30 - 04 - 2024

اليونسكو والمعايير المزدوجة

اليونسكو والمعايير  المزدوجة

يحار المرء في موقف المنظمات الدّولية الكبيرة من عدد من القضايا التي تمس مصداقيتها؛ ومنها منظمة "اليونسكو" وهي منظمة الأمم المتحدة للتّربية والعلوم والثّقافة، والتي ينص ميثاقها علي عنايتها بشؤون التّربية والعلوم والثّقافة والتّراث في العالَم، وهي تلعب دورًا مُهمًا في العديد من القضايا التي تختص بها، فهي من المفترض- طبقًا لقانونها الأساسي وطبقًا لأهداف المؤسسات الدّولية الآخري المنبثقة عنها مثل: مركز التّراث العالمي ومنظمة المتاحف العالمية - أن تساهم في حماية الثّقافة ودعم السّلام ومناهضة العنصرية ودعم التّنمية ومساعدة الدّول الأعضاء بها علي تبني سياسات ثقافية تحافظ علي التّراث وتسعي من خلال التّعاون الدّولي علي حمايته وإدماجه كأحد الأسس الهامة لدعم هوية الأمم والشّعوب... وهو ما تسوق له المنظمة تحت عناوين متعددة منها: استخدام التّراث الثّقافي كوسيلة لدعم الهوية الثّقافية cultural identity للشّعوب والأمم.

و"اليونسكو" تدعم حماية المواقع الأثرية من المخاطر المختلفة؛ وتدعم إدماج التّراث وعودة المواقع الأثرية والمباني التّاريخية للحياة كوسيلة من وسائل التّواصل بين دول العالَم المختلفة، وتقوية روابط التّعاون بينها... وقد لعبت في السّابق أدوارًا جيدة في إنقاذ العديد من المواقع الأثرية منها: إنقاذ "آثار النّوبة"؛ وغيرها من المواقع التّراثية التي تعرضت للإتلاف المتعمد خلال الحروب والنّزاعات المسلحة.

إلا أن الملاحظ أن سياسات "اليونسكو" في العديد من القضايا لا تتناسب مع المبادئ والقيم التي تنادي بها، فهي تحارب العنصرية والإتجار غير المشروع في الآثار، إلا أن بعض القضايا تشير إلي استخدام "اليونسكو" لمعايير مزدوجة، فهي مثلًا وقفت موقفًا جيدًا من متاحف "الفصل العنصري" في "جنوب أفريقيا"؛ إلا أن موقفها الحالي من العنصرية البغيضة في "فرنسا" المتمثلة في "متحف الإنسان" - والذي تعرض فيه رؤوس الشّهداء و المقاومين للاحتلال الفرنسي -  يشير إلي هذه الازدواجية في التّعامل مع قضية واحدة، إذ كيف تسمح "اليونسكو" بإنشاء متحف هذه طبيعته ؟!

فهو متحف قائم علي مضامين تضاد حقوق الإنسان في المقام الأول، إذ من حق الإنسان عندما يموت أن يدفن ولا يكون مادة للعَرض والعبث بجسده بصورة مقززة تُظهر رؤية استعمارية وتنمي مشاعر الاستعلاء ضد أفراد من النّوع الإنساني قاوموا احتلالًا عسكريًا مسلحًا لبلادهم،  وحينما تمت السّيطرة عليهم لم تكتف "فرنسا" وغيرها من الدّول الاستعمارية بهزيمة المقاومين في مرحلة ما - وهم أي المجاهدين و المقاومين  أصحاب حق مشروع طبقًا لقيم و مبادئ الدّين و مبادئ حقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة - بل أنشأت متحفًا يجسد بلا خجل هذه العنصرية، وتعرض فية رؤوس أفراد من النّوع الإنساني، مما ينمي مشاعر الكراهية بين بعض أفراد النّوع الإنساني الواحد، وهو ما يضاد في الحقيقة رسالة "اليونسكو" كمنظمة دولية داعمة للسّلام.

ولاشك أن ما قامت به "الجزائر" من مفاوضات مع الجانب الفرنسي - المنشئ لهذا المتحف المضاد للإنسانية والمجسد لأحد أشكال العنصرية - لعودة بعض رؤوس الشّهداء، ودفنها وتكريم أصحابها باعتبارهم رموزًا للجهاد والمقاومة ضد الاحتلال والاستعمار أمر يعكس رفض الشّعوب والحكومات صاحبة الاختصاص لهذه التّصرفات المناقضة لأسس وقيم الإنسانية، وهي نفس القيم التي تتحدث عنها "اليونسكو" وتَدعي أنها تعمل من أجل نشرها ودعمها.

ولاشك أن هذه المواقف المتناقضة يُعرض هذه المنظمة الدّولية ومواثيقها للخطر وعدم المصداقية باعتبارها لا تتعامل مع المشكلات الواحدة بأسلوب واحد يعتمد علي أسس علمية وأخلاقية شاركت منظمة "اليونسكو" وغيرها من منظمات الأمم المتحدة  في إقرارها وتنفيذها.

والأمر المستغرب أنه في خلال نفس الشّهر الذي تعرضت فيه مصداقية "اليونسكو" للنّقد، كما امتحنت فيه معايير "اليونسكو" بسكوتها والموافقة الضّمنية علي السّلوك البربري لدولة احتلال سابقة وهي "فرنسا" بعدم احترام حق الأموات وعرضها لرؤوس الشّهداء؛ فلم نر بيانًا صحفيًّا و لا تعليقًا من منظمة "اليونسكو" ولا مؤسساتها الأخري: كمنظمة المتاحف العالمية وهيئة التراث العالمي  - نجد موقفًا آخر مغاير في قضية مماثلة وهي قضية مسجد "أيا صوفيا"... فنجد أن صوت "اليونسكو" كان عاليًا في قضية مسجد "أيا صوفيا"، والذي تشير الوثائق التّاريخية أن الوضع الأصلي لهذا الأثر من النّاحية العلمية المرتبطة بالتّراث هو (مسجد) منذ فتح القسطنطينية لمئات السّنين، وهذا الأمر له نظيره في كل الدّول؛ فبعد سقوط "الأندلس" تحول 'جامع قرطبة الكبير" إلي كنيسة، وكذلك تم تحويل معظم الآثار الأندلسية الي كنائس، والشّاهد في موضوع مسجد "أيا صوفيا' أن قرار تحويله الي متحف كان قرارًا سياسيًّا أثّر تأثيرًا حقيقيًّا علي حقيقة مبني أثري طبقًا لمعايير 'اليونسكو' ومعايير عِلم صيانة وحماية الآثار والمواثيق الدّولية العديدة، والتي تنص علي أن استخدام الآثار والتّدخل بها يجب أن يحافظ علي طبيعتها الأصلية، وعدم إجراء أي تغييرات أو تعديلات  تؤثر علي طبيعة الأثر ووظيفتة الاصلية كمنشأ ومبني يعبر عن رؤي معمارية تاريخية، وإلا كان هذا التّدخل مخالفًا للمواثيق الدّولية، ومنها ميثاق "فينسيا"  وغيره من المواثيق التي تحدد طريقة التّعامل مع المباني التّاريخية والمواقع الأثرية، إذ أن أهم قيمة يجب المحافظة عليها هي قيمة المحافظة علي الاصالة التّاريخية historical authenticity وهو ما تم بالنسبة لمسجد "أيا صوفيا"، وإن كانت "تركيا" لم تنجح في إثارة القضية من هذا المنظور، ولو فعلت لكان الهجوم عليها له شكل آخر.

ولاشك أن ازدواج التّعامل في قضيتين مرتبطتين بجوهر ورسالة منظمة "اليونسكو" وغيرها من المؤسسات التّابعة لها يفقد هذه  المنظمة الكبيرة  - من وجهة نظري كباحث متخصص في التّراث-  مصداقيتها، كما أن صمت باقي المؤسسات الدّولية المعنية بالتّراث والآثار والحضارة في مثل هذه المواقف يؤثر بلا شك علي الموقف الأخلاقي والعلمي المرتبط بطبيعة هذه المؤسسات ودورها المستقبلي.

أنني كأحد المتخصصين الذين تعلموا في "اليونسكو" وعملوا معها في العديد من المشروعات الكبيرة في مصر وغيرها من الدّول، أوجه هذا النّقد العلمي لهذه المنظمة الدّولية الكبيرة  - والتي اعتز بعملي معها - وأدعو خبراءها وهيئاتها المختلفة أن تراجع هذه المواقف، وأن تتخذ إجراءات مناسبة في سبيل منع "فرنسا" وغيرها من الدّول من العبث بالقيم الإنسانية وتدمير  القواعد والأسس التي بُنيت عليها منظمة "اليونسكو" وغيرها من المعاهد ومؤسسات التّراث الآخري، وأن تُفعّل مواثيقها بصورة واحدة في جميع الدّول، وأن لا تخضع قراراتها المتعلقة بالتّراث الإنساني والعالمي لضغوط السّياسة ومصالح الدّول الكبري... فالتّراث تراث سواء كان في دولة ذات نفوذ وقوة أو في دولة عارية من النّفوذ والقوة.
---------------------------------
بقلم: د. محمود الشّنديدي *
* المدير العام السّابق لهيئة صندوق: إنقاذ آثار النّوبة

مقالات اخرى للكاتب

الغرب وتراثنا الثقافي المنهوب





اعلان