29 - 03 - 2024

الباعة الجائلون..

الباعة الجائلون..

قد يظن ظانُّ عند مطالعتِه هذا العنوان أن ثمة استنكارا وغضبا شديدين تجاه الباعة الذين يقفزون بين عربات المترو أو الأتوبيسات أو يسيرون في الطرقات، وتباين آليات تسويق بضاعتهم التي ربما قد تضايق كثيرين، ولعل يُتعجب في أثناء عرضهم سلعتهم من فصاحة ألسنة بعضهم، التي قد تحتاج لدراسات ربما تؤهل باحثين للحصول على درجات علمية، قبل أن يردوا عليهم بضاعتهم رغم أن ثمن اقتنائها بخس ، جنيهات معدودة، محتمل ألا تكفي لشراء شيء آخر.. 

فذاك البائع الساعي إلى لقمة عيشه، يصعد أحد الأتوبيسات رامقًا الواقفين بناظريه لربما يصادف من يُتوسم فيه الشراء، قبل أن يبدأ توزيع بضاعته على الجلوس.. فإذا بهذه السيدة العائدة من عملها متمتمةً (أنا بركب الأتوبيس بدل المترو علشان أوفر 5 جنيه من المواصلات، قوم أشتري بالفرق حاجة مع أنها رخيصة وممكن تنفع الأولاد، بس خليها في وقت تاني أكون لسة قابضة)،.. وهذا الجالس المثقف يطالع أعين الواقفين، ربما لأكثر من ساعتين، ذهابا وعودة، بشكل يومي، وهي ترقُب ما يباع، ليرثِي سرًا حالهم، رجالا ونساء.. 

كذلك هناك رجل شيخ صرخ بصوت عال وهو يدفع ثمن التذكرة (5.5 جنيه): «معيش غير 5  بس، يعني هتفكلي 10 علشان نص جنيه» ليرد عليه "الكمسري" بصوت به حدة: (وأنا لو كل زبون سيبتله النص جنيه هوفر إيه للعيال من الشغل، دا المرتب بيقضي معانا لآخر الشهر بالعافية)، ليتواصل الحوار- الذي لم يخلُ من عبارات  تتضمن الرفع الأخير لثمن لتذكرة (نصف جنيه)، جراء تحريك أسعار المحروقات، وتتطور الأمور إلى حديث جانبي عن الغلاء بشكل عام مقابل ضآلة الرواتب- قبل أن تتنهي المشاجرة الكلامية بتنازل أحد الطرفين..

وعلى هذين الكرسيين المتجاورين في مؤخرة الأتوبيس يجلس أربعينيان، كل منهما يرتدي في كتفه حزام حقيبته التي ربما يحمل فيها طعام إفطاره الذي يتناوله في عمله توفيرًا للنفقات من ناحية، وضمانًا لإراحة معدته من ناحية أخرى، وتنم هندمتهما عن الاطلاع على الأمور الحيواتية، متحدثيْن في جوانب شتى تشمل تطورات السياسة النقدية وقيمة العملة المحلية التي- تنفيذا لشروط متداولة من جانب صندوق النقد الدولي للحصول على قرض يساعد في الاحتياطي الأجنبي-  ربما يترتب على تعويمها بشكل كامل  تآكل أكثر في قيمتها وانفلات محتمل للأسعار التي أضحى كثيرون لا يحتملونها، مستزيدين: ماذا لو تم إلغاء الدعم بشكل كامل؟.. ساعتها ستتضاعف المعاناة!

ويتطرق الحديث إلى المشروعات الهائلة التي يتم تنفيذها على جميع المستويات، ورغم الإشادة والتقدير الملموسين، فإنهما تساءلا ماذا لو تم الاكتفاء بإكمال ما هو مفتوح منها، وإرجاء غير الضروري، أقله في الظروف العصيبة الحالية التي ساعدت في تفاقمها الأزمات الجيوسياسية المحيطة، كما فكرا بصوت عال في أولويات هذه الاستثمارات بالنسبة للدولة ومقدار ومدى عوائدها على المواطن..

وتناول الحديث أهمية البحث عن موارد أخرى لا ترهق جيب المواطن، مرددين ما تم تداوله على صفحات التواصل الاجتماعي من إمكانية طبع تذاكر مترو عليها أسماء شخصيات طبيعية واعتبارية، بل تسمية محطات بشركات وكيانات لها ثقلها في السوق ولو من منطلق المسؤولية الاجتماعية مقابل حق انتقاع إلى وقت معلوم، قبل التفكير مرارًا تكرارا في تحميل زيادة التسعيرة على فئة بعينها..

وفي الوقت الذي يضحكان فيه على رد أحد وزراء المجموعة الاقتصادية في لقاء تليفزيوني بشأن كيفية التصرف عندما تعرضا لشرح الفارق بين الميزانية الجديدة وما تم استلافه وما سيتم سداده قائلا من دون تردد «هستلف تاني»، صاح البائع المتجول غاضبًا: «إيه يا جدعان الناس مالها دا عاشر أتوبيس أطلعه ومحدش يشتري حاجة»..  
--------------------------------
بقلم: عزت سلامة العاصي

 

مقالات اخرى للكاتب

«العصفور المفترس».. هل أدرك المحتل حجمه؟





اعلان