18 - 04 - 2024

من المقالة للاستقالة

من المقالة للاستقالة

لم تكن مقالة أو رسالة محافظ البنك المركزي المستقيل عن سلوك وتاريخ رأسمالية قديمة، بل عن واقع ممتد كليا أو جزئيا من عصري السادات ومبارك. وكانت تلك الرسالة الكاشفة هي أهم ما صدر عن الرجل. لكن الحقيقة أنه لم يكن منفصلا عمن صنعوا ذلك الواقع سواء كان هو من اختار وصمم السياسات النقدية منذ عام 2016 وفي مقدمتها التخفيضات المتتالية لسعر الصرف والتي أشعلت الغلاء وزادت الفقراء فقرا والأثرياء ثراء وفاقمت عجز الميزان التجاري في ظل ضعف الإنتاج المحلي وعجزه عن الاستفادة من تلك التخفيضات، أو تلقاها من سلطات أعلى، أو بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي ولن نقول بالإملاء منه باعتباره وكيلا للدول الدائنة لمصر. 

وتصورت أن الحديث عن الأوليجاركية وعن الاستحواذ على الشركات العامة من خلال قروض مصرفية يتم سدادها من أرباح تلك الشركات  أي بدون دفع أي ثمن حقيقي لتلك الشركات، سوف يعني رفض تلك السياسات والخروج من دائرتها الجهنمية. كما تصورت أن الحديث عن نقد الدعوة التي كان د. محمود محيي الدين قد أطلقها عندما كان وزيرا للاستثمار في عهد مبارك ببيع كل الأصول العامة وتوزيعها على المواطنين (مشروع الصكوك) لتلتهمها العصبة أو القلة المالكة والحاكمة (الأوليجاركية) بعد ذلك كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق، يعني أن الرجل يتبرأ من كارثة الخصخصة وبيع ما بنته الحكومات والأجيال السابقة لتمويل إنفاق جاري أو إنفاق غير منتج على البنية الأساسية التي تفوق الاحتياجات ولا تراعي أصول الأولويات. وتصورت أن ذلك سيعني الوقوف أمام الموجة الجديدة لخصخصة حصة المال العام في شركات مدنية ناجحة ورابحة. وتصورت أن حديثه عن الفتح العشوائي للسوق المصرية الذي ساهم في تدمير الصناعة المصرية وخنق آليات إيجاد فرص للعمل في الداخل، لصالح خلق فرص للعمل في الخارج في البلدان التي نستورد منها، والإضرار بالزراعة وتسييد نمط استهلاكي قائم على الاستيراد يستنزف حصيلة مصر من النقد الأجنبي، سوف يتبعه طرح برنامج لترشيد الاستيراد ولدعم الإنتاج المحلي بسياسات كلية ونقدية ومالية تحقق هذا الهدف بكفاءة ومرونة.

وتصورت أن حديثه عن عدالة سعر الفائدة، سوف يتبعه إقرار سياسة ثابتة تجعل سعر الفائدة أعلى من معدل التضخم دائما حتى تكون هناك فائدة حقيقية وعادلة للمودعين وغالبيتهم الساحقة من القطاع العائلي (82%) أي الطبقة الوسطى. وتصورت أن حديثه عن تحول مساحات شاسعة لزراعة حدائق الفاكهة بينما نستورد السلع الزراعية الاستراتيجية وعلى رأسها الحبوب، سوف يتبعه اقتراح لتنظيم قطاع الزراعة العشوائي عبر دورة زراعية مرنة وسياسة للحوافز تشجع المزارعين على زراعة المحاصيل الاستراتيجية. وتصورت أن حديثه عن إهمال القطاع العام سوف يترتب عليه اقتراح بإصلاح هذا القطاع وتطويره بدلا من عمليات التصفية من وزير تمت إقالته مؤخرا وكان رافضا لهذا القطاع أصلا قبل أن تختاره الدولة وزيرا مسئولا عنه! وتصورت أن حديثه عن مشروعات جهاز الخدمة الوطنية التي أشار إلى أنها ناجحة وتصدر إنتاجها لـ 40 دولة سوف يوضح أن تلك المشروعات تتمتع دونا عن باقي الشركات العاملة في القطاع المدني، بإعفاء من الضرائب وهي تنافس في القطاع المدني، ولو تمتعت شركات القطاع العام المدني والقطاع الخاص بذلك الإعفاء أو تم تطبيق معدل واحد للضرائب على الجميع كقاعدة أساسية لعدالة بيئة الأعمال فإننا كنا سنرى آداء أفضل كثيرا للقطاع الخاص وللقطاع العام المدني خاصة لو أحسنت الدولة اختيار قياداته ممن يتمتعون بالكفاءة والنزاهة والإيمان بدور الدولة وقطاعها العام.  

لكن الرجل كان يريد إبراء ذمته من سياسات هو أحد المسئولين عنها، ولم يتحدث عما سببته سياسة تخفيض سعر الصرف من معاناة للشعب تمثلت في الغلاء والبطالة والفقر، وما أدت إليه من تباطؤ شديد ثم ركود عميق للقطاع الأكثر أهمية لأي عملية تنموية وهو قطاع الصناعة التحويلية الذي بلغ معدل النمو فيه نحو 2,8% عام 2018/2019، ونحو 1,4% عام 2019/2020، قبل أن يدخل في ركود عميق ويتراجع الناتج فيه بنسبة -5,8% عام 2020/2021 وفقا للبيانات الرسمية (البنك المركزي المصري، النشرة الإحصائية الشهرية، يوليو 2021، يونيو 2022 صـ 19). لم يفعل الرجل سوى إبراء ذمته من سياسات كان مسئولا عن جانب منها وذهب لمنصبه الجديد ويجعله عامر! 
-----------------------------
بقلم: د. أحمد السيد النجار

مقالات اخرى للكاتب

من المقالة للاستقالة





اعلان