19 - 03 - 2024

حكاية حوار مع عادل إمام عمره 24 سنة

حكاية حوار مع عادل إمام عمره 24 سنة

- أقدر كثيرا رفضك حينها لزيارة عرفات في غزة بتأشيرة إسرائيلية وأمنيتك أن تعرض مسرحياتك في السعودية دون تكفير
- فاجأتني جديتك وعبوسك أثناء الحوار وأسرتني دعوتك للغذاء بعده وتقديمك أفراد أسرتك الصغيرة لي
- ندمت على عدم اهتمامي بالراحل "مصطفى متولي" وعلى عدم التقاط صورة معك كي أريها لابني يحيى ربما يدرك بأنني مهم!
- ابني قال لي:"عايزني أذاكر .. طيب لو موتت نفسي مذاكرة، ودخلت أعظم كلية، هتقدر تلاقيلي شغل .. إنت لا ظابط ولا قاضي!"

عادل إمام 

كل سنة وانت طيب، بدون ألقاب أو أوصاف

ولا حتى كلام  عن ملاحظات العبد لله المتواضعة عن بعض مواقفك السياسية بشأن ثورة 25 يناير و مبارك وعائلته و ..

كل سنة وأنت طيب، لأنك أسعدتني وأضحكتني، مثلما أسعدت الملايين من المحيط للخليج. أسعدتني منذ أن كنت طفلا صغيرا أقاوم النعاس ولا أنام إذا ما عرض التلفزيون العربي (تلفزيون الجمهورية العربية المتحدة) في الليل فيلما أو مسرحية لك، حتى لو كان دورك إلى جانب البطل والبطلة .

وبمناسبة عيد ميلاد عادل إمام الثاني والثمانين، أحب أن أرد بعضا من "جمايلك" الجميلة هذه. لكن ليس بالضحك والفكاهة والإمتاع الفني ، وهل ينفع بيع المياه في حارة السقايين؟ ببساطة.. أحب أقولك كل سنة وأنت طيب على طريقة صحفي قابلك من زمان، واليوم يتجاوز الستين من عمره ، وهنا هذه المرة على صفحات جريدة "المشهد"، وموقعها وهو والحمد لله غير محجوب. وبالمناسبة السعيدة أروى هنا جانبا من ذكريات حوار معك نشره "الأهرام"  في ملحق عدد الجمعة 17 مايو 1998. ـ وعنوانه " عادل إمام .. ورحلة تبدأ من الجزائر" ـ  يتم الحوار بعد أسابيع معدودة 24 سنة. وهذا لو اعترفنا بأن للحوارات الصحفية أعمار هي الأخرى كالبشر. وقتها أنت كنت تستعد للاحتفال ببلوغك الستين. أما العبد لله فكان لم يصل إلى الأربعين. ولم أكن قد تزوجت، و أنجبت " يحيى " ابني الوحيد. لكني اليوم ها أنا قد تجاوزت الستين بنحو أربع سنوات.

***

أظن طرأت فكرة الحوار مع عادل إمام عندي ، عندما أعلنت اعتزامك الذهاب إلى الجزائر لعرض مسرحيتك "الزعيم". ولم تكن عشرية العنف والإرهاب السوداء هناك قد وضعت أوزارها بعد.  وفي البداية لم أكن واثقا من قبولك إجراء الحوار. وهذا لأنني  سمعت حينها أن لكل نجم من الفنانين الكبار المشاهير صحفيين لا يتعاملون إلا معهم، وبخاصة بالنسبة للحوارات الطويلة، أو هكذا كان يقال فيالوسط الصحفي، وربما مازال. 

ومع أن معظم مسيرتي المهنية في الصحافة، كانت إلى يومها في العمل بالشئون الدولية والعربية، بما في ذلك كتابة تحليلات وبخاصة عن القضية الفلسطينيةولبنان وترجمة وصياغة الأخبار العربية والدولية، لكنني لم أكن خالي الخبرة تماما بشؤون الفن والفنون. ففي سنوات الدراسة بكلية إعلام جامعة القاهرة نهاية السبعينيات أنجزت تحقيقا صحفيا نشرته مجلة الكلية "صوت الجامعة" على صفحة كاملة عن عرض المسرح القومي لمسرحية تشيخوف "طائر البحر أو النورس" من إخراج الراحل الفنان عبد الرحيم الزرقاني. كما أجريت لاحقا وبعد التخرج وفي عام 1982 حوارا مع الفنان يوسف شاهين لجريدة "الأهالي". وقبل أن يفتر حماسي لقراءة ومشاهدة المسرح أو تشغلني الحياة العملية ، كنت شغوفا بالأفلام العربية والأجنبية، ومتابعا لحفلات نادي السينما ومهرجان القاهرة في دوراته الأولى. وقد تخلل هذا وذاك وخلال عقد الثمانينيات دراسة لم أكملها في معهد النقد الفني، للدراما و للنقد السينمائي بالطبع. وأصارحك بأن سنوات المراهقة و الشباب الأولى أبعدتني عن الإنبهار الطفولي بك وبأعمالك. بل ربما أصابني التعالي والإعراض بدعوى زيادة " التهريج". و لم أصبح استسيغ أبدا الضحك لمشاهدة ضرب الممثلين، والمبالغة في الضرب. 

  لم يكن من اللائق بالطبع أن أزاحم زملائي في صفحة السينما بـ"الأهرام"عندما فكرت في محاورتك حوارا من زاوية فريدة يركز على علاقتك بالعالم العربي وقضاياه. وكانت فكرة الحوار على هذا النحو مناسبة تماما لعملي بقسم الشؤون العربية بالجريدة، وتحديدا لصفحة كانت تصدر في عدد الجمعة الأسبوعي تحمل عنوان "بانوراما عربية". وماحدث هو أنني استأذنت رئيس القسم والمشرف على الصفحة الزميل الأستاذ أمين محمد أمين "رحمه الله" في عمل الحوار، بعدما عرضت عليه الفكرة.  

وبالفعل بدأت في الإعداد للحوار بزيارات تعددت ولساعات لأرشيف الجريدة في الدور الخامس، وكان وقتها شيئا مختلفا عما أصبح عليه الحال لاحقا. وجدتني أمام ملفات عديدة وكثيرة تحمل اسمك، ويعود أقدمها على ما أتذكر إلى عقد الستينيات. التهمتها كلها ولم أترك قصاصة ورق أو كلمة إلا وقرأتها، وربما عوضني هذا عن تقصير في متابعة أعمالك السينمائية والمسرحية الأخيرة نتيجة هذا "التعالي" الذي أشرت إليه سابقا. قرأت الأخبار الصغيرة والكبيرة، وكل مقال رأي وتحليل لأفلامك ومسرحياتك. وكانت ملفات أرشيف الأهرام حينها وراءها مجهود لأجيال من الزملاء في قسم المعلومات.. وهو مجهود محترم مقدر. وربما لم يفتها شاردة أو ورادة منشورة عنك حتى في غير "الأهرام" من صحف ومجلات، وبعضها يصدر من دول عربية.

وقادني حسن الطالع ـ وأنا لا أؤمن كثيرا بالصدفة والصدف ـ إلى طلب توسط الزميل العزيز الأستاذ محمود سعد، لم أكن أعرفه حينها ، وربما لم نكن قد التقينا ولو مرة واحدة، لكني علمت أن زوجته هي زميلتي العزيزة منذ سنوات الكلية  الأستاذة نجلاء بدير. وبالفعل كان للعزيز محمود سعد الفضل في إجراء هذا الحوار. وأظن لليوم أنه لولا تحدثه إليك لما قبلت التحدث مع صحفي لا تعرفه. وبالطبع لم يكن لا حينها ولا اليوم "نجما مشهورا" في عالم الصحافة المصرية تهتم به القنوات التلفزيونية. ولا تحضرني اليوم التفاصيل، فلا أتذكر هل إتصلت بك هاتفيا على رقم أمدنى به الزميل العزيز محمود، أم أنه هو الذي أبلغني بالموعد.

 لكن ماهو محفور في الذهن تفاصيل عديدة عشتها بعدها مع هذا الحوار. فعندما أبلغت والدتي السيدة / زينب أحمد  حسن البارودي وأستاذنتها بأنني مغادر إلى الإسكندرية ليلة أو ليلتين على الأكثر وفق ما تسمح به إجازتي الأسبوعية لإجراء حوار مع عادل إمام، ضحكت. ولم تعلق سوى بعبارة :"ربنا يوفقك". ولا أتذكر هل اندهشت  أمي وإلى أي حد من القيام بعمل صحفي خارج تخصصي؟، وهي التي كانت في مسئوليتي ونعيش بمفردنا معا بعد وفاة أبي في حادث مؤلم بالطريق قبلها بفترة وجيزة، وفي أبريل 1998. وبالطبع كان مؤلما لها هي على نحو خاص.

حوار فيللا العجمي

 وصلت الإسكندرية بالقطار الذي اخذته من محطة مصر (رمسيس)، بعدما أنهيت عملي في شيفت / وردية الخميس بعد الظهر، وفور أن بلغت محطة مصر هناك وجدت فندقا متواضعا في المنشية، ولا أظن أنني طلبت بدل سفر من "الأهرام".وبالنسبة لي كان ويظل أن أنجز عملا قررته وأحبه وكأنه رسالة تستوجب البذل والتضحية، وفي هذا التعويض الأهم والأكبر.  وبعدها انطلقت إلى الأزاريطة حيث كان المسرح الذي تعرض عليه مسرحيتك "الزعيم"، وحجزت لنفسي مقعدا في الصفوف الأخيرة، ولحسن الحظ كانت حينها حواسي كالسمع  والبصر بخير تماما، مع النظارة طبعا .

  لم أكن قد شاهدت المسرحية من قبل، وكنت في حاجة لإضافة سؤال عنها إلى قائمة الأسئلة الطويلة التي أعددتها وجئت بها من القاهرة، وربما أدركت أنني سأكون مرتبكا وأشعر بالذنب والتقصير إن قابلتك وأنا لم اشاهد مسرحيتك الأخيرة هذه. وعلى كل حال فإن أرشيف نص الحوار يحفظ سؤالا قبل نهايته عنها. يعني "فلوسي في التذكرة حلال". وأتذكر أنك استغربت خلال الحوار من أنني حضرت المسرحية ولم تشاهدني بين الجمهور. وأنا لليوم لا أعرف إلى أي حد يكون فنان المسرح واعيا خلال أدائه على الخشبة بوجوه الجمهور أمامه؟ وربما  خجلت أن أسألك، أو ربما وجدت أن هذا يثقل عليك، بعد أسئلة عديدة طرحتها عليك خلال الحوار. 

كما أتذكر أنك مندهشا لمتني لأنني لم أخبر أحدا في المسرح كي يخبرك، فأدخل مجانا لأجلس في الصف الأول، ولقد صممت أنت مشكورا بعد نهاية الحوار أن أعود لمشاهدة المسرحية من الصف الأول وفي أفضل وأقرب موقع للخشبة. واستاذنتك أن اصحب معي صديقي وزميلي في مكتب "الأهرام" بالإسكندرية الدكتور إبراهيم أحمد رائد دراسات صناعة الصحافة في مصر. وكان قد حصل على درجة الدكتوراة في هذا التخصص النادر قبلها بنحو ثلاث سنوات فقط من جامعة "السوربون" بباريس. وقد كان، فاتصلت بأمي مستأذنا التغيب عنها لليلة ثانية. وأسعدني ليلتها وأنا مع صديقي وزميلي في المسرح أنه كان بالغ السعادة. وأود أن أبلغك اليوم أن الدكتور إبراهيم يبلغ بحلول يونيو المقبل 75 سنة أطال الله عمره ومتعه بالصحة. لكن للأسف لم تستفد من علمه في اقتصاديات وإدارة الصناعة بالقدر الكافي الصحافة المصرية. 

  ومحفور في ذاكرتي لليوم إنني أتبعت وصفتك في مكالمة هاتفية ـ ولم تكن بعد الموبايلات ـ لأصل إلى فيلا عادل إمام بالعجمي في تلك الظهيرة من يوم جمعة. وصلت إلى سينما "....." أولا. وهنا تخونني الذاكرة فلا أدرى هل توصلت إلى هاتف فاتصلت بك فتفضلت بإرسال سيارة؟ أم أن الوصفة كانت جاهزة وكاملة فإتخذت طريقي سيرا على الأقدام أو بالتاكسي الأسود والأصفر الإسكندراني.

 مايعلق بذهني للآن عندما استقبلتني وبدأنا الحوار الصحفي، إنني شعرت بالصدمة .. ربما صدمة جراء ضحك طفل ظل لسنوات يقاوم النوم مع أفلامك ومسرحياتك على شاشة تلفزيون الأبيض والأسود بالمنزل، بديت بالنسبة لي إنسانا جافا متجهما، لا يضحك ولا تتسلل الابتسامة إلى وجهه. وجدتك بالفعل شخصا شديد الجدية، على خلاف الممثل الكوميدان عادل إمام. وربما دار بالذهن في اللحظة ـ مع التركيز الشديد في الحوار لإنجاحه ـ أنه من الطبيعي اختلاف شخصيتك في الحياة عن التمثيل. وهذا خصوصا إنني كنت أعلم مما قرأت وسمعت إنك إنسان مثقف وقارئ. وهذا على الرغم من عبء "التهريج" والإفراط في التهريج" الذي كان يثقل انطباعاتي المسبقة عنك. ولعلها انطباعات متعجلة. 

 اليوم عثرت على نسخة من الحوار وقد إصفر لون ورق ملحق "الأهرام"، فأعيد قراءته، وأتوقف عند عبارتك:"ربع كيلو كباب مشفي" عندما سألتك :"العلاقة بين الإرهاب والكباب وطيور الظلام..كيف تراها بعد ربع قرن؟"، وإلى جوراها محاولة إمساك المحاور بحالك لحظتها ، وفي  كلمة واحدة تصف ما صحب الإجابة منك: "ضحك". اليوم  اتوقف عندها، فأجادل انطباعي السابق دون أن أتمكن من مغالبته ومحوه تماما. 

كما يلفت نظري في نص الحوار المنشور مواقف تستحق التقدير الآن وغدا . وعلى سبيل المثال، عندما سألت :"ماذا لو وجه إليك عرفات الدعوة لتزوره في غزة؟" (وبالطبع كان هذا قبل الانتفاضة الفلسطينية الثانية وحصاره)، أجبت :"أين أذهب ..وهل يجب أن احصل على تصريح من إسرائيل .. بنظير بوتو كان عليها أن تحصل على إذن من إسرائيل كي تزور عرفات في غزة.. والرئيس الفلسطيني نفسه يحتاج إلى تصريح في الدخول والخروج. والمسألة هل هذه الأرض فلسطينية عربية مائة في المائة أم لا". وهنا وبعد 24 سنة من الحوار، يستحق التقدير كل من مرر عباراتك هذه في "الأهرام" للنشر والطباعة. وهذا لأن "الأهرام" نفسه كان لديه مراسل هناك. وقد كاد أن يضعني في أزمة مع الجريدة لاحقا حوار أجريته مع نقيب الصحفيين الفلسطينيين السابق  الزميل الأستاذ" نعيم الطوباسي " دعا خلاله زملائه الصحفيين العرب غير الفلسطينيين إلى الامتناع عن زيارة كل فلسطين أو المراسلة منها.

وأيضا لأن القسم (شؤون عربية) الذي مر عبره نشر حوار عادل إمام وكلماتك البسيطة/ القوية في مقاومة التطبيع هذه كان نحو نصف أعضائه من الزملاء الصحفيين أو ربما أكثر قد زاوا مدنا فلسطينية محتلة، وبما في ذلك القدس بعد استئذان وبتصريح من الإحتلال، وحيث أعلنت أنت على صفحات "بانوراما عربية" رفضك. ولعلني أفكر الآن ولا استطيع أن أخمن كيف تفاعل وعي وضمير كل من قرأ منهم حينها كلماتك هذه؟ وقد كان كلام كل من ذهب وعاد وفق إجبارات الإحتلال عاديا طبيعيا عن هذه الزيارات، وتنطبع في ذهني الثرثرات عن زيارة إسرائيل ومدن فلسطين المحتلة لليوم مع أصداء أصوات احتساء فناجين القهوة بكافتيريا الدور الرابع المقابلة لصالة التحرير بـ"الأهرام".

 كما يستحق التحية والتقديركل من مرر في "الأهرام" حينها للنشر والطباعة إجابتك تلك أيضا :"أتمنى أن أتجول بمسرحي في كل الدول العربية ، بما في ذلك السعودية دون حسابات سياسية وبدون أن يتهمني أحد بالكفر". وطبعا ما أدراك بسطوة السعودية على الصحافة المصرية، بما في ذلك "الأهرام" أمس واليوم.

 وبعد انتهاء الحوار الصحفي أتذكر جيدا جانبا مما دار معك. أتذكر ما رويته لي عن علاقتك باليسار وعن متابعتك منذ منتصف الستينيات شهرا بشهر لأعداد مجلة "الطليعة"، التي رأسها الراحل الأستاذ لطفي الخولي. ومحفور في ذاكرتي تعبيرات وجهك المنزعجة الحزينة وأنت تروي لي كيف علمت بنبأ إيقاف إصدارها من "الأهرام" بعد انتفاضة يناير 1977؟. قلت لي أن النبأ داهمك واصدقاء وانتم في كافتيريا "لاباس" بطابقها العلوي المطل على ميدان طلعت حرب وتمثاله.  وأتذكر أنك تفضلت وسألتني عن أحوالي في "الأهرام". وتصادف حينها إنني  كنت خارجا من أزمة وفي طريقي إلى أزمة أخرى، وما يعلق بذهني لليوم أنك رويت مع بعض التفاصيل الداعية للأسى والضحك معا جانبا من ذكرياتك كطالب في كلية الزراعة جامعة القاهرة، وعن الزملاء كتبة التقارير للأمن ضد الطلبة اليساريين منذ عهد عبد الناصر، وكيف صعدوا بعدها إلى مواقع قيادية في الدولة وإعلامها وإلى يوم إجراء حوارنا!.

صدى الحوار

 لا أتذكر ماذا قالت أمى عندما قرأت الحوار منشورا في عدد الجمعة؟.وربما لم تعلق بكلمة. لكن فاجأني إتصالك بعد نشر الحوار، وأتذكر أنك تفضلت بالإتصال هاتفيا بمقر الأهرام، وأن مكالمتك تم تحويلها من "السويتش" على مكتب بصالة تحرير الدور الرابع بعيدا عن المكان المخصص لمحرري قسم الشئون العربية. ولعل أحدهم نادى من بعيد باسمي مقترنا باسمك، وبانتظارك على الهاتف. وربما نظر زملاء باستغراب لأنني لم يكن لي مكتب في الصالة أو مبنى "الأهرام" كله ولا حتى مفتاح لدرج واحد اضع فيه متعلقاتي، وهكذا ظل حالي حتى غادرت الصالة في 2004. وربما كنت المحرر الوحيد بدون أي مناصب في قسم يتجاوز عدد أعضائه العشرين، جميعهم تقريبا يفترض أنهم يرأسوني من " نائب رئيس قسم " و"رئيس قسم مناوب" إلى "..."، وهذا مع إنني لم أكن الأحدث في العمل بـ"الأهرام" أو سنوات التخرج، مع اعتراف قيادة الجريدة بكفاءتي، إذ كانت تخصني بموضوع المانشيت الرئيسي القادم من قسم شئون عربية أو بالموضوع الرئيسي في صفحتي القسم  اليومية حينها. 

   أتذكر مكالمتك مع شكر وثناء على واجب أخجلني. وأظن أن وجهي قد تأثر إحمرارا، وأنا أحادثك وسط زملائي بصالة التحرير بصوت خفيض، ولقد أبلغتني حينها بأن شخصيات كالدكتور عصمت عبد المجيد أمين عام الجامعة العربية وأسامة الباز المستشار السياسي لرئيس الجمهورية - يرحمهما الله - وعمرو موسى وزير الخارجية إتصلوا بك فور قراءتهم للحوار. ووجدتني أعود للإسكندرية ملبيا دعوتك الكريمة للغذاء مع الأسرة. 

ومع إمتناني لتقديرك، لكنني شعرت بالحرج، لأن هذا لم اعتده أبدا مع كل من حاورت في حياتي المهنية. والانطباع الذي احفظه عن هذه الزيارة هو أنني دخلت فوجدت الممثل مصطفى متولى ممددا على كرسي، وساقه في الجبس جراء حادث. وكلما تذكرت اللحظة ألوم نفسي أنني ربما لم أشعره بالاهتمام اللائق والكافي كفنان وإنسان مصاب. وأرجو أن يسامحني رحمه الله.

 ولا أتذكر بعد كل هذه السنوات ما تحدثنا بشأنه، لكن يأسرني إلي اليوم أنك قدمت لي أسرتك الصغيرة: الزوجة الفاضلة السيدة / هالة الشلقاني والابنين "رامي" و"محمد" والابنة "سارة"، وأخذتني في جولة تعرفت فيها على ملامح "فيللا العجمي"، وعندما جلسنا لمائدة الغذاء دار حوار مع رامي، وكان عمره نحو 23 سنة، اكتشفت خلاله عشقه المبكر للسينما العالمية. وبهرتني غزارة معلوماته ومتابعته لكل ما هو جديد عنها، وقد خرجت حينها بانطباع بأن للإبن اهتمامات ومفاهيممختلفة، ويتجاوز تراث الأب والعديد من نجوم السينما المصرية من مجايلي عادل إمام.

 وهل تعلم بأنني عندما عدت إلى القاهرة وجدت في انتظاري مفاجأة كبرى وجائزة جميلة أخرى، فقد كنت في زيارة لابنة خالي أستاذة الطب "الدكتورة نادية البارودي"، ففاجأني ابنها الصغير حينها "أحمد خلف" بأنه علم بالحوار معك وقرأه. ولقد كان مجنونا بك حتى أنه طلب مني أن يلتقيك، لكنني خجلت أن أطلب منك، وأقول بأنها  مفاجأة وجائزة. وهذا ببساطة لأن والدته طالما قالت لي أنها حاولت أن تقرأ ما أكتب وينشره "الأهرام" لي من تحليلات عن القضايا العربية فلم تفهم منها شيئا، ولو لمرة واحدة، وفي كل مرة كنت أقول لها ألا تعود لتقرأ وتعذب نفسها، لكنني بيني وبين نفسي كنت اتهمني بالنخبوية و"التفذلك". وأيضا  بمعاناة آثار السعي للتهرب من السادة الزملاء الرقباء، حتى لو كانت الكتابة في الشؤون العربية وليست المحلية. وإلى الآن عندما أتذكر الحوار معك أسأل نفسي: هل هذا هو من بين أكثر الموضوعات قراءة للعبد لله على مدى مسيرة صحفية مهنية تجاوزت  أربعين سنة؟.. لا أدري.

لماذا لا تسأل؟

لك الحق أن تعتب على هذا الصحفي الذي حاورك على هذا النحو ووفق  هذه الملابسات في صيف1998، وهذا لأننا تقابلنا في عزاء الراحل الأستاذ لطفي الخولي فبراير 1999، فرحبت بي بود، ولمتني لأنني لا أسأل. وللأسف لم أفعل بعدها. ولا أدري عندما أفكر في الأمر اليوم لماذا لم الجأ إليك عندما واجهت محنة أخرى في علاقتي بـ"الأهرام" بين فبراير 2004 وسبتمبر 2005 ، حين تم منعي من العمل ودخول المؤسسة على نحو غامض؟ .  وبالطبع لعادل إمام علاقاته التي تسمح بأن يفهم و أفهم، إن لم تساعد في حل الأزمة. لكن وبصدق لم أفكر في أن الجأ اليك، ولو على سبيل مجرد "الشكوى والفضفضة".

اعتذر لأنني لم أفعل وأسأل، وهذا هو حقك علي مع كل الزحام حولك، وعندما أبحث اليوم عن صورة فوتوغرافية للقائنا في العجمي مرتين لا أجد ، ويبدو إنني لم أهتم وأسعى حتى لنشر صورة مع الحوار في "الأهرام". لم أفكر ولم أسع . وفي تفسير هذا وذاك ربما هو الخجل، أو إنني أخشي شبهة التطفل على النجوم والاقتراب منهم. أو ربما أنا بالأصل غير مكترث بتصوير نفسي، وهو عدم اكتراث لاحقني مع ليلة زواجي، فاضطرت الزوجة في محل التصوير لصور منفردة بفستان العرس، ويداها تعانقان الفراغ!. 

على أي حال، اليوم فقط أنا نادم أنني لم أهتم بأن التقط صورة معك. هل تعرف لماذا؟ كي أريها لابني يحيى (17 سنة) ربما يدرك بأنني مهم، وأحب أن أقول لك شيئا خاصا آخر، وهو أنه لم يقرأ لي ولو كلمة واحدة لا في صحيفة  ولا في كتاب. وهل أزيد فأقول لك بأنه في مناقشة معه حول مستقبله، قالها لي صراحة: "عايزني أذاكر .. طيب لو موتت نفسي مذاكرة، ودخلت لك أعظم كلية، هتقدر تلاقيلي شغل .. إنت لا ظابط ولا قاضي".

العزيز عادل إمام: لا عليك يا ملك البهجة بامتداد شعوب من المحيط إلى الخليج.

.. وكل سنة وانت طيب . 
---------------------------
بقلم: كارم يحيى 
من المشهد الأسبوعي

نص الحوار مع عادل إمام المنشور عام 1998 والمشار إليه في متن المقال




مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال





اعلان