19 - 04 - 2024

نمو الروح

نمو الروح

لا أنكر تلك النزعة التي تجعلني أشعر من وقت لآخر بحاجتي الماسة لسماع المديح النبويّ، لأنّي أحس حينئذٍ بعاطفة يهتزّ لها قلبي، هذا الأمر جعلني من حين لآخر أمسكُ بمسبحتي وأمشي كالتائه في طريقه إلى أن أجد مسجداً أرى فيه شباباً ينشدون تلك الأناشيد التي يجري فيها ذكر الجناب النبوي بصوتهم الشجي، فأدخل وأجلس بقربهم، لا معهم، سأكون أحد المتحلقين وإن كنت بعيداً عنهم، سأجلس على الحصير كما يجلسون، سأردد ما يرددون، وأسمع إلى شيخهم كما يسمعون، أحياناً أقول لنفسي: لتقدر نفسك قدرها، فالذي يوقعك في مثل هذا هو تقويمك لنفسك قيمة أقلّ مما تستحق، فإنّما حقك الجلوس في صدر المجلس، لا مجرد السماع منهم، لكن سرعان ما تعتريني حالة النفس المقصرة، والمرء أعلم بحاله من غيره، علاوة على أنّ الفكر متبدد، وشغل الخاطر متعدد، وضعف النفس واضح، ولربما أنّي أعلم أنّ الجلوس معهم هي منزلة رفيعة لم أحصلها بعد، فإذا ما تشبعت بكلامهم، وأخذت عدتي من صنيعهم، واستغرقت في تفهم معاني ما ينشدونه هدأت واطمأننت، ثم خرجت مسرعاً؛ لأعود إلى بيتي والسعادة تملأ قلبي، تلك العادة عرفتها ولازمتني من صغري حينما كنت أرى والدي يجتمع مع أصحابه ليلة الجمعة في مجلسهم الأسبوعي، ينشدون الأشعار، ويقرأون أورادهم وأذكارهم، لقد عمل في تكويني إلى حدٍ كبيرٍ ما ورثته عن والدي وجدي لأمي وأساتذتي، لا أستطيع حصر ما استفدته من صحبتهم، فقد اختزنت منها كثيراً، تأتي مناسبة أستخرج منها ما يفيدني في كتابتي. 

هذا النوع من التربية مرسومٌ في ذهني منذ الصغر وإن كنت لم أستطع التعبير عنه ورسم حدوده وبيان ماهيته إلّا في الكبر، من ذلك الحين اتصلتُ بالمديح أسمعه وأتتبع أماكنه، لا أنسى أنّ من النماذج النيرة لهؤلاء القوم الصالحين حينذاك تلك الشخصية المحببة إلى قلبي التي عرفتها في صغري، وأعدها نموذجاً فريداً في صدق محبتها لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما هو عليه من الورع والزهد، كنت أراه وأنا في المرحلة الابتدائية، وكان مديراً لمدرسة القرية، هو الأستاذ العابد الأديب ربيع قطري، لعلّ له الفضل في تقديري للأدب، كان يغدق عليّ الألقاب في صغري فأتحمس لذلك، وإن كنت أعلم من نفسي آنذاك أني لا أستحقها، لكن كان يقرأ ما في مستقبلي أكثر مما يقرأه الواقع آنذاك، فاحتفظت بكلماته وحفاوته طيلة دراستي، وكانت خير معين لي على تجاوز كثير من العقبات، أعود فأقول: بحكم قربه من والدي كنت أجتمع به كثيراً، فلا يمرّ أسبوع وإلا وأجتمع معه في مجلس، كان رجلاً على غاية كبيرة من الصلاح والعلم معاً، طيب القلب، منور الشيبة، مشرق الوجه في حمرة ونضرة، وافر الذكاء، لبقاً، لسناً، واسع الاطلاع، حاضر البديهة، مقبلاً على ربه، مبتعداً عن كلّ صوارف الدنيا، منشغلاً بالذكر والعبادة، واصلاً لرحمه، مذكراً للناس، واعظاً فيهم في كل أوقاته، صدق فيه قول من قال: يعيش في زمن غير زمانه.

 مما يعلق بذاكرتي بخصوص هذا الرجل أنّه كان في أيام الإجازة الصيفية يمرّ على بيتنا والبيوت المجاورة، ويصيح في الناس قبل صلاة الفجر بقليل لإيقاظهم، لا تخلو مجالسه من إنشاد القصائد والمديح في جناب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رجلاً حافظة للشعر قديمه وحديثه، حتى كان يشاع عنه من كثيرين أنه يحفظ أكثر من خمسة آلاف بيت شعري، يكاد أن يكون أمراً متواتراً عنه، لا يخلو جيبه من هدايا صغيرة يقدمها جائزة لمن يلقي عليه بيتاً من الشعر من الأطفال، أو يعرب آية كريمة، أو يلقي عليه حديثاً شريفاً، وله قدرة فائقة على استساغة الأخبار والقصص العربية القديمة وإخراجها في عبارة جديدة تعين على فهمها، كان إذا مشى في الشوارع عرف الناس مجيئه إليهم عن بعد لكثرة ترداده للأذكار وتكراره للأبيات الشعرية في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه، كنت أرى الدمع يترقرق في عينيه حين يكرر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنكر أنّه كان في كثير من الأوقات يتصيد المارين من كبار وصغار ليسمعهم تلك الأشعار، فإذا تعب من الكلام توسم في جلسائه من ينشدهم، أو يفيدهم بجديد، أستعرض أحياناً أحوال هؤلاء البررة الذين فقدناهم فيطول حزني، لأنّ أهم ما يلاحظ في الآونة الأخيرة اختلال ما كان عندنا من نماذج نيرة مضيئة، ومن قيم لشؤون الحياة، وكم من الفروق بين القدوات الحقيقية والنماذج المزيفة! 

لقد أفادتني تلك التربية التي عرفتها في صغري أنّ خير هبة يهبها الله للمرء أن يكون محاطاً بقدوات صالحة تدفعه دائماً إلى الأمام، هذه القدوة التي تعرفها في بداية طريقك تكون مكملة لنقصك، مفتحة لأفقك، موسعة لنفسك.
-------------------------
بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني
* أديب وكاتب أزهري

مقالات اخرى للكاتب

المفتش المفاجِيء





اعلان