كنت أشاهد إحدى الفرق الأرجنتينية على مسرح دار الأوبرا المصرية، ولأني من عشاق التانجو من زمن طويل، اختلف تفاعلي معها هذه المرة كثيرا ، إذ قررت أن أكتب مشهدا عن التانجو في روايتي مدن السور التي كانت ما تزال في طور الإعداد عن تأثير الهندسة الوراثية على الحياة في المستقبل وعلى الفن بصفة خاصة.
بحثت عن تاريخ التانجو وما أضافه الأرجنتينيون إلى الرقصة الجميلة، وكيف دخلت الموسيقى خاصة الطبول الإفريقية لتصنع عالما حسيا بامتياز، وعرفت أنه على الرغم من أن الأفارقة لم يرقصوا رقصا مزدوجا قط، إلا أنهم طوروا الموسيقى التي تصاحب الرقص الزوجي الأوروبي الذي كان يمارس في المواخير المنتشرة في نهاية القرن التاسع عشر، حيث كانت هي المكان الأكثر ازدهارا بسبب نقص عدد النساء في العاصمة بيونس أيرس في مواجهة الأعداد الكبيرة من العمال المهاجرين من أوروبا وإفريقيا الذين جلبتهم الأرجنتين للعمل في السكة الحديد والزراعة بدون عائلاتهم، وهو ما انعكس على تفشى بيوت الدعارة.
وقد وظفت صاحبات هذه البيوت موسيقيين محترفين لتسلية طوابير الرجال المنتظرين. وقام الرجال بتنمية مهاراتهم في الرقص للحصول على امرأة تقبل المشاركة في الرقص من ناحية، والتودد إليها ليفوز بها من بين المنافسين الراغبين في الزواج من ناحية أخرى، خاصة الرجال الذين يسكنون في تجمعات كونفينتيلوس السكنية للعمال المهاجرين.
كان الرقص هو المرح الوحيد تقريبا للقلوب الفقيرة. وكلما تيسر لهم الوقت عزف أحدهم الجيتار أو الفلوت أو الكمان، من تراثه المختلف، مع الوقت امتزجت هذه الألحان مع لمسة من موسيقى الزنوج التي يعزفونها على النواصي لجلب بعض المال ودخلت في نسيج الموسيقى الأرجنتينية الأصلية لتصبح التانجو.
رقصة حسية في مقام رفيع، الإغواء فيها هو الأصل، والالتصاق يعنى توصيل الإحساس بالمشاعر، والخطوات تحرر الروح. هي رقصة الامتزاج والعشق. وهي أيضا رقصة الصراع المعبر عنه باتفاق ضمني لا يعلن عنه إلا بدلال حركة الجسد الخادعة. ويكون نجاح الرقصة بقدر ما يستطيع الراقصون إيصال هذه المشاعر إلى المشاهدين.
هذا الأسبوع استمتعت بعرض جولة بياتزولا من فرقة أساطير التانجو الأرجنتينية على مسرح دار الأوبرا المصرية بطولة مجموعة رائعة من الراقصات والراقصين على رأسهم مارييلا مالدونادو وبابلو سوسا ، وهو ثنائي من أبرز راقصي ومدرسي ومصممي رقصات التانجو على مستوى العالم ، حيث قاما بالأداء في معظم المسارح الكبرى في أنحاء القارات ، لم اسأل كثيرا وأنا أرى الأداء المبهر السلس الذي يقدمه بابلو سوسة حتى تخاله لا يبذل جهدا وهو يتحرك ويدفع بالراقصات ليؤدين كل هذه الجمل الحركية، أو عن سر هذه المهارة وتناغمها مع مارييلا مالدونادو النموذج الأبهى للدلال والإغواء بسلاسة السهل الممتنع.
تميزت الفرقة بالاحتفاظ بخصوصية أداء لكل راقص وراقصة ، لتظهر أعلى إمكانيات ممكنة لكل منهم ، وهو جهد مصممي الرقصات مع الموسيقي الرائع بياتزولا ، أحد أهم الموسيقيين في الأرجنتين وقد حققت موسيقاه المساحة اللائقة المرنة لتشكيل الحركات المعبرة عن العاطفة المتأججة التي أعطت فرصة كبيرة للتناغم بين الراقصين ، وهو ما يأتي من المجهود الكبير للوصول إلى التزامن والتوافق العضلي الحركي ليعكس الجمال والرهافة على العرض ويضع الفرقة في المستوى الأعلى لفرق التانجو.
تميز العرض برقصات ثنائية في تفردها استمدت جمالها من التراث الأرجنتيني والبرتغالي معًا ، شارك فيها سول ميمينيسكاردي ، ومتياس كاسالي ، وخوليانا مانسيييا فرانكو كوتشيرت، دانييلا برابو ، ولوكاس جيبارا. وجسدت الأزياء بقصاتها المريحة لحركة الراقصين ونعومة ملمسها رفاهية وإثارة ما كانت تتم دون مصممة الأزياء التي لم يذكر أحد اسمها في كتيب الفرقة.
وقد لفت انتباهي تناغم هذه الأزياء معًا وبهجة ألوانها حتى مع الأسود الشهواني في استخدام قماش الجرسية الطري في تعانقه مع رقة الدانتيل. انتبهت أيضًا لإعداد المسرح وخلفيته ذات المكعبات الحمراء في عناقها مع الأزرق ليضفي لمسة حزن ذكورية شفيفة في البحث عن المتعة وصراعه معها. لم يكن هذا العرض ليتم بهذا الإبداع بدون الموسيقيين: كريستيان أساتو على البيانو وإيلين بايس على الباندونيون وهو آلة أكورديون شعبية تصاحب رقصة التانجو الأرجنتينية دائمًا وخابيير رودريجز على الكمان.
تحية لمدير الفرقة لوكريسيا لوبيز دويناود، ولدار الأوبرا المصرية التي تنقل إلينا فنون العالم.
فكرت كثيرا في هذا النوع من الرقص الذي طوره الإنسان في كل مكان عبر الأزمنة المختلفة للتعبير عن عاطفته المشبوبه وإبرازه في مكانة مهمة من أنواع الرقص وتاريخه وتساءلت: لماذا نحتاج كل هذا الجهد لإخفاء وتغليف التعبير عن مشاعرنا ولم يفعل أجدادنا هذا أبدًا ، لماذا أدخلنا على حياتنا كل ما يكبح الانطلاق بالفن للرقي بالبشر. وهأنذا اقتطع جزءًا من روايتي مدن السور عن تأثير التطور الصناعي الرأسمالي في تشويه رهافة وموهبة الفنان والتي أعول عليها كثيرًا في انقاذ البشرية والذي لن يتم إلا بالإخلاص لها.
مشهد من مدن السور
حين رزق سبستيان را ميرز بطفل من زميلته الراقصة تانيا أشهر راقصات عصرها أسماه سانتياجو بيرون لا كوت. تيمنا باسم الثائر سانتياجو دي ليزيس، وخوان بيرون الرئيس الذي جاء بدعم العمال، والراقص الشهير بيير لا كوت. وخصص للطفل الوقت والجهد اللازمين لكى يتفوق على راقصي عصره في الدول المنافسة في كوبا والأورجواي ، وحكى له قصة تسمية الفرقة تامبرو، تيمنا بأصل كلمة تامبرو أي طبلة عند السكان الإسبان المنحدرين من أصل أفريقي.
ما لم يعرفه سانتياجو الذي فاقت شهرته القارات مجتمعة هو الاتفاق السري الذي دار بين والديه، وأحد الأطباء في معمل صغير في اليابان لكي يكتسب سانتياجو مهارات جسدية مختلفة تم حسابها بدقة شديدة، وتجارب استمرت بين الوالدين والمعمل لسنوات أمكن فيها الوصول إلى حسابات دقيقة لحجم أعضاء الجسم من ناحية، وتوافق عضلي عصبي من ناحية أخرى، مكنت هذه العناصر الطفل من الرقص ببراعة طبيعية فوق العادة. وقد حافظ الوالدان على هذا السر طوال حياتهما القصيرة كبدائيين، حتى اكتشف الابن بعد وفاتهما المراسلات مع المعمل. وعرف حقيقة رقصه التي كثيرا ما تغنى بها الجمهور باعتبارها إحدى المعجزات التي وهبها الله للبدائيين، والذين تفوقوا فيها بالعرق والتدريب الشاق حتى وصلوا لقدرات فوق طاقتهم تستحق معها أن يلقبوهم بالفوقيين الفنانين.
المفاجأة التي أذهلته ودمرت ثقته في ذاته جعلته يسكر سكرا بينـاّ. وفى مشهد يليق بالتراجيديا اليونانية راح يسأل الأصدقاء، والخدم، وزوجته عن حقيقة موهبته، وهل ما وصل إليه سببه تدخل آلي بحت؟ ثم راح يهذي قائلا إنه ليس فنانا. هو مجرد صنيعة معمل مثل فئران التجارب ، وراح يبكي قائلا: ما عشناه هو أكذوبة كبرى. مجرد أوهام، اختلقها العبيد حتى يسكتوا ضمائرهم ويقبلوا الخضوع للسادة. خرج إلى الشارع يهذي رغم محاولات الخدم لمنعه وسط استجداء زوجته لينتظر حتى الصباح، أبعدها وهي تستحلفه قائلة:
مراقبة الليل أشد قسوة لن يرحموك.
لكنه قفز إلى سيارته وقادها بسرعة قبل أن تلحق به مع سائقها. كان متجها إلى ميدان "بلازا دي ماي" الذي كان مسرحا لثورة الخامس والعشرين من مايو عام 1810 من القرن الأول والتي أدت إلى استقلال الأرجنتين. توقف ناظرا إلى مبنى "الكابيلدو "الذي كان يستخدمه مجلس المدينة أثناء الاستعمار الأول، وراح يصرخ: "تركوك لتذكرنا بأننا تحررنا، لكي ننسى الاستعباد الجديد. يقيمون الاحتفالات من حولك، وكأننا تخلصنا من كل مستبد، يا للوقاحة يا للوقاحة".
ركض نحو " هرم ماي" الرمز الوطني الأول في بيونس أيرس قائلا: "أما زلت هنا يا هرم الوطن لكن أين الوطن؟ أين الوطن؟ هل الوطن هو مجرد مكان؟ هو تراب الأجداد الذي يحملنا، والهواء الذي يتمدد في صدورنا ونحن مطأطئوا الرؤوس؟ إن الوطن حالة أكبر بكثير من مجرد مكان. ماذا يعنى المكان من دون كرامة. الوطن هو الثمن المدفوع لنبقى بشرا أحرارا. ما يجمعنا الآن هو الفساد عزيزتي. الفساد هو عابر الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق والقوميات أيضا. الفساد هو عابر التقسيم الطبقي للفوقيين والبدائيين، هو الوحيد الذي يجمعنا".
احتضنته الزوجة وهي خائفة حاولت أن تهدئه وتعيده إلى السيارة. نفض يدها وهو يجرى نحو تمثال القائد العام الفوقي رئيس العالم، لحقت به مرعوبة وهمست في أذنه تستحلفه بحياة ابنه أن يعود دون أن ينطق كلمة واحدة أخرى. تملص من بين يديها اللتين تحيطان بكتفه، وراح يبصق على التمثال، ويركله بقدميه صارخا: "أنا مصنوع مثلك تماما. أنا لا شيء، أنتم آلات ونحن خانعون".
ثم أخرج عضوه من طيات ملابسه، وقبل أن ينطلق رشاش البول، كان الشعاع الأزرق قد أسكته إلى الأبد. وقبل أن تفيق الزوجة رأت الشعاع يصل إلى قلبها مباشرة، والسيارة التي أصرت أن تبقى بعيدة عن الساحة بسائقها تفر هاربة قبل أن تغيب هي عن الوعي.
في الصباح صدر بيان من رئاسة الدولة ينعى ببالغ الحزن الفنان الكبير سانتياجو بيرون لا كوت، أبرع راقصي التانجو الأرجنتيني منذ رقصه العمال الأرجنتينيون في الألفية الأولى من التاريخ السحيق. وذكر البيان أن الفنان قد وافته المنية إثر حادث أليم في ميدان بلازا دي ماي إثر اصطدام السيارة بالرصيف، وانقلابها بعد انفجار مولد الطاقة بها. التصقت بعض أجزاء السيارة المهشمة بجسم السائق الذي احترق تماما، في حين أن جسدي الفنان وزوجته قد حالفهما الحظ بالبقاء من دون مساس. وسوف يتم عرضهما لأيام في متحف الخالدين قبل صهرهما معا في احتفال مهيب تحضره شخصيات فوقية عظيمة، وبابا روما والإمام الأكبر ورؤساء بعض الدول والسفراء، وعدد كبير من فناني العالم وشخصيات عامة كثيرة.
-------------------
بقلم: هالة البدري
من المشهد الأسبوعي