19 - 04 - 2024

السيناريو الخفي لمحاولة قتل سلمان رشدي

السيناريو الخفي لمحاولة قتل سلمان رشدي

المشهد الأول نهار داخلي

المكان : "معهد شاوتاوكوا" في غرب نيويورك.

الزمان : ٢٠٢٢

الحدث : رجل يقتحم المنصة ويسدد  15 طعنة لروائي طاعن في السن؛ اسمه سلمان رشدى؛ صاحب رواية "آيات شيطانية".. والتي بسببها أهدرت إيران دمه.

.....

المشهد الثاني نهار خارجي (فلاش باك).

المكان : مصر  أمام الجمعية المصرية للتنوير

الزمان : ١٩٩٢

الحدث :  قبيل أيام من عيد الأضحى، وعند خروج فرج فودة من الجمعية كان في انتظاره شابان معها مدفع رشاش آلي قاما بإطلاق النار على "فودة" فأصاباه إصابات بالغة في الكبد والأمعاء، توفى على إثرها.

............

المشهد الثالث نهار خارجي (فلاش باك).

المكان : مصر .. الشارع

الزمان :   1995

الحدث : قام شابان بطعن الروائي المصري العالمي نجيب محفوظ لإتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل(أولاد حارتنا).

مع العلم أن لنجيب محفوظ رأي صادم جدا جدا في رواية (آيات شيطانية) لدرجة أنه قال على الرواية انها تحتاج إلى محاكمة. وبغض النظر عن الجدل الدائر حول رأي "محفوظ" في الرواية، والذى اعتبره البعض داعشية فكرية خفية، و لكن دراويش النجيب نجيب محفوظ ردوا في شراسة؛ موضحين أن وضع "محفوظ" الأدبي والثقافي وقتها حتم عليه قول مثل هذه التصريحات؛ خاصة وأن الفترة التي خرجت فيها رواية (آيات شيطانية) للنور كانت فترة إرهابية بامتياز.

............

المشهد الرابع  ليل خارجي (فلاش باك)

المكان : مقهى بلدي

الزمان : من سنتين تقريبا

الحدث : كنت اجلس على مقهى بلدي وأكد البعض قيام ماكرون بالاعتذاز  عن الرسوم المسيئة للإسلام؛ وقتها قلت لأصدقائي لن يعتذر؛ فقيل لي سيعتذر؛ فقلت لهم لن يحدث ولو حدث سيقال.

وهو بالفعل ما حدث؛ فقد رواغ ماكرون كثيرا، ولم يقدم اعتذارا رسميا، والسبب الذي اغفله الجميع أن فرنسا حصلت على الحرية التي سمحت لهم برسم المسيح وهو يدخن والعذراء وهي تلد، بالدم؛ نعم هم دفعوا ثمن الحرية غاليا جدا. فقد عاشوا ثورة استمرت سنوات طويلة دخلوا فيها جميع أنواع الصراعات، والتي كان أشرسها صراعهم مع أنفسهم؛ فليس بالسهل على دول دينية تنحية الدين جانبا وفصله عن السياسة والحكم؛ كل هذا وأكثر لينهضوا، وبالفعل نهضوا نهضة حقيقية.

هل معنى كلامي أن نهين المقدسات بالطبع لا، ولكن معنى كلامي أن جوهر التقدم الحقيقي مبني على الحرية والتحرر والمكاشفة والشفافية. وهي أمور نفتقدها، ولكننا سنجدها يوما ما؛ كي لا يتكرر ماحدث مع رشدى وفودة ومحفوظ ، والذي سبق وحدث مع العملاق عميد الأدب العربي د. طه (طاها) حسين، بعد صدور كتابه في الشعر الجاهلي، وهو ما حدث مع النبيل د. نصر حامد أبو زيد والذي طلب منه ان يستتاب، وأبى الرجل؛ فطلق من زوجته وطرد ونكل به.

....

القائمة طويلة تضم أسماء من المشرق والغرب، نعم ما يحدث الآن في مجتمعاتنا العربية هو ما كان يحدث في العصور الوسطى حيث قتل الهراطقة، والهراطقة من منظور آخر؛ هم مفكرون أصحاب فكر أرتأى الباباوات في فكرهم مخالفات دينية وعقائدية فقتلوهم؛ كما حدث نفس الشيء مع غاليليو والذي نادى بمركزية الشمس وبدوران الأرض وبقية الكواكب حول الشمس التي تقع في مركز المجموعة الشمسية. وانتهى الأمر بمحاكمة غاليليو غاليلي وإدانته من قبل محكمة التفتيش الرومانية الكاثوليكية.

حدث ذلك أيضا مع الفيلسوفة العظيمة هيباتيا، والتي التف حولها جموع المثقفين ؛ مما سبب غضب الكنيسة، والتي كانت أهم منافس لفلسفة هيباتيا، المبنية على أقول أفلاطون حول طبيعة الإله والحياة الأخرى؛ بالإضافة إلى عدم التزامها بمبادئ الدين المسيحي الصارمة.

كان صراعا سياسيا بامتياز مغلف بمسحة دينية محببة للعامة، وفي مشهد مأساوي قتلت هيباتيا  على يد جموع من المسيحين.

..........

خلاصة القول عاشت أوروبا عصورا شديدة البؤس؛ حيث الجهل في كل شيء، ولكنها أفاقت ونهضت؛ فاعتذرت عما بدر منها سابقا، وبدأت نهضتها الحقيقية، وعلى النقيض تماماً بدلا من مراجعة النفس والاعتذار عن تصرفات غير إنسانية  صدرت من مجتمعاتنا العربية، وبدلا من الحفاظ على ابن رشد كنموذج حي وفعال لدولة الأندلس بكل ما قدمته من فكر؛  أكدنا على حرق كتبه بتهميشه، وأصبحنا ندرس للصبية  قصصا تمجد في المحاربين؛ في ترسيخ واضح لمنطق القوة؛ مع أن الأبطال الحقيقيين هم ابن سينا وابن خلدون وابن عربي وجلال الدين الرومي والحلاج وغيرهم، ولكن كيف ندرس للصبية أفكار الفلاسفة و أشعار الصوفيين؟!  فهم أهل النار على حد زعم البعض.

السيناريو الخفي في محاولة قتل سلمان رشدي هو الفكر الدينى المغلوط في عقول العوام؛ غير المؤهلين للاختلاف ولا للتعايش مع الآخر بشكل سلمي؛ فكل شخص تصادفه في الشارع يسير محملا بتفسيرات متعددة ومتضاربة ومتنوعة ومختلفة تربكه وتجعله دائما في حيرة من أمره، ولأن هذا الشخص وغيره يتمتع بثقافة محدودة، ويحيا ظروف معيشية بائسة يائسة لا تعطيه رفاهية القراءة والبحث فيصبح كالريشة في مهب الريح؛ فيصدق أي كلام يقال له.

فيهدر المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية دم سلمان فيحاول شاب قتل سلمان.

لا تستغرب الحقيقة يا عزيزي؛ فأغلب الناس المحيطين بك لديهم استعداد فطري لممارسة العنف؛ منهم من يمارسه بالقول و منه من يمارسه بالفعل. وهذا جزء جديد من السيناريو الخفي في قتل المثقفين.

جزء آخر في السيناريو الخفي في محاولة قتل سلمان رشدي هو سيطرة وهيمنة المؤسسات الدينية وأتباعها، والذين بكل بساطة يكفرون من يشاؤون ويمجدون من يشاؤون، والجهل قاسم مشترك والبهاليل كثر؛ يكفى أن تخرج علينا أي مؤسسة دينية لتمجد شخصا ستجد العوام يمجدونه، وعلى العكس يكفى أن تخرج علينا المؤسسة الدينية لتدين شخصا ستجد العوام (تفرتكه).

ولكي نؤكد على صدق هذا الكلام دعني احيلك إلى واقعة شهيرة جدا حدثت في ثمانينات القرن المنصرم حيث دخل الأديب الأريب ملك ملوك القصة القصيرة يوسف إدريس في صدام فكري مع فضيلة الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي، وقتها وصف "إدريس" الشعراوي بأنه (يتمتع بكل خصال راسبوتين المسلم، لديه قدرة على إقناع الجماهير البسيطة، وقدرة على التمثيل، والحديث بالذراعين وتعبيرات الوجه)، وكانت هذه العبارة هى محور التحقيق الذى كتبه الكاتب الصحفى محمد عبدالقدوس، وحمل ردودا عليها من شخصيات ثقافية وسياسية رفيعة ومسؤولة، ونشرته «أخبار اليوم، 1 فبراير 1986».

وقتها  وصف الدكتور أحمد هيكل، وزير الثقافة، عبارة إدريس، قائلا: «هذا كلام ساقط يتعارض مع القيم الدينية والأخلاقية والوطنية، والشيخ الشعراوى مفخرة لمصر)،  وقال سعد الدين وهبة، رئيس لجنة الثقافة بالحزب الوطنى: «هذا كلام لا صلة له بأى فكر أو ثقافة أو كتابة، بل هو سقوط من الكاتب وإسفاف فى الحديث»، ورد أحمد الخواجة، نقيب المحامين، ورد ممتاز نصار، زعيم المعارضة الوفدية فى مجلس الشعب وتعرض وقتها "إدريس" لهجوم شرس لمجرد أنه انتقد رجل دين، وأمام تصريحات "إدريس" المبتذلة من وجهة نظر كثيرين اعتذر، ولكنه قال جملة مهمة جدا وردت وسط مقال كتبه: "حين اتهمنا أنا والأستاذين الجليلين توفيق الحكيم وزكى نجيب محمود، بالكفر" وهنا مربط الفرس؛ فالكفر هي التهمة الأسهل والأسرع لدى رجل الدين لحسم أي نقاش.

وتبقى أسئلة لا إجابة لها من الذي يملك حق تكفير الآخر؟ أين القانون الرادع، الذي يطبق على الجميع؟ هل التكفير يكون بشكل واضح أم من خلال تلميحات؟

وبغض النظر عن الإجابة ، دعنى احيلك عزيزي القاريء لما هو أصعب نشرت مجلة روز اليوسف تحت عنوان الجهل المقدس غلاف  تصدرته صورتا أسقف عام كنائس وسط القاهرة سكرتير المجمع المقدس السابق والمرشح البابوي السابق، الأنبا رافائيل، ومرشد تنظيم جماعة الإخوان، محمد بديع، وقتها أعلنت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في بيان، استنكارها وطبعا تبدل الغلاف ولا تخرج قبل ان تقول سبحان الله فكل شيء في مصر جائز.

نحن يا سادة  لا نحتاج إلى فتاوى تكفير؛ نحن نحتاج إلى فتاوى إعمال عقل نحن نحتاج إلى إعلاء صوت العلم والتفكير العلمي؛ أيعقل ونحن في ٢٠٢٢ نبحث عن صحة الاكتشافات العلمية في الكتب المقدسة؟! أيعقل ونحن في الألفية الثالثة نرد على الكتاب والمفكرين بالحبس والمنع والمصادرة والقتل؟!

أيعقل ونحن أصحاب حضارة أبهرت واذهلت العالم نستجدي العلم والمعرفة من دول كانت في جوف العدم وقت كانت مصر تنشر علومها في كل زمان ومكان يقول أفلاطون (ما من علم تعلمناه إلا في مصر).

نهاية الأمر ، هناك مقولة عظيمة منسوبة للعالم الكبير ابن خلدون دعنا نقرأها سويا  (الفتن التي تتخفى وراء قناع الدين تجارة رائجة جداً في عصور التراجع الفكري للمجتمعات). تحيلنا هذه المقولة إلى جزء جديد في السيناريو الخفي في قتل المثقفين إلا وهي المواءمات والتوازنات ، بالطبع هي مطلوبة ولكن هنالك فرق عندما تكون حلا من ضمن حلول وأن تكون هذه المواءمات هي الوضع السائد بل الحل الأوحد.

والسؤال لك يا عزيزي القارئ من الذي حاول قتل سلمان رشدي؟
---------------------
بقلم : مينا ناصف

مقالات اخرى للكاتب

إحنا مش ضد اليهود!





اعلان