16 - 04 - 2024

دستور من قصر الرئيس

دستور من قصر الرئيس

قال الدكتور "الصادق بلعيد" أستاذ القانون الدستوري الذي كلفه الرئيس" قيس سعيد" بوضع مسودة دستور جديد لتونس عبر لجنة اختارها الرئيس بنفسه وقاطعتها العديد من قوى السياسة والمجتمع المدني يتقدمها اتحاد الشغل: "آمل أن يحظي الدستور برضا السيد الرئيس" . 

وجاءت هذه العبارة على لسان "بلعيد" بينما يغادر قصر قرطاج الرئاسي ، وقد تجاوز من العمر 83 سنة ، وهو مولود في مارس عام 1939 قبل الحرب العالمية الثانية بنحو ستة أشهر.. ولن أذهب كما الزميل الكاتب الصحفي التونسي الأشهر "الصافي سعيد" صاحب  الكتاب الجرئ "بورقيبة سيرة محرمة" والذي طالما عاب وسخر من تونس ما بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 / 14 يناير 2011 ، حينما بدا له  تصدر " العجائز" مشهدي الحكم والسياسة في المرحلة الانتقالية قبل إقرار دستور 2014. وعلى أي حال فقد أصبح زميلنا الصحفي التونسي المخضرم (شبيه هيكل في بلاده أو هكذا يقال أو يتصور) يقترب بدوره اليوم من عامه التاسع والستين. 

وهذا وعلى الأقل لأن وضع دستور تونس ما بعد الثورة كان يختلف تماما عما يجرى الآن. صحيح أنه مر بمخاض عسير استغرق نحو ثلاث سنوات من النقاشات والشد والجذب داخل المجلس التأسيسي المنتخب بكتله المتعددة وخارجه. لكنه في النهاية يندرج تحت عنوان " العقد الاجتماعي" بين مكونات المجتمع المختلفة، وعبر حالة تفاوض بينها تحت الأبصار والآذان ورقابة الإعلام والرأي العام. وأيضا مع ما كان من زخم ثورة ألقت بظلالها في محاولة القطع مع ماضي ما بعد الاستقلال بين 56 و 2011 و تغول حكم الفرد / الرئيس و حزبه الحاكم وأجهزته الأمنية البوليسية. وقد اتضح لاحقا ان محاولة " القطيعة " لم تكن تامة وناجزة. ونكتفى هنا بدليل واحد هو توظيف الرئيس "قيس سعيد" للفصل 80 من الدستور بشأن صلاحيات رئيس الجمهورية لفرض حالة الاستثناء للانقضاض على البرلمان والدستور نفسه . مع إدراكنا للحجج القائلة بأن القراءة الرئاسية متعسفة وتنتهك النص نفسه، بما في ذلك شرط عدم حل البرلمان أو تعطيله. 

 على أي حال، وفي ظل أجواء من التعتيم الحديدي قدم الدكتور " بلعيد " مسودة دستور لم يجر الكشف عن نصوصه ، إلا في أمر أو أمرين على الأكثر. وهكذا على هيئة اقرب لبالونات الإختبار ربما للفت الانتباه عما هو أخطر فيما يتعلق بصلاحيات وسلطات الرئيس وسطوته على السلطات الأخرى.  والمسودة المغيبة حاليا وفي ظلام قصر قرطاج هي منذ يوم 20 يونيو الجاري بين يدي الرئيس. وهو قد يرضى عن فصول ويغير فصولا أخرى، وكما يهوى. وكأن "بلعيد" يطل علينا ثانية من صمته اليوم ليقول " لعله يرضى.. وحتى يرضى" .. والله أعلم .

وبالطبع هذه حالة مغايرة تماما لما كنت شاهدا عليها بشأن صياغة دستور 2014 من شفافية وبث مباشر لجلسات المجلس والجدل الحي بين قطاعات واسعة من المواطنين في الشوارع والميادين وعبر الأحزاب والجمعيات والنقابات وفي وسائل الإعلام وغيرها. كانت بالفعل حالة من الحوار الثري الخلاق في مناخ من الحريات. وهذا رغم المناخ الصعب الذي أحاط بهذا الحوار ، بما في ذلك الصراعات السياسية المعقدة. ناهيك عن إغتيالين سياسيين أثيمين بضربات الإرهاب لليساري " شكرى بلعيد " وللقومي الناصري " محمد البراهمي"، وكان من نتائجهما الإطاحة بحكومتي الترويكا بقيادة حزب حركة النهضة الذي كان يشغل 89 مقعدا من إجمالي 217 من مقاعد المجلس التأسيسي المنوط به إقرار الدستور ، والذي مر فعلا بأغلبية 200 صوت.

 وفي النهاية استحقت تونس ومجتمعها المدني جراء التوصل إلى هذا الدستور والتوافقات وتجنب الاقصاء والاستئصال والانجرار الى دوامة العنف السياسي جائزة نوبل للسلام عام 2015. وهو أمر استحق أيضا حينها فخر التونسيات والتونسيين ومجمل قواهم السياسية والمجتمعية، بما في ذلك اتحاد الشغل. وهذا بصرف النظر عما آلت اليه التقييمات وفي اتجاه معاكس ومنكر تماما بعد 25 يوليو 2021 وتورط جانب لا بأس به من رموز وقيادات هذه القوى لاحقا في فتح الباب للانقضاض على دستور يعد متقدما جدا بمقاييس المنطقة العربية وعالم الجنوب. 

ولقد كنت محظوظا لا لكوني كنت شاهدا على المولد العسير والصعب لدستور 2014وحاضرا غير مرة داخل مقر البرلمان/ المجلس التأسيسي حينها بقصر "باردو" ومع اتحاد الشغل والعديد من الجمعيات المدنية التي رعت حوارات ثرية مهمة ، ناهيك عن نقاشات الشوارع والميادين بما في ذلك شارع الحبيب بورقيبة ، بل وكنت محظوظا أيضا لأنني التقيت وحاورت في تونس كلا من الدكتور"الصادق بلعيد" مساء يوم 22 أكتوبر 2011 والأكاديمي  حينها الأستاذ "قيس سعيد" يوم 21سبتمبر 2017. 

 وعندما أعود لذكريات الحوارين اليوم ولنصوصهما أدرك أن الرجلين اجتمعا ومبكرا على رفض الأحزاب والحزبية ، والاستهزاء بمجمل الأجسام الوسيطة في العملية السياسية. وهذا وبالنسبة لبلعيد على وجه التحديد قبل ان تبدأ المرحلة الانتقالية بالأصل وقبل ما أطلق عليه هو ومناصرو الرئيس قيس قبل عام "العشرية السوداء". ولقد أبدى الرجل عندما تفضل مشكورا باللقاء تبرما مبكرا من حرية تنظيم وإعلان الأحزاب. وأدلى بتقديرات اتضح إنها غير صحيحة، ومبالغ فيها جدا عن حجم المستقلين المرتقب جراء انتخابات المجلس التأسيسي، وكانت نسبة القائمات المستقلة 45 في المائة من مجموع القائمات المرشحة بعموم الجمهورية التونسية.

 بل لقد اتضح لي بعد اجراء الحوار معه ـ بوصفه الى جانب كونه استاذ قانون دستورى خبيرا مراقبا للساحة السياسية ـ أنه كان مرشحا مستقلا في انتخابات التأسيسي. ولم يوفق ولم يستطع أن يحصل حينها في 23 أكتوبر 2011 على ثقة مواطنيه في الدائرة التي اختارها ليرشح فيها قائمة مستقلة يرأسها (كان هو رقم 1). وعلى أي حال، فنص الحوار مع الدكتور الصادق بلعيد توثقه صفحات كتاب " نظرتان على تونس من الدكتاتورية إلى الديمقراطية" في فصل بعنوان " بورتريه سياسي " في طبعتيه المصرية الصادرة عن دار الثقافة الجديدة  ص 147: 151، والتونسية الصادرة من صفاقس عن دار محمد على الحامي ص 119: 122. 

 أما بخصوص "قيس سعيد" ـ الأكاديمي الجامعي فالرئيس المنتخب متغلبا على رئيسي حكومة وبرلمان ورئيس جمهورية سابق ورئيس حزب رجل أعمال نافذ بواسطة هيئة انتخابات مستقلة قام بالاطاحة بقيادتها المنتخبة من البرلمان وحل محلها أخرى معينة من الرئيس ـ فإن الحوار معه كما كتبت غير مرة في السابق يفيد بأن الرجل مسكون بنظرية المؤامرة. ولا يؤمن بالأصل ـ وقبل كل تعلات ووقائع وسلبيات لفترة مضت وانقضت ـ لا ببرلمان ولا بأحزاب  ولا بمؤسسات وسيطة ولا برأي عام يقوم على مفهوم التعددية والتفاعل والحوار. 

فقط في الحالتين هناك رئيس فرد أحد يطفو فوق جموع من الجماهير،  الذي يحسن تجنب وصفها أو توصيفها، لا تملقا ولا تحقيرا . وفي كل الأحوال، في انتظار "دستور الرئيس قيس"،  أو الدستور الذي يتمناه ويحب الرئيس بحلول 30 يونيو الجاري. وكان الله في عون الجميع .
-------------------------
بقلم: كارم يحيى 
من المشهد الأسبوعية

 

مقالات اخرى للكاتب

محاولات آلاف النازحين العودة إلى منازلهم شمالي قطاع غزة





اعلان