26 - 04 - 2024

مثقف وسلطان! .. نقاش تاريخي بين جمال عبدالناصر وخالد محمد خالد عن الديمقراطية

مثقف وسلطان! .. نقاش تاريخي بين جمال عبدالناصر وخالد محمد خالد عن الديمقراطية

- خالد : لا أماليء الرجعية ولكن أطلب العدل وأريد أن يكون لدينا برلمان ودستور .. فالديمقراطية تكشف المتملقين
- ناصر: "حرية الكلمة موجودة، نحن لم نقيد حرية الكلمة" وأتحدى أن يأتي – مفكرنا الكبير - بشئ كتبه ولم يسمح بنشره

أما المثقف ، فهو الكاتب الراحل العظيم : خالد محمد خالد ، وأما السلطان فهو أشهر وأعظم زعيم عربى شهدناه منذ انتهاء حكم محمد على فى النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى الآن : جمال عبد الناصر .

والعلاقة بين المثقف والسلطة ، قضية معروفة كُتب فيها الكثير وتباينت إزاءها المواقف والاتجاهات ، ومن ثم فلن نمضى فى هذا المقال معلقين محللين لها ، وإنما سوف نعرض مشهدا فريدا حقا فى تاريخنا السياسى والثقافى ، ليس له مثيل – فى تصورى – من قبل ولا من بعد ، من خلال استقراء المشهد نفسه ، يمكن لنا وللقارئ أن يستنبط ما شاءت له النصوص أن تنقله له ، حيث نقف اليوم إلى جانب " الرواية " أكثر من وقوفنا إلى جانب " الدراية " .

ففى سبتمبر من عام 1961 تلقى الزعيم الكبير أول طعنة ، وهو فى أعلى قمة القوة والسلطة والشهرة ، وتمثلت هذه الطعنة فى الانقلاب الذى أنهى الوحدة بين مصر وسوريا ، بعد أن شهدنا زخما لا مثيل له فى الحديث والممارسة عن العروبة والقومية العربية ، فكان هذا الانفصال بداية العد التنازلى لسلسلة من التراجعات العربية ، حيث ما زال العرض مستمرا !

كان لابد للزعيم من وقفة تأمل ومراجعة ، فكان من نتيجة ذلك ، بيان صدر فى الرابع من نوفمبر من عام 1961 يمهد لقيام ما سماه بالتنظيم الشعبى الديموقراطى، وهو ما ظهر باسم الاتحاد الاشتراكى ( الذى لم يكن شعبيا ولا ديموقراطيا ) 0 وقد تضمن البيان أن الخطوة الأولى فى اتجاه التنظيم هى تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطنى لما سمى بالقوى الشعبية ، الذى يؤسس بدوره لوضع ما عرف بالميثاق الوطنى ، ثم كشفت الحقائق فيما بعد أن هذا المؤتمر لم يضع هذا الميثاق ، وإنما وضعه – فى حدود ما تم تناقله من معلومات – محمد حسنين هيكل !

   وفى مساء الخامس والعشرين من نوفمبر من العام نفسه وقف جمال عبد الناصر أمام هذا الحشد الذى كان ضخما بالفعل يلقى خطابا يعرض فيه الخطوط الرئيسية لأفكاره والتى آمل الزعيم أن يتناقش حولها المجتمعون .

وطوال عدة أيام ، دارت مناقشات كثيرة ، تضمنها مجلد فريد ونادر حقا قارب عدد صفحاته من الثمانمائة صفحة  ، أحمد الله حقا أننى احتفظت به حتى الآن كوثيقة تاريخية لها قيمتها الغالية .. وقد شارك فى المؤتمر مفكرون كبار مثل زكى نجيب محمود وعائشة عبد الرحمن وخالد محمد خالد والشيخ محمد الغزالى والشيخ أحمد الشرباصى ، وعدد من أساتذة الجامعات مثل الدكاترة سليمان حزين ، وعائشة عبد الرحمن ، وطعيمة الجرف،  ورفعت المحجوب ، وجابر جاد ، وجمال الدين سعيد ، فضلا عمن تبقى من مجلس قيادة الثورة وكان معظمهم ما زال عاملا ، وكذلك محافظون ووزراء ونقباء ...وهكذا .

المغاير.. ثورة مضادة

السمة العامة للكثير من المناقشات أنها تقف أمام أفكار الزعيم وكأنها أمام لفافة ضخمة تعمل على فتحها، يشرحون ويحللون ويبررون ، لكنهم أيضا كانوا يضيفون ويقترحون ، لكن باللون نفسه وفى الاتجاه نفسه ، بغير مغايرة ولا مناقضة ، فذلك أصبح سمة للمثقفين فى مصر، هى أسوأ ما تركته ثورة يوليو حقا، حيث كان المغاير يعد "من الثورة المضادة" أو "القوى الرجعية" ، أو غير هذه وتلك من أوصاف تشير للجميع أن يتجنبوا هذا الذى يغنى خارج السرب 00سرب الزعيم !

لقد غلب على المناخ العام أن من يعارض الأفكار الرئيسية التى يطرحها الزعيم هو من أعداء الثورة، ولا بد من تحجيمه ومحاصرته ، ربما كان الناس يتكلمون ويناقشون بدافع من إيمان حقيقى ، وربما بدافع من آمال عقدت ، وربما بدافع من مسايرة عن خوف أو طمعا فى قرب ومغنم .. كل ذلك لا يمكن أن نقطع به بالنسبة لهذا أو ذاك ، فالله أعلم بما كان فى الصدور!

استماع هاديء 

ربما واحد فقط ، من بين عشرات وربما مئات ، وقف ليغاير لا أن يساير ، ويكشف عن عيوب رآها فى بعض ما رأى الزعيم الكبير ...هو خالد محمد خالد .

والمثير للدهشة أيضا أن الزعيم استمع للرجل بكل هدوء ، ولم تسجل الأحداث بعد ذلك أن مس صاحبنا بأى سوء ، وكان النقاش مذاعا على كل الناس بطبيعة الحال، بل ونشرت المحاضر كاملة كما نوهنا فى مجلد كبير ليطلع عليه من لم يسمع المناقشات، وليظل وثيقة أمام أجيال تالية من المثقفين والساسة ، لنموذج فريد نطق بكل وضوح أن الزعيم الكبير صاحب الكاريزما المذهلة، والذى تحدث كثيرون عن سجونه ومعتقلاته، يمكن أن يسمع من يعارضه بكل هدوء، ولا يمسه بعذاب أو تشريد أو إقصاء.

ونطق كذلك بأن المثقف يمكن أن يكون شجاعا فلا يخاف فى الحق لومة لائم ، وأن يقوم بدوره الحقيقى أن يكون صوت الناس لدى الزعيم ولدى الدولة، لا أن يكون صوت الزعيم وصوت الدولة لدى الناس.

ولا نستطيع أن نمر على هذا الموقف العجيب مرور الكرام، فالحق أن هناك شواهد سبقت وشواهد لحقت ، لمثقفين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، من أن يكونوا صوت الناس أمام السلطة، لكن لحقتهم صور من الأذى تفاوت من حال إلى آخر، بدءا من عام 1954 :

- إيقاف أشهر وأوسع الصحف اليومية انتشارا ، جريدة المصرى ، ومصادرة كل ما يمتلكه أصحابها وأشهرهم أحمد أبو الفتح، وفصل ما ينيف على الأربعين أستاذا من الجامعات المصرية، واعتقال إحسان عبد القدوس، وغضب نزل على الشيخ أحمد حسن الباقورى حيث جرى حديث بحضوره ليس فى صالح الثورة وزعيمها، ونال أذى كبير شيخ المحققين محمود شاكر لأنه تحدث فى الهاتف مبديا رأيا سلبيا فى الثورة وزعيمها، وكذلك ما جرى للطفى الخولى وبعض صحبه، الذين كانوا فى حماية أهرام هيكل، عقابا على ما طرح منهم فى جلسة خاصة ...

وبطبيعة الحال كان المبرر هو أن كل هؤلاء، كانوا بما فعلوه أو قالوه ، أو الأمرين معا ، يسيئون إلى المسيرة الثورية ، أو يرتبطون بقوى رجعية ، أو يشجعون على تسلل أفكار مضادة للثورة ...وهكذا .

ديمقراطيتان اجتماعية وسياسية

 كانت القضية المحورية التى يرددها عبد الناصر أن الديموقراطية الحقيقية تتأسس أولا فى الجانب الاجتماعى ، وأن الديموقراطية السياسية إذا قامت فى ظل مجتمع طبقى، تحكمه الفوارق الحادة والارتباط بالقوى الخارجية، سوف تتحول إلى قوة ترسخ الوضع القائم 0كان الرجل يردد كل ما يشرح ويبرر هذا المنظور من موقع وطنى مصرى حقا وحس عروبى يشع بالإخلاص والصدق لا يشك فيه إلا مكابر . 

ولا نريد أن نناقش هذه الوجهة من النظر، حيث أدى تطبيقها للأسف إلى ترسيخ ما لا يمكن أن يؤسس لديموقراطية سياسية وثقافية، وهو الأمر الذى كشفت عنه تجربة النظم الشمولية على وجه العموم ، مهما سلمنا بصدق دوافع الزعيم العظيم وصدق نواياه ، ومثل هذه المناقشة تستحق مقالا خاصا مستقلا .

وكان رأى خالد مغايرا لهذا الموقف 00فلقد كان الرجل " مجنونا " بالحرية وعاشقا للديموقراطية السياسية ، بحيث يمكن تلخيص الكثير من كتاباته بأنها يمكن أن تقف تحت شعار مؤداه : الديموقراطية هى الحل !

مواجهة الزعيم والمثقف

كان عبد الناصر قد استشهد فى كلمة له فى المؤتمر بموقف ديني، مع أنه كان قليلا ما يفعل ذلك، فالبعد الدينى كان بعيدا عن خطابه إلى حد كبير. أما الموقف فهو أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعف ويصفح ويفتح الأبواب للمخطئين والمخالفين فى العقيدة إلا بعد أن انتصر وعاد إلى مكة ليتوج انتصاره، فقال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فضلا عن جعله بيت أبى سفيان ملجأ كل من يريد أمنا "حصل هذا فى الثورة الإسلامية، فى الدعوة الإسلامية بعد أن نجحت بأكثر  من عشرين سنة . لكن إذا رجعنا إلى أول يوم للدعوة الإسلامية حتى دخل النبى مكة نجد أنه كان هناك كفار وكان هناك مؤمنون" .

   والمعنى الذى أراد عبد الناصر استخلاصه هو أن الثورة ما دامت فى سنواتها الأولى، فلابد من مواجهة بين الثورة وأعدائها " فإذا جئنا اليوم فى أول سنة من ثورتنا الاجتماعية (حيث كانت قد صدرت فى يوليو ما عرف بقوانين يوليو الاشتراكية التى عممت التأميم) ، وأردنا أن نأخذ من هذا مثلا: لابد للثورة الاجتماعية أن تسير فى طريقها حتى تنتصر ".

وبعبارات مهذبة حاول خالد أن يصحح بعض ما قاله عبد الناصر: " الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك (أى العفو عن المخالفين) وقد تم نصره، بل قال ذلك وهو فى اللحظات الأولى من النصر. الرسول بعد فتح مكة ظل يخوض حروبا ومغازى مع أعداء الله وأعداء دعوته"  

وينبه خالد – تصحيحا كذلك – أنه حتى بالنسبة لمن لم يؤمنوا بدعوة الرسول، فظلوا على دينهم ، فقد اعترف محمد بهم أعضاء فى مجتمعه، وضمن لهم حقوقهم "فأهل الكتاب الذين لم يجدوا رعاية لحرماتهم وبقوا على دينهم ولم يدخلوا الإسلام ، ولم يؤمنوا بالإسلام ، أخذوا كل حقوقهم فى المجتمع الإسلامى".

   ولأن البعض قد حاول أن يصور دعوة خالد بأنه يمالئ الرجعية ، فقد وقف الرجل ليصيح أمام الزعيم "لست أنا الذى يمالئ الرجعية أو يطلب الرحمة لها0 لقد كنت مخطئا حين طلبت الرحمة لمن نسميهم أعداء الشعب0 أنا أطلب لهم العدل، لأنه لا ينبغى أبدا أن يؤخذوا بجريرة لم يرتكبوها فى المجتمع الإشتراكى الديموقراطى التعاونى0 لنقم المجتمع الاشتراكى، ولنؤاخذ الناس على كل جريمة تقترف ضد هذا المجتمع الاشتراكى"!

   كان رد عبد الناصر: "حرية الكلمة موجودة، نحن لم نقيد حرية الكلمة"، واستشهد على صحة كلامه بأن خالد فتحت له صفحات الأهرام ليكتب فيها ، وهو الذى تركها بإرادته ولم يجبره أحد على ذلك0 كما أكد أنه ما من رأى قاله خالد وكتبه إلا وقد تم نشره، وتحدى أن يشير خالد إلى شئ كتبه ولم يسمح بنشره .

وراح عبد الناصر يؤكد أنه لم يحجر على حرية أحد إلا الذين أرادوا هدم الثورة، ومن هنا فقد حاكموا الإخوان المسلمين "لأنه كان يوجد جيش مسلح ليستخدم للانقضاض على هذا الشعب، ألم يحدث هذا فى سنة 1954؟" 

وبالنسبة للكثيرين من الماركسيين الذين كانوا فى السجون والمعتقلات "نحن لسنا ضد الماركسية أبدا بأى حال من الأحوال ولا ضد اليسار، بل إننا ضد أخذ تعليمات من دول أجنبية، وأى شخص يأخذ تعليمات من دولة أجنبية خائن لهذا الوطن" .

وأطال عبد الناصر حديثه فى التأكيد على " ديموقراطية الثورة "...

ووقف خالد ليعترف بأنه بالفعل نعم بحرية الكلمة فى عهد الثورة ، فلقد أخرج قبل الثورة كتابين وأخرج فى ظل الثورة خمسة عشر كتابا .

وروى أيضا أنه لما نشر دستور عام 1956 كتب مقالا يعارض فيه بعض مواد هذا الدستور، كما عارض بصفة خاصة ما كان يسمى بالاتحاد القومي، وذهب يومئذ إلى أنور السادات ، وكان رئيسا لجريدة الجمهورية أو مديرا لدارها، وقال له أنه جاءه بهذا المقال ليقرأه، فإذا وافق عليه ينشر، وإذا رأى أن يحذف منه شئ عاد به إلى بيته، وتلاه أنور السادات ، ثم قال لخالد: أقسم بالله ، لو أن مقالك هذا يحمل من النقد أضعاف أضعاف ما فيه لنشره وهو مبتهج متهلل .

ثم أخبره – أى خالد – صديقه ، الشيخ أحمد حسن الباقورى أن هذا المقال لم ينشر إلا بعد أن تلاه جمال عبد الناصر وأمر بألا يحذف منه حرف واحد .

واعترف خالد كذلك بأنه بعد أن أصدر كتابه ( لكى لا تحرثوا فى البحر) ظل مصادرا خمسة وعشرين يوما فى المطبعة، وهو حائر فى سبيل الإفراج عنه، وأخيرا هداه الله، ولم يكن قد قابل عبد الناصر من قبل، فأرسل إليه برقية من سطرين ، فما مرت سوى بضع ساعات ، عاد بعدها إلى بيته وإذا به يجد عبد القادر حاتم ، وموفق الحموى ، قد قلبا ظهر الأرض ، كما يقولون بحثا عنه ، وعلم أن عبد الناصر أمر ألا يرجأ نشر هذا الكتاب لحظة واحدة .

   وإذ يعترف خالد بكل هذا لجمال عبد الناصر، يقول "ولكن الشئ الذى يحز فى كبدى ونفسى أن خصومك وخصومنا لا يجدون ما يقولونه سوى حجة واحدة، هى قولهم أين البرلمان؟ أين الدستور؟ أين المعارضة؟ إننى أريد أن نجيبهم على هذه الحجة ونريد أن نستكمل فى ظل رعايتك كمالنا السياسي" .

وهنا استطرد عبد الناصر فى نقده الشديد لنظام الديموقراطية الغربية، بما هو معروف كثيرا فى تصريحاته وخطبه، وتعبر عنها العبارات التالية : 

   " البرلمان.. الدستور، سيوضع الدستور. سيأتى البرلمان . المعارضة ، إذا أردت معارضة منظمة لابد أن تمثل مصلحة وإلا ستكون معارضة تمثل مصلحة الإقطاع ورأس المال ، وأرى أن مثل هذه المعارضة لا نستطيع أن نسمح بها الآن فى فترة ثورتنا الاجتماعية 0 أقول سأذيب الفوارق بين الطبقات ، فكيف آتى بشخص يقف أمامى ويقول لى : لا ، إن بينى وبينك حربا لأنى أعلن ثورة اجتماعية تفرض عليه فرضا0 أيمكن أن يكون ذلك بالتراضى؟ والله لن يرضى بأى حال من الأحوال0 أقول له من فضلك تنازل عن أرضك، يقول لى متأسف، ولا يرضى، أقول له من فضلك نوزع أرضك على الفلاحين ، يقول لى متأسف .

هل من الممكن أن أقول لك من فضلك اعطنى النقود التى فى جيبك ؟ هل ترضى؟ لا أحد يرضى بذلك أبدا ، وطالما أنه لا يرضى أحد يعمل ذلك ، فلابد من ثورة اجتماعية، وهذه هى المرحلة التى نسير فيها إذا سمحت فى هذه الثورة الاجتماعية للرجعية والرأسمالية أن تأتيا ليعارضا ليكون هناك مظهر للديموقراطية أكون مقصرا فى حق هذه الثورة"! 

وردا على ما أثاره عبد الناصر من انتقادات على ما كان من حال البرلمان ، والدستور والأحزاب قبل الثورة من فساد، وما كان من معارضة منحرفة ، أكد خالد على "ألا ندينها ولا نحاسبها اليوم بمعيار الظروف التى عملت فيها بالأمس، وضرب مثلا بما ذكره بيان الجيش فجر 23 يوليو 1952 من أن الجيش المصرى كان يعيش فسادا ويضم خونة ، ثم بدأت الثورة تطهره، ومن هنا قال مفكرنا الكبير " أفيحق لنا اليوم أن ندين الجيش ، أو نطالب بإلغائه أو وقفه لأنه قبل الثورة كان يعانى فسادا سببته عوامل نحن جميعا ندركها ونعرفها ؟ لا ... كذلك تماما عندما نواجه البرلمان ، وكذلك تماما عندما نواجه الأحزاب . يجب أن نواجه هذه المؤسسات جميعا بروح الإنصاف ..." .

وقدم مفكرنا مثالا من هذا العهد الذى وصفوه بالفساد يشير إلى أمر مهم ، فالبرلمان إذا كان بنص دستور الأمس كان يمكن أن يتعطل بمرسوم ملكى ، إلا أن أعضاءه اجتمعوا فى فندق " الكونتنتال " (بميدان الأوبرا) وأعلنوا بطلان هذا المرسوم ، واضطروا ألد أعداء الديموقراطية ، وهو "زيور" – باشا – إلى إجراء انتخابات حرة كاملة الحرية نزيهة كاملة النزاهة، لكن شعبنا مع ذلك كان شعبا يده فى الأغلال، كان شعبا أقدامه فى السلاسل: " فإذا كان هذا الشعب قد استطاع أن يفرض سلطانه والسلاسل والأغلال تحاصره ، أنخاف أن يفرض سلطانه وقد أصبح كل شئ له ، ثورته وآماله وآلامه وحكومته وكل شئ أصبح ملكا له.. أنخاف عليه اليوم من أن يحكم نفسه على أوسع الصور الديموقراطية ؟ لا " .

ثم أخذ خالد يقارن بين النظامين الرأسمالى والاشتراكى ، منبها إلى أن حرية الناس موفورة فى الأول أكثر منها فى الثانى، ويقصد بذلك الحريات السياسية ، حيث نرى أناسا يعارضون ويتناقشون ويقترعون على الثقة بحكوماتهم دون أن يكون فى ذلك اتهام لولائهم، ويتساءل: "هل الرأسمالية أحنى على الحرية من الاشتراكية ؟ أبدا وإنما كانت ألبق وأذكى من الاشتراكية، فقد استطاعت رغم أن الرأسمالية تقوم على الاحتكار، والاحتكار ضد الحرية ، وتقوم على القلق والتوتر والسيطرة والتسلط من فئة قليلة وذلك ضد الحرية – استطاعت أن تخفى أنيابها بما أعطت المجتمع من حرية فى القول والمناقشة وحرية الحكم، فلماذا لا تأخذ الاشتراكية هذه الميزة وهى أولى بها؟ هذا هو الدور الذى ينتظرنا والذى سنكون فيه روادا لا مقلدين" .

ويعود عبد الناصر ليرد على الشيخ خالد ملفتا انتباهه إلى كتبه التى ألفها قبل الثورة حيث كتب فيها عن أننا نكافح للقضاء على الاستغلال السياسى وعلى الاستغلال الاجتماعى، وفى كل هذه الكتب وفى كل صفحة منها كان مفكرنا – كما أشار عبد الناصر – وفى كل صفحة منها كان يتكلم ويطالب بالقضاء على الاستغلال السياسى والاستغلال الاقتصادى والاستغلال الاجتماعي، ثم يتساءل الزعيم: "هل الديموقراطية التى تتكلم عنها بمعناها القديم مكنتنا نحن الشعب من القضاء على الاستغلال السياسى أو الاستغلال الاقتصادى أو الاستغلال الاجتماعى ؟ أبدا " .

وأنكر عبد الناصر كلمات الشيخ خالد عن البرلمان والدستور"هل قلنا إننا سنقيم ديموقراطية ليس لها دستور؟ من الذى قال هذا ؟ يفهم من كلامك أننا نقصد أنه ليس هناك دستور وليس هناك برلمان وليس هناك مؤسسات ديموقراطية، من أين جئت بهذا الكلام ؟ هذه الخطوات كلها الغرض منها أخيرا أن نقيم الدستور..." .

وأكد عبد الناصر على أن الثورة تريد أن تعطى الشعب كل الشعب الحرية "ولكن فى نفس الوقت إذا أعطيناه الحرية يجب أن نعطيه الحرية السياسية والحرية الاجتماعية لأن الحرية الاجتماعية كان محروما منها " .

واتهم عبد الناصر مفكرنا الكبير بأنه يركز فقط على الحرية السياسية مهملا الحرية الاجتماعية، مما أدى بالزعيم أن يتهم خالد قائلا " إننى لا زلت أقول إنك تبحث عن المظهر"!

ثم يفاجئنا عبد الناصر بقوله أن المسألة إذا كانت مجرد أحزاب وبرلمان فهو يستطيع فى الحال أن ينشئ حزبا فيه جمال عبد الناصر ويضمن بذلك أن يحصل على الأغلبية "وأقدر أشتغل على هذا الأساس، وأمرر كل القوانين والنظم التى أريدها، إلا أننى غير مؤمن بأن هذا الكلام هو الكلام السليم"، وهو الأمر الذى رأينا البعض بعد ذلك، ينفذه بالفعل فى بعض الدول النامية !

ومن الواضح أن مفكرنا الكبير لم يتراجع عن آرائه تحت ضربات انتقادات الزعيم العظيم ، ويتضح لنا هنا عندما طالب الزعيم من المجتمعين أن يجروا نقاشا حول كيفية حماية ما كان يسمى بالمكاسب الاشتراكية، مما دفع كثيرين إلى القول بفكرة عزل فئات اجتماعية متعددة عن ممارسة حقوقها السياسية، وساير كثيرون ما ارتآه الزعيم ، لكن خالد محمد خالد ظل حريصا على ما آمن به من حرية وديموقراطية ، فماذا كان منطقه فى رفض فكرة "العزل"؟ 

أشار إلى أن المناقشات دفعته إلى مزيد من الإيمان بما يعتقده من أن أفضل علاج لأخطاء الديموقراطية هو مزيد من الديموقراطية ومن ثم فهو حينما يواجه فكرة "العزل" يسأل نفسه أول ما يسأل أهذا العزل إجراء ديموقراطى أم هو ليس كذلك؟" 

ثم يجيب بأن "بعض الناس يذهب إلى الاشتراكية بوضع بعض القيود على الديموقراطية، وبعض الناس كذلك يذهب إلى حماية الاشتراكية بالمزيد من الديموقراطية، وأحسبنى من الفريق الثاني" ومن هنا يرى ألا ضرورة للعزل !

ولعل من أعمق ما دافع به مفكرنا الكبير عن فكرته أن الديموقراطية من شأنها أن تكشف الانتهازيين والمتملقين والوصوليين "لا شئ مثل الديموقراطية يستطيع أن يكشف أعداء الشعب وذلك بما تمنحه من حرية الكلمة والحركة".

لم يكن تغريد الشيخ خالد متسقا مع تغريد سرب المثقفين فى ذلك الوقت ، فلم يترك أى أثر على الاندفاع الذى كان شهدته مصر فى هذه الفترة نحو تقييد الممارسة الديموقراطية وفقا للمفهوم الذى شرحناه عن الزعيم العظيم .

ترى ، ماذا كان يمكن أن يكون عليه الحال إذا لم يجنح العدد الأكبر من مثقفى هذا الزمان إلى نهج المسايرة؟ 

   هل من المعقول أن الرأى الذى قدمه خالد محمد خالد كان رأيا ينفرد به هو ؟ أغلب الظن أن هذا يستحيل أن يكون ، وإلا فلماذا يغرد الجميع الآن على الفكرة نفسها التى نادى بها من قبل هذا المفكر الراحل الكبير ؟ 

   وترى أيضا : ماذا كان يمكن أن يكون عليه الحال لو سمع الزعيم لقول هذا المثقف النادر المخلص الصادق الشجاع وتبنى مقولة أن أخطاء الديموقراطية لا تعالج إلا بالديموقراطية ؟ 

   إننى كثيرا ما أسوق تشبيها لطلابى ، وفى بعض كتاباتى لهذه الفكرة ، بأم رزقها الله بطفل ملأ عينها وقلبها ، وعندما بدأ ينمو ويشب ويحاول المشى ، كان يسقط ، ويبكى وأحيانا يصرخ ، بل وأحيانا ما يسبب بعض الخسائر ، فحرصت على أن تحمله دائما بحجة حمايته من السقوط والبكاء وتسبيب الخسائر ، وظل الحال على هذا النحو إلى أن كبر الطفل وسار غلاما ، ترى ، لو أنزلته الأم يمشى على الأرض ، سوف يستطيع ؟ كلا ، لابد أن يمر بهذه المرحلة : يحاول ، ويفشل ، ويصاب بضرر ، ويبكى ، ومن تراكم الخبرة ، يكتسب السوية والنضج فيمشى مستقيما رافعا رأسه !!

   هكذا تؤكد خبرة التاريخ : لا نتائج ديموقراطية بوسائل غير ديموقراطية ، فالشوك لا يمكن أن ينبت عنبا !!
--------------------------------
بقلم: د. سعيد إسماعيل 
من المشهد الأسبوعية







اعلان