23 - 04 - 2024

رواد التنوير(12): "نازلي فاضل" .. أميرة ساحرة فرشت للمصريين بساطا ملكيا باتجاه التحرر والاستنارة

رواد التنوير(12):

- انجذبت للنزعة التحررية وأيدت الثورة العرابية والتقت الأفغاني ومحمد عبده في باريس
- أرسلت رسالة للسلطان العثماني عبدالعزيز تذكره بدماء المظلومين الذي ذبِحوا كما تذبح الأُضحية فـ "استشاط غضبا واربد وجهه وغلب عليه طبع أكلة البشر"
- اختارت "سعد زغلول" محاميا لها ونصحته بدراسة اللغة الفرنسية إلى جانب محام آخر شهير هو الزعيم الوطني "محمد فريد"
- حررت  "قاسم أمين" من نفوره واحتقاره للمصريات وطلبت من الشيخ محمد عبده أن يبلغه غضبها منه ثم حولته إلى نصير للمرأة
- تزوجت "خليل بوحاجب" وناضلت لإنقاذ المرأة التونسية من وضعها المتردي وتكللت جهودها بإنشاء أول مدرسة للبنات في تونس

كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين" نشر سنة 1872م قبل عام واحد من وفاة مؤلفه العظيم "رفاعة الطهطاوي"، ويعد أول كتاب ينشر بالعربية في "البيداغوجي" (التربية). تحت فصل بعنوان "في الإنسان من حيث ناطقيته" يكتب "رفاعة": "الإنسان هو الحيوان الناطق ذكرا كان أو أنثى وهو ذو حواس ظاهرة كغيره من باقي الحيوانات ويتميز عنها بحواس باطنة".

وفي تعريفه للحواس الباطنه يكتب: "وأما ما وهبه الله تعالى للإنسان خاصة فهي حياته المعنوية وصفاته العقلية التي يعبر عنها في تعريفه بالناطقية ويتميز بها عما سواه. وهي أيضا توجب حفظه وصونه فقد وهبه الله تعالى الدماغ الذي هو مجلس الحواس الباطنة والقوى العقلية التي هي آلة الفكر وأداة النظر. وإن شئت قلت: الناطقية – أي الجزء الناطق من الإنسان – وهو الروح البشرية التي هي عبارة عن الفكر والإرادة. فبالإدراك يقتدر أن يرتب المقدمات لاستخراج النتائج، وأن ينسب الماضي للحال (للحاضر)، ويتبصر في عواقب المستقبل".

كان رائد النهضة والتنوير المصري في العصر الحديث جادا كل الجدية في تسويته بين الذكر والأنثى، وجادا كل الجدية أيضا في تسويته بين الفكر والإرادة، وهذه الثنائية الأخيرة هي ما عرف في أدبيات الفكر باصطلاحات أخرى مثل: القول والفعل، الفكر والممارسة، النظرية والتطبيق،...إلخ. ولعل وثيقة زواج "رفاعة" تكون أحد الأدلة القوية على جدية تلك المساواة لدى رائد التنوير. ووثيقة قرانه على ابنة خاله "الحاجة كريمة" قالت ما يلي:

"التزم كاتب الأحرف رفاعة بدوى رافع لابنة خاله المصونة الحاجة كريمة بنت العلامة الشيخ محمد الفرغلى الأنصارى أن يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أيا ما كانت، وعلق عصمتها على أخذ غيرها من نساء أو تمتع بجارية أخرى". 

كان الرق لايزال ساريا وتعدد الزوجات لايزال سائدا في المشرق تلك الأيام، لكن الوثيقة تمضي قائلة بحسم: "فاذا تزوج بزوجة أخرى أيا ما كانت، كانت بنت خاله بمجرد العقد خالصة بالثلاثة، وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين، ولكن وعدها وعدا صحيحاً لا ينقض ولا يخل أنها ما دامت معه على المحبة المعهودة مقيمة، على الأمانة والحفظ لبيتها ولأولادها ولخدمها ولجواريها، ساكنة معه فى محل سكناه، لن يتزوج بغيرها أصلا ولا يتمتع بجوار أصلا ولا يخرجها من عصمته حتى يقضى الله لأحدهما بقضاء".

ولا يكاد المرء يصدق عينيه وهما تجريان على سطور الوثيقة الأصلية التي تعود لسنة 1840م قبل أكثر من 180 عاما. خاصة لو علم أن "الطهطاوي" الذي كان من أوائل الدعاة لتحرير المرأة، لم يتخطى في دعوته حيز الدعوة النظرية والكتابة التنظيرية في أهمية تربية البنات، وأن الرجل الذي يعد بالفعل أول رائد لتحرير المصريات على مستوى الفعل أو الممارسة أو التطبيق، وهو البطريرك "كيرلس الرابع" (1816 – 1861م) الذي افتتح أول مدرستين مخصصتين لتعليم البنات (القبطيات مسيحيات ومسلمات ويهوديات جنبا إلى جنب) بحي الأزبكية وحارة السقايين في خمسينات القرن 19. هذا الرائد العظيم عُرف بكراهيته الشديدة للقاء النساء ولتبادل الحديث معهن، حتى قيل أنه كان يكره لقاء أمه!. والمتدينون يميلون في تبرير ذلك باتجاه ذكر سمات زهد البطريرك وانقطاعه عن الدنيا، لكن الزهد والانقطاع لا يفرقان بكل تأكيد بين لقاء امرأة ولقاء رجل طالما أنهما معا من أهل الدنيا. وليس هناك من مفر من فهم كراهية البابا "كيرلس الرابع" للقاء النساء إلا بوصفه احتقارا لشأنهن، وكراهية لحقارة حالتهن العقلية التي دفعت بهن إليها حرمانهن من التعليم.

رغم ذلك وُلدت خلال حياة الرائدين العظيمين "الطهطاوي" و"كيرلس الرابع" امرأة مصرية تمكنت من استغلال وضعها كأميرة تنتمي للأسرة العلوية الملكية لتتمع بكافة حقوق وحريات المرأة التي تكفلها لها "ناطقيتها" كما كتب "رفاعة"، واستخدمت الأميرة المصرية تلك الحقوق ليس في نضال مستميت لتحرير المصريات فقط، بل في نضال لتحرير مصر كلها من عراقيل وعقبات التخلف الاجتماعي التي تقف حجر عثرة في طريق نهضتها وتقددمها، ولأبعد من ذلك استطاعت الحسناء المصرية تحرير جيل كامل من رواد التنوير المصري كانوا لا يقلون عن البطريرك "كيرلس الرابع" احتقارا لشأن المصريات، وكان على رأس هؤلاء "قاسم أمين" محرر المرأة المصرية ذاته، وكانت "نازلي فاضل" هي تلك الأميرة الساحرة.

حياة ملكية

قال عنها "جمال الدين الأفغاني" (1838-1897م): " إنها تمثال الكمال والجمال، حضرة البرنسيس التي لها من قلبي المنزل الأبهي، والمقام الأسنى". ووصفها شيخ الأزهر السابق "مصطفي عبدالرازق" (1885 – 1948م) الذي كان تلميذا للإمام "محمد عبده" بأنها: "كانت ساحرة النظرات، عذبة الملامح، رشيقة القوام، ناصعة الجبين، ذات ثغر رقيق يفتر عن ابتسامة دائمة فيها معني الألم العميق، والسخرية بالألم، ومعني العزيمة الماضية، ومعني الرجاء لا يصل إليه اليأس".

ولدت الأميرة "نازلي فاضل" في مصر سنة 1853م، بين خمس أخوات وعشرة أخوة، وكانت هي كبرى بنات "مصطفي فاضل باشا" (1830-1875م)، وهو ابن القائد العظيم "إبراهيم باشا" وحفيد مؤسس الدولة المصرية "محمد علي الكبير". وهو أيضا الأخ غير الشقيق للخديو "اسماعيل". عند مولدها في حكم الخديو "اسماعيل" كان والدها وليا للعهد، اشتهر بثقافته الغزيرة الواسعة ومكتبته الفريدة الضخمة التي تحولت فيما بعد لدار الكتب المصرية. وحين كان عمرها 13 عاما تغير نظام الوراثة الملكية في مصر لينتقل الحكم إلى أكبر أبناء الخديو بدلا من أكبر أبناء الأسرة العلوية، فانتقل الأمير "مصطفى فاضل" بأسرته إلى الاستانة عاصمة الدولة العثمانية آنئذ، وتقلد هناك عددا من المناصب الوزارية وصولا إلى منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء).

خلال وجودها في العاصمة الاستانة التي كانت مقرا للعديد من الجاليات الأوروبية تلقت الأميرة تعليما غربيا عن طريق معلمات أوروبيات، واتقنت اللغتين الفرنسية والانجليزية – إضافة للعربية والتركية – في معاهد تعليم اللغات الأجنبية في اسطنبول. وعندما بلغت سن العشرين تزوجت من "خليل باشا شريف" الذي تنقل من منصب وزير الخارجية العثماني لمنصب سفير الدولة في فرنسا، وانتقلت "نازلي" مع زوجها للإقامة في باريس التي كانت مسرحا لتكوينها الثقافي والسياسي الرفيع.

في باريس انبهرت الأميرة المتحررة بدنيا الصالونات الأدبية والثقافية والفكرية الفرنسية، التقت في صالونات مدينة النور بكبار مثقفي فرنسا وحجيجها من مثقفي الدول الأوروبية المختلفة، بالإضافة إلى لقائها هناك بالمثقفين المصريين الزائرين، وعلى رأسها لقاءها بالرفيقين التاريخيين "محمد عبده" و"جمال الدين الأفغاني" قبل افتراقهما. كان الإمام "محمد عبده" وقتها منفيا من مصر بعد فشل الثورة العرابية التي كانت الأميرة أيضا من أنصارها الداعمين. وكان مع السياسي الثائر "جمال الدين الأفغاني" (إيراني الأصل) يصدران جريدة "العروة الوثقى" التي حظر الاحتلال الانجليزي دخولها لمصر، وفرضت الحكومة غرامة مالية فادحة على من يضبط لديه أعداد منها. وقد تسنى للأميرة المصرية آنذاك أن ترسخ انجذابها للنزعة التحررية في السياسة كما في الثقافة والمجتمع، كما تسنى للثائرين أن يعبرا عن إعجابهما بأميرة مصرية بدت لهما ليس كنموذج تحرري للمرأة فقط، ولكن كنموذج مستقبلي لامرأة مصرية لا تقل شأنا - بل تفوق – عن أعلى النساء الفرنسيات تحضرا وذكاء وثقافة. يقول الناقد "رجاء النقاش": "في باريس يقال إن الشيخ كان يدخل الأوبرا الفرنسية بصحبة الأميرة نازلي فاضل وهو بالعمامة. ولم يكن ذلك يثير دهشة الفرنسيين وإنما كان يثير دهشة المصريين والعرب لأنهم لم يكونوا يتصورون أن هناك عمامة شرقية في الأوبرا الفرنسية".

وتجذرت نزعة الأميرة التحررية أكثر بعد أن لجأ والدها "مصطفى فاضل" إلى باريس فرارا من رجعية واستبداد السلطان العثماني "عبدالعزيز" (1830-1876م). ومن باريس كتب والدها رسالة للسلطان العثماني تؤكد دعوته للحرية وتنديده بالاستبداد. رسالة ظلت الأميرة فخورة بها طيلة حياتها وأشرفت على ترجمتها ونشرها وتوزيعها. وفيما بعد أرسلت بنفسها رسالة مماثلة إلى السلطان "عبدالحميد الثاني" (1842-1918م)، وكانت فائقة الجرأة والتحرر بمعيار التوقيت الذي كتبت فيه (22 أكتوبر 1896م). وحسبما يذكر الشاعر المصري "ولي الدين يكن" (1873-1921م) فإن الوشايات تتابعت لعبدالحميد تحريضا على الأميرة المصرية: "وكانت حجة المستبدين في تخطئة فاضلة الشرق أنه لا يجمل بعقائل الإسلام أن يسافرن إلى بلاد النصارى ويخالطن أعداء الخليفة". ويعلق "يكن": "ولو رزقهم الله أقل ما يرزق عباده من عقل أو إنصاف لفاخروا بها النساء من سالفات ولاحقات". 

  

وإليك بعض ما جاء في رسالة أميرة التنوير:

"يذكر مولاي الأعظم أنه قال ذات يوم للمرحوم خليل باشا شريف: "إني مغرم بكلمة الحق". ولقد بشرني المرحوم بهذه البشارة الملكية، وتعاهدنا كلانا منذ ذلك ألا نحيد عن كلمة الحق. ولما زرت الآستانة منذ أربع سنوات أوصاني بعض المقربين بأن أرفع إلى مولاي عريضة أستقيل بها من هفواتي. ولما لم يكن لي علم بهفوة تكون سبقت لي لم أُقدِم على هذا الأمر"

"أشكر اليوم ما أصابني من الغضب الملوكي، وإن في بعدي عن مشاهدة ما وقع بالآستانة من الزلازل وما نزل بالرعية من الفقر وما جرى من دماء المظلومين الذي ذبِحوا كما تذبح الأُضحية وعن سماع استغاثات المظلومين وتأوهاتهم ما يسليني وما أحمد الله على بعدي عنه. وسأستمر لذا على العمل بنص الأمر الملوكي الذي أبلغتنيه الحكومة المصرية غير رسمي ما دامت لي الحياة". 

 ويحدثنا "ولي الدين يكن" عما سببت رسالة الأميرة إلى السلطان من غضب جنوني بقوله: "فلما استقرأ الكتاب استشاط غضبا واربد وجهه وغلب عليه طبع أكلة البشر، فلو كانت الأميرة عنده ساعة رنت في آذانه كلماتها لنشب فيها أظفاره وأنيابه، ولكنه اكتفى من الانتقام بما خص الله به أهل العجز من المجبنين، وحقد حقدا لا تزيله من صدره تقلبات الأيام". ويضيف: "ولقد بلغ بغض عبد الحميد للأميرة الفاضلة أن خاف رجاله أن يذكروا لها اسما في القصر كلما أتى ذكرها في جريدة من جرائد أوروبا"

الأميرة في مصر

بعد وفاة والدها عادت الأميرة للإقامة في مصر، لتواصل منها تشجيع الحركات المعارضة للحكم العثماني، والمشاركة في المؤتمرات المنادية بالإصلاح والدستور، كما انخرطت في تأييد ودعم تام الثورة العرابية منذ بداية وقائعها وحتى هزيمة الجيش المصري في التل الكبير واحتلال مصر سنة 1882م. ويبدو أن الفشل الذي منيت به الثورة وأفرخ احتلال مصر كان له تأثير مهم على تغيير نظرة الأميرة السياسية، وهو نفس التأثير العميق الذي توّلد عند الإمام "محمد عبده" إبان تحوله من ثائر سياسي إلى إصلاحي تنويري. إضافة إلى بعد شخصي يرتبط بالأميرة وأسرتها، ففي ذلك الوقت كان الشعور الشعبي في مصر يضطرم بالكراهية ضد الخديو "توفيق" الذي استعان بالإنجليز في عودته لقصره محروسا بأسلحة جيوشهم بعد هزيمة العرابيين. كانت "نازلي" ووالدها محبوبين لدى المصريين بسبب موقفهما من الخديو "إسماعيل" والد "توفيق"، ومن سلاطين آل عثمان.

في مسارها التنويري عكفت الأميرة المثقفة على توظيف ما لها من جمال ونفوذ وذكاء ومكانة مرموقة في استمالة القلوب وتغيير العقول، وناضلت عبر حقبة نهاية القرن التاسع عشر ضد وضع المصريات المتردي، وضد تغييبهن عن الحياة العامة، ومن أجل استرداد حقوقها ومواقعها التي تليق بإنسانيتها أو "ناطقيتها" كما قال رفاعة. كانت المصرية الوحيدة آنذاك التي "تتشبه بالأجنبيات"، لا ترتدي الحجاب وتختلط بالرجال، وتستخدم صالونها الثقافي والفكري الذي عادت به من باريس لتوجيه دفة التنوير المصري لتدخل به إلى القرن العشرين.

لم تكن الأميرة "نازلي فاضل" وضيوف أول صالون تنويري في تاريخ مصر الحديثة من نخبة رجال الأدب والفكر والثقافة يكتفون بالحديث عن الأدب والشعر، لكنهم كانوا يتدارسون أحوال البلاد ويتطارحون كافة القضايا الفكرية والاجتماعية والأدبية والسياسية المهمة. وقد كتب شيخ الأزهر "مصطفى عبدالرازق" قائلا: "إن صالون الأميرة نازلي فاضل كان مجتمعاً للعظماء وقادة الرأى فى مصر فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وقد اتصفت هذه الأميرة بصفات شخصية عالية جعلتها تميز قيم الرجال وتخص الشيخ محمد عبده بمكانة تجمع بين الحب والإجلال".

وبلهجته الحادة سجل د."زكي مبارك" الرفيق الأزهري للزعيم "سعد زغلول" ذكرياته في تلك الآونة بقوله: "ثم عرف سعد التمهل والدقة بصلته بالشيخ محمد عبده، فبدأ يوسع من دراسته للشريعة والسياسة. وعرفت قدماه مع شيخه الجليل طريقها لصالون شهير كبير يشبه صالونات فرنسا ويفوقها لأميره متحررة اسمها "نازلي فاضل" فإذا حاله ينقلب ولسانه يعوج. بدأ يتحدث الفرنسية، ويهتم بملابسه الأفرنجية وأصبح عنده قبعة بجوار الطربوش وشعرت أنه داوى جروح القلب ودوخه العمل معا". ليس هذا فحسب لكن الأميرة اختارت "سعدا" محاميا لها إلى جانب محام آخر شهير هو الزعيم الوطني "محمد فريد". والأكثر أنها كانت من أوائل من توسموا علامات النبوغ والعظمة وقوة الشخصية في الفلاح المصري العتيد الذي قاد فيما بعد ثورة 1919م، فنصحته بدراسة اللغة الفرنسية التي أجادها كلغته الأولى. وبفضل الأميرة "نازلي" تمكن "سعد" من الاقتران بزوجته "صفية زغلول" أم المصريين بعد ذلك. كانت "صفية" ابنة الارستقراطية التركية فوالدها "مصطفى فهمي باشا" رئيس الوزراء المعروف بقربه من سلطات الاحتلال وبتعاليه على الفلاحين المصريين. ليس مدهشا إذن أن تكون الصورة المعلقة فوق فراش زعيم الأمة في "بيت الأمة" ليست صورة زوجته أم المصريين لكنها صورة أم زعيم المصريين الروحية.

نفس الدور الارشادي قامت به الأميرة المثقفة تجاه الإمام "محمد عبده" ويذكره المفكر "عثمان أمين" تعليقا على الرسائل الخطية المتبادلة بين الإمام والأميرة بقوله: "أمر الصداقة بين الشيخ والأميرة حق.. واختلاف الشيخ محمد عبده إلى قصر الأميرة أمر مقرر. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن عناية الشيخ محمد عبده بإتقان اللغة الفرنسية ربما كان نفحة من نفحات الأميرة التي كانت تتكلم الفرنسية كإحدى بنات "السين" ذوات الثقافة العالية والأدب الرفيع. ونظرة إلى مجموعة الكتب الفرنسية التي وجدت بمكتبة الأستاذ الإمام والتي تعالج شئون الأدب بنوع خاص. تؤيد ما ذهبنا إليه من أثر الأميرة في ميول الإمام وقراءاته". وقبل ذلك لم يكن يمكن للإمام المنفي أن يعود إلى مصر لولا تدخل الأميرة بالوساطة له لدى الخديو

كان صالون "نازلي فاضل" كما يؤكد "رجاء النقاش" من أخطر المؤثرات في حركة النهضة الفكرية والاجتماعية في مصر الحديثة، وأضيف أنه كان طريقا ملكيا لمصر وهي على أعتاب القرن العشرين باتجاه التحرر والاستنارة.


تحرير محرر المرأة

رغم ذلك قد لا يكون في سيرة أميرة التنوير "نازلي فاضل" دور بطولة أعجب وأكثر إثارة من نجاحها في تحرير "قاسم أمين" من نفوره واحتقاره للمصريات. بعد عودته مباشرة من دراسته للقانون في فرنسا أواخر القرن 19، كتب محرر المرأة الشهير سلسلة مقالات في جريدة "المؤيد"، لكن العجيب أن مقالاته كانت حافلة بالهجوم على المرأة المصرية والازراء بها، طالب فيها "قاسم أمين" بأن تلزم المرأة المصرية بيتها لا تحاول منافسة الرجل في أي مجال، ولا تخوض بأي شكل من الأشكال في شئون الحياة خارج البيت!.

أثارت مقالات "قاسم" غضب الأميرة الشديد عندما قرأتها وطلبت من الإمام "محمد عبده" أن يبلغه استياءها الشخصي، وأنها مستعدة لمناقشته فيما كتب عن سوء وضعف وتفاهة وانغلاق المرأة المصرية، فما ينقص المصريات ليثبتن جدارتهن هو الفرصة اللواتي حرمن منها نتيجة ظلم الرجل. ويصف المؤرخ "السيد فهمي الشناوي" اللقاء العاصف بين الأميرة والمفكر بقوله: "ذهب قاسم أمين مع الشيخ الإمام إلى صالون نازلي فاضل فوجد أمامه سيدة تتقن الفرنسية والإنجليزية والتركية كأبنائها، يحضر مجلسها قمم شامخة من رجالات مصر، ويجدون في هذا الصالون غذاءهم الذهني والنفسي، لا تجلس معهم فقط ولا تتحاور وتتجاوب معهم فكريا وحسب بل كانت أكثر من ذلك كله صاحبة رأي مستقل ثاقب في الأمور الداخلية والشئون العالمية. وجد قاسم أمين نفسه على حد قوله: أمام امرأة مصرية تدافع عن مصر ونساء مصر وحقوق مصر وكل ما يمت إلى مصر بصلة بل إنها تجادل الكتّاب الأوربيين عندما يزورونها في صالونها وتفعل ذلك كله دون أي حرج وبلا مقابل تتوقعه، ودون طمع في أي مركز سياسي أو مكسب اجتماعي أو طنطنة إعلامية. إنها امرأة أصيلة إذن".  

في هذا اللقاء تعلم محرر المرأة أن المرأة المصرية يمكنها أن تتفوق على الأوروبية، فكانت المراجعة الفكرية الأهم تقريبا في تاريخ نهاية القرن التاسع عشر، وقدم "قاسم أمين" من خلالها كتابيه الخالدين: "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة".

تونس بعد مصر

في سنة 1896م اقترنت "نازلي فاضل" بعد رحيل زوجها الأول بسنوات شابا تكبره بعشر سنوات هو الإصلاحي التونسي "خليل بوحاجب" (1863-1942م) وهو أحد مشاهير حركة الاصلاح التونسية وتولى فيما بعد منصب رئاسة الوزراء في تونس. وكتب الشيخ "رشيد رضا" مباركا الزواج في جريدة "المنار" فقال: "قد صرنا في زمن يترفع فيه الأمراء عن مصاهرة العلماء، ويحب العقلاء أن يزول سبب هذا من الطبقتين، ولن يزول إلا بانتشار العلم في الأمراء، وباقتدار العلماء على إدارة مصالح الدنيا، وقد رأينا بوادر هذه الأمنية، فإن صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم أشهر أميرات الشرق بالمعارف والفضل، رغبت التزوج بحضرة المفضال السيد خليل بوحاجب رئيس القلم الجنائي بالوزارة الكبرى في تونس، ونجل كبير العلماء في القطر التونسي سالم بوحاجب، وقد صدر أمر مولانا العباس لدولة الأميرة بالإذن بعقد الزواج".

فور أن انتقلت للإقامة هناك أسست الأميرة صالونها الذي ضم نخبة وجوه الفكر والسياسة في البلد الجميل، كما استضافت فيه أهم وجوه التنوير والإصلاح في مصر، وعلى رأسهم الأستاذ الإمام "محمد عبده" و"قاسم أمين". وتواصل نضال "نازلي فاضل" في تونس من أجل إنقاذ المرأة التونسية من وضعها المتردي وقيودها التي تكبلها، وقد تكللت جهودها عبر جمعية "الخلدونية" الثقافية بإنشاء أول مدرسة للبنات في تونس، كما تابعت الصحف التونسية جهودها الخيرية في عدة مجالات وأنشطة. واستقرت الأميرة في تونس حوالي 13 عاما ثم عادت إلى مصر قبل وفاتها سنة 1913م بسنوات قليلة. ومنذ أعوام قليلة قرر التونسيون تكريم الأميرة المصرية العظيمة بإطلاق اسمها على أحد الشوارع الرئيسية الهامة بالقرب من قصرها الذي أقامت فيه.

أغمضت "نازلي فاضل" عينيها قبل ثورة 19 الشعبية بست سنوات، ودون أن ترى بعينيها ثمار جهودها التنويرية اليانعة تزهر في كل المجالات، لكنها لم ترحل حقا لا عن مصر ولا عن تونس.
-----------------------------
بقلم: عصام الزهيري
من المشهد الأسبوعية







اعلان