26 - 04 - 2024

يأكلون الناس ويدفنون السمك

يأكلون الناس ويدفنون السمك

يقول التاريخ إن الكاتب الإيطالي كورزيو مالابارته كان يعمل فى أثناء الحرب العالمية الثانية (هى حرب فرضتها أوروبا على العالم) مراسلًا لإحدى الصحف على الجبهة الروسية، وعندما استسلمت إيطاليا عاد إليها وعمل ضابط اتصال بين حكومة بلاده وقوات الحلفاء التى دخلت إيطاليا تحت قيادة الجنرال الأمريكي كلارك بزعم تحريرها من الفاشية.

سجل مالابارته خطوات تحرير الأمريكان لبلاده من الفاشية فى سيرته الذاتية (الجلد) التى كان شاعرنا الفذ صلاح عبد الصبور أول من نقلها إلى العربية.

يقول مالابارته: «كنت أجوب نابولي مع صديقي الكولونيل الأمريكي جاك هاملتون وكان منظرنا بملابسنا النظيفة ووجوهنا التى يبدو عليها الشبع يبدو غريبًا بين الأنقاض والجوع، كان النساء يقلن فى صوت هامس لجنود الحلفاء: الولد بدولارين والبنت بثلاثة ووجدت نفسى أسأل صديقي الأمريكى: هل تريد بنتًا صغيرة بثلاثة دولارات؟"

وذات مساء اصطحبنى صديقى الأمريكى لكى أرى عن قرب عذراء إيطالية!

كان على باب غرفة العذراء حفنة من الجنود بعضهم أمريكى وبعضهم إنجليزي أو بولندي، دفعنا لامرأة كهلة دولارين، ودخلنا حجرة العذراء، كانت تجلس على السرير وقدماها قد تدليتا على الأرض، وكانت تدخن فى سكون، كانت تبدو صغيرة جدا وإن بدت عيناها كعيون العجائز، جاء صوت المرأة: «كفى اشتغلى» سحقت الفتاة سيجارتها على الأرض، ومدت يديها إلى ثوبها، ثم بعد لحظة كانت تستلقى على السرير عارية تمامًا وكان وجهها نصف مفتوح فى ضيق، وصاح صوت من ورائنا: «إنها عذراء ويمكنكم أن تلمسوها ولا تخافوا، إنها لا تعض، إنها لا تؤذى أحدًا». مد زنجي يده ولم تتحرك الفتاة ظلت تنظر بعينين مليئتين بالخوف واللعنة، ثم انتهى العرض ولبست ثوبها وانتزعت من بين شفتي بحار إنجليزي سيجارة، ثم خرجنا وكانت خطانا تتناثر على أرض الحارة مليئة بالخزي والمذلة، قلت للأمريكي: «لا بد وأنكم مزهوون، لأنكم قهرتم أمة إلى هذا الحد، فبدون تلك المناظر كيف كنتم ستحسون أنكم منتصرون".

ثم بضربة مشرط يذهب مالابارته إلى رأس الدمل الأمريكى فيقول: «كان الجنرال كلارك قد أقام مأدبة عشاء تحية لمسز فلات وهى أمريكية تعمل فى الصليب الأحمر تشرف على الكثير من أعمال الخير، طبخ لنا طباخ الجنرال سمكة عروس البحر، كانت عينا السمكة مفتوحتين وشفتاها نصف مغلقتين، وكانت بشرتها تلمع كما يلمع ثوب المسز فلات الغامق، ندت صرخة فزع من شفتي المسز فلات وتراجع الجنرال فى مقعده، صاحت المسز فلات: «أبعدوا هذا الشيء الفظيع عنى لم آت إلى أوروبا لآكل لحم الفتيات الصغيرات». رد الجنرال: «لكنها سمكة». فجأة صاح الكولونيل براون وهو من كبار الوعاظ فى الجيش الأمريكى: «ينبغي أن ندفنها".

وجدت الفرصة سانحة للتدخل فقلت: «ولكن ليس هناك مدافن للسمك فى نابولي يا صاحب القداسة، أهل نابولي يأكلون الأسماك ويدفنون الناس، ولكنهم لا يأكلون الناس ويدفنون الأسماك".

قال الواعظ كأنه لم يسمع كلامي: «نستطيع أن ندفنها فى الحديقة».

أحنى الجنرال رأسه موافقًا وأطرقت المسز فلات ثم انحدرت الدموع من عينيها وصاحت: «شكرًا لله».
-------------------------------
بقلم: حمدي عبدالرحيم

مقالات اخرى للكاتب

يأكلون الناس ويدفنون السمك





اعلان