطف التعليقات التي أعجبتني حين سردتُ هذه الواقعة بين ثلَّةٍ من الأصدقاء أن قال لي أستاذ نابه: ياسيدي، رسائلنا في كلّ التخَصُّصات تقريبًا لاتعدو أن تكون أحد أمرين :"تك"، أو :"طق"؛ فاندهشت للفظين؛ ففك شيفرتيهما بأنّها لا تخرج عن كونها تكرارًا، أو طق حنك؛ أي: ثرثرة ولغوًا!

والتّعميم جهلٌ، وادّعاءٌ أجوف، وافتراء، و تدليسٌ؛ فثمَّة رسائل صارت علاماتٍ في تاريخ البحث الأكاديميّ، وهي أفكار بدتْ مجنونةً في أوّل عهدِ الباحثِ ومشرفهِ في اختيارها، وعرْضها، والإقناع بها.

وإذا كنا مخيرين بين النسخ والجنون؛ فلندع فرصا للجنون بين هذا الركام الغث من النسخ والمسخ والتشويه والإيهام.

وسيظلّ العجز ديدننا جميعًا في محاولة إحصاء الرسائل الرديئة في كلّ أقطارنا العربيّة، لا نستثني قطرًا واحدًا؛ لأنّ مصر مازالت هي قاطرة العالم العربيّ بحثيًّا وعلميًّا، فإنّه بإمكاننا الإشارة إلى رسائل صارت علامات في الدرس الأدبي؛ كالبحث الذي كتبته المصرية سيزا قاسم عن نجيب محفوظ، وأحمد كريم عن الإيقاع البصري، وأحمد  سليم غانم عن تداول المعاني في التراث، ومحمد طه عصر عن العلاقة بين  الأدب وعلم النفس، وجميل عبدالمجيد عن البديع، وشكري الطوانسي عن الأسلوبية، ومحمد فكري الجزار عن  سيموطيقا العنوان، والذي كتبه  السودانيّ يوسف نور الدين عوض عن الطيب صالح، وأبحاث التونسي شكري المبخوت حول التلقي، والسيرة الذاتية، ومواطنه مبروك المناع عن الشعر والمال، وما كتبه المغربي عبد الفتاح كيليطو عن السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمداني، ومواطنه عبدالرحيم المودن في أدب الرحلات ، وما كتبه الجزائري عبدالملك مرتاض حول نقد الرواية، ومواطنه جمال الدين بن شيخ عن الشعرية العربية، والعراقي عبدالله إبراهيم حول الدراسات السردية، وما كتبه الإماراتي محمد علوي الهاشمي عن العلاقة بين الشعر والماء، ودراسات السعودي حسن النعمي حول السرد والعتبات، والأردنية خولة شخاترة عن بنية النص الحكائي في كتاب الحيوان للجاحظ ...إلخ. والأمثلة عشوائية لمجرد التمثيل فحسب.

وللتدليل على مواجهة الجمود ننوه فقط إلى ماواجهته أطروحات وصفت بالجنون، ثم  صارت علامات؛ كبحث العلامة عبدالستار الحلوجي حول تاريخ المخطوط العربي، والعلامة كمال عرفات نبهان حول عبقرية التأليف العربي، و التونسي محمد لطفي اليوسفي عن فتنة المتخيل، و السعودي سعيدالسريحي الذي حرموه الدكتوراه بعد مناقشتها عن موضوع شعر أبي تمام بين النقد القديم والنقد الجديد،  فمنحته القلوب أضعاف ما كانت ستمنحه هذه الرسالة، وهو ما تكرر بشكل أخف حدة مع مواطنه عالي سرحان القرشي في بحثه عن الصورة الشعرية في شعر بشر بن أبي خازم؛ لأنه استخدم منهاجيات جديدة جعلت أحد المحكمين ينعته بالهرطقة.

والأمثلة كثيرة ومتكررة يوميا في جامعاتنا العربية في كل التخصصات.

هامش مهم : هذه مجرد وجهة نظر مجنونة أيضا ، والشجاع من يأخذ قراره، ويدافع عن فكرته، ويواجه عصابة النساخ!
---------------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال
* أستاذ الدراسات الأدبية-جامعة العريش



مقالات اخرى للكاتب

في مَحبَّة العمّ نجيب محفوظ





اعلان