29 - 03 - 2024

علاء عريبي عاشق الحياة .. قصة رحلة الألم لباحث دؤوب ظل صامدا متيقظ الذهن حتى النهاية

 علاء عريبي عاشق الحياة .. قصة رحلة الألم لباحث دؤوب ظل صامدا متيقظ الذهن حتى النهاية

- أصدر ثلاث كتب وكان في جعبته الكثيرلكنه لم يلق من يقدر قيمه البحث وقدر الجهد وتفرد العقل
- حتى حين داهمته الخيالات بسبب الأدوية تصور نفسه صاحب ثروة ينفقها على الفقراء!

منذ الصغر صاحب المرض ..حاول ترويضه بكل ما أوتى من قوة .. قاوم حتى النفس الأخير . ولم يستسلم للموت إلا بعدما أيقن أنه لا أمل في النجاة والحياة.

رحلة طويلة من الألم .. لم تفارقه ابتسامته الساخرة التي كانت دوما سلاحه لمواجهة أي أزمة مهما بدت عصية على الحل ..

لم أشاركه بعض هذه الرحلة، لكنى شاركته الجزء الأكبر والأخطر منها.

كانت البداية قبل سنوات طويلة من تعارفنا.. وقتها كان طالبا في الجامعة يدرس الفلسفة بجامعة طنطا .. مقبلا على الحياة بكل بهجتها وصخبها .. لم يكن يدرك أنها بفتنتها الغادرة يمكن أن تحول حياته في لحظة رأسا على عقب.

إستيقظ ذات يوم على آلام مبرحة لينتقل إلى المستشفى ، ويكتشف الأطباء إنفجار الزائدة الدودية مهددة حياته بخطر محدق ، لم ينقذه منه سوى رحمة خالقه وعنايته الإلهية.

لم يمر الأمر بسلام ويسر، كما كان يردد علاء دوما مجترا جراح تلك التجربة القاسية، بل استدعت خطورة حالته الصحية الإقامة بالمستشفى لمدة عام كامل بعدما أصيبت رئتاه وإضطر لعمل بزل للمياة التي تسللت إليها وتركت آثارا لتليف ظل شاهدا على تلك الحادثة الأليمة، وربما كان نذيرا بما سيحمله القدر له فيما بعد.

سنوات طويلة مرت على تلك الواقعة، وإن ظلت تفاصيلها المؤلمة حاضرة دوما في نفسه يرددها بين الحين والآخر كأنها وقعت بالأمس القريب.

لم أكن أدرى بينما أسمعها مرارا أنى سأكون شاهدة على تكرارها ومشاركة لتفاصيل أكثر ألما ووجعا وخطرا..

لم يفاجئنى القدر بما كان ينتظرنى في تلك الرحلة، لكنه كان رحيما بى ومهد لى من البداية ..

بعد أيام قليلة من إعلان خطبتى بعلاء داهمه المرض .. حرارة مرتفعة لم ينجح الأطباء في تشخيص سببها رغم اختلاف تخصصهم ليأتى الحسم على يد طبيبة شابة مؤكدة إصابته بمرض التيفود.

وجهه الشاحب وقتها وجسده الهزيل بفعل المرض دفعانى للخوف، لم يبدده سوى دعاء متواصل بالشفاء وعهد لم يسمعه سوى الله بأنى لن أتخلى عنه حتى بعدما شخص أحد الأطباء بإحتمال إصابته بالدرن .. لكنه والحمد لله لم يكن كذلك.

تعافى علاء ومرت سنوات طويلة بعد زواجنا كدنا ننسى فيها رحلتة مع المرض والآلام، لكن يبدو أن المرض لم يكن لينسانا أو يتركنا لحالنا طويلا.. إختار كعادته دوما توقيته الغريب ليس فقط ليفاجئنا لكن ليسرق ماتبقى لنا من فرحة ..

بعد أيام قليلة من نجاح ابنتى في الثانوية العامة بمجموع ، شرح صدرى، كان علاء على موعد مع رحلة أخرى مؤلمة مع المرض .. اعتل القلب بعدما تحمل كثيرا بفعل ضربات الزمن والتدخين .. وإنتهى الأمر بتركيب دعامتين لم تنجحا في إصلاح ما أصاب القلب من وهن ليحتاج بعد سنوات قليلة لتركيب ثلاثة دعامات أخرى .. خلال تلك الرحلة اكتشفنا الوجه الحقيقة للمنظومة الصحية المهترئة، التي لامكان فيها إلا للاثرياء وإن لم يفلح ثراؤهم أيضا في تأمين حصولهم على علاج مثالى بعدما تحول الطب لتجارة وبيزنس يقوم على إمتصاص دماء المرضى واللعب على أوجاعهم .

في تلك التجربة تجلت إرادة علاء وقوتها الصلبة ، بعدما نجح في الإقلاع عن التدخين محققا معجزة لم يكن أقرب الأصدقاء ولا كثير من الأطباء يتوقعها.

كان كل من يعرفه يدرك مدى إلتصاقه بالسيجارة التي لم تكن تفارق يده حتى صارت جزءا منه .. مدخنا شرها لعقود إنتهى لتدخين ثلاثة علب من السجائر يوميا.

رغم إشفاقي ورغبتى في إقلاعه عن التدخين إلا أنني اعتدت على متابعته وهو يلتقط كل نفس من السيجارة بتؤده وهدوء وعمق، بينما ذهنه شارد بعيدا مستغرقا في التفكير كعادته في قضية ما ، بينما تعبث يده بين الحين والآخر بشعيرات ذقنه متحسسا إياها كأنه ينبه بها عقله ويشحذه لمزيد من التفكير..

الفت مشهد علاء وسيجارته المحبوبة ..قبل أن يهجرها بحسم وبلا تردد أو رجعة متحديا سطوتها فارضا قراره الذى كان دوما معتدا به.

هجر علاء السيجارة لكنها اقتصت لهجرانه أبشع إقتصاص .. فكانت الحاضر الغائب دوما في كل تشخيص يطرح فيه الأطباء سؤالا يتعلق بالتدخين بعدما يتسلل الشك في احتمال إصابته بالمرض اللعين.

رحلة أخرى اشد قسوة كنا على موعد معها ، مثلما اعتدنا، لتغتصب فرحتنا الضنينة ..

بعد شهور قليلة من قدوم مازن حفيدنا الأول، يحمل معه أكبر فرحة عرفها القلب المنذور دوما للحزن .. مطبطبا بيده الرقيقة على جراح أرواحنا المتعبة ليحيلها إشراقا وبهجة وألقا وتوهجا .. لم نكن ندرى وقتها أننا بصدد مواجهة رحلة أخرى من رحلات المرض والوجع والآلام.

بدأ الأمر بأعراض غريبة تداهم علاء، الذى كان دوما منتبها لكل مايطرأ على حالته الصحية مهما بدت الأعراض خفيفة أو من الصعب التنبه لها وإكتشافها .. بعد تردده على أكثر من طبيب شك أحدهم في إصابته بالمرض الخبيث لتؤكد جراحة إستئصال إحدى اللوزتين الشكوك ويعلن الطبيب بكل وضوح إصابة الغدد الليمفاوية بالمرض اللعين.

كالصاعقة كان وقع الخبر ، وإن دفعنا أيضا لمزيد من التحدى والعناد والرغبة في المواجهة والانتصار .. لم يكن الأمر بالطبع سهلا، بل كان يحتاج مزيدا من الجهد والتحمل والصبر على الإبتلاء ، وبقدر هول الصدمة كان لطف الله بل كان أكبر بكثير .. لم يكن الأمر خطيرا كما نبأنا الأطباء بل جاء المرض في مراحله الأولى التي يمكن بسهولة التغلب عليها ، لم تفلح كلماتهم بالطبع في بث الطمأنينة في نفوسنا بسهولة فيكفى إسم الخبيث وحده ليسبب قدرا من الرعب مهما حاول البعض التهوين من درجته التي جاء عليها.

بدأنا رحلة العلاج ، كانت أولى جلسات الكيماوى بعيادة أحد الأطباء المشهورين ، تسمرت عيوننا على نقط المحلول المتسلل للوريد، بينما ترتجف قلوبنا منتظرة تلك الأعراض المؤلمة التي تصاحب ذلك العلاج .. لم ندرك وقتها أن تلك الأعراض لاتظهر إلا بعد ثلاثة أيام من الجرعة .. آلام وغثيان وفقد للشهية ، قلة تركيز، وإكتئاب ما أن ننجح في مواجهة إحداها حتى تبرز لنا أخرى لنظل دوما أسرى لتلك الأوجاع.

تنفسنا الصعداء مع الجلسة الأخيرة للكيماوى ومرت بعدها جلسات الإشعاع بسلام ويسر .. حمدنا الله على اجتياز المحنة ووفينا نذر علاء الذى اصطحبنى لرحلة عمرة كانت بمثابة طبطبة إلهية محت بها كل ما أصاب نفوسنا من ضيق وألم وقلق واكتئاب.

سنوات مضت لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة كدنا ننسى فيها شبح الخبيث، وإن لم نتوقف عن متابعته ومراقبته خشية تسلله الغادر مثلما يفعل دوما. وهكذا فعل. بعد كمون سنوات أطل بصورته الأكثر شراسة وبشاعة .. داهم الرئة اليمنى بقوة واضطر الأطباء لاستئصال جزء منها .. ساعات طويلة حبست فيها أنفاسىى وأنفاس أولاده وأشقائه والأصدقاء .. يردد فيها الكل الدعاء والرجاء طالبا النجاة والشفاء .. مرت الساعات طويلة كان القلق ضيفا مبالغا في ثقله .. وكان الخوف من توقف القلب العليل، فكيف له أن يتحمل تلك الساعات الصعبة .. لكن القدر كان كعادته أرحم، وخرج علاء سالما وإن عانى فيما بعد من خطأ الجراح الذى تسبب في تكسير أربعة ضلوع لتصيب آلامها المبرحة صدر علاء بأوجاع قاتلة، ظل يعانى منها حتى النفس الأخير.

بعد العملية الأكثر خطرا، بدأت رحلة أشد ألما مع جرعات الكيماوى التي إضطررنا لأخذها هذه المرة بمعهد الأورام .. سلسلة من الإجراءات الروتينية العقيمة  وتقارير بين التأمين الصحى الذى يتكفل بعلاجنا وبين معهد الأورام الجهة التي نحصل منها على العلاج، ويتوقف إحداهما على كلمة في تقرير ويطلب آخر مزيدا من التوضيح وبعد ماراثون من الجولات بينهما، يتم الاتفاق على العلاج المناسب للحالة.. يبدأ معه ماراثون آخر من العذاب داخل المعهد لإثبات الحالة والعرض على الأطباء وتحضير جرعة الكيماوى وتناولها، تتتابع خلالها مشاهد حزينة لأجساد واهنة وأرواح مثقلة بفعل المرض والفقر وقلة الحيلة وعجز المقهور.

كعادته تحمل في صبر صامت رحلة الأوجاع، وانتهت جرعات الكيماوى بكل تفاصيلها التي اعتدنا عليها، وإن ظلت أوجاعها متحدية قوة تحملنا وصبرنا على الابتلاء.

رغم الألم كان عقل علاء يعمل، مثلما كان دوما، بكل قوته وكان ذهنه الحاضر مدركا لكل التفاصيل، وظلت أسئلته المتتابعة بلا توقف عن حالته ، والمتوقع أن يواجهه من تطور أو تدهور، والأهم كان شغوفا بالتعرف على أحدث العلاجات بالخارج ، بدأ علاء يتعامل مع المرض بعقلية الباحث أخضعها للدراسة والتمحيص والتدقيق والسؤال والمتابعة، مثلما كان يفعل في كل قضاياه البحثية والفكرية ..

شغفه وإهتمامه وتركيزه وبحثه كان دافعا لمزيد من الاهتمام الذى أولاه صديقه الدكتور الكبيرمدحت خفاجة، أستاذ الجراحة، الذى لم يدخر وسعا لمساعدة علاء في كل مراحل علاجه بالطمأنة وتقديم الاستشارة، والتواصل مع أمهر أطباء الأورام بالخارج والتعرف على أحدث العلاجات وعرض تفاصيل حالة علاء المرضية.

لم يتوانى المريض الباحث الدءوب في البحث عن كل ماهو ناجع لمواجهة الخبيث، وسخر الله من ساعده للحصول على أحدث العلاجات وأكثرها تكلفة منها العلاج الموجه والعلاج المناعى، لكن للأسف لم تفلح في مواجهة المرض اللعين ليس بسبب شراسته وخبثه فقط بل لإكتشاف الأطباء وجود جين متحور يحول دون فعالية كل تلك العلاجات، كان قدر علاء أن يكون الحالة الحادية عشر في العالم التي تحمل هذا الجين.

كان مختلفا حتى في مرضه، مثلما كان دوما .. ظل التحدى كامنا متربصا بقوة متحفزا لمواجهة أخطر الاحتمالات .. كان مستميتا في الإبقاء على ذهنه متقدا يقظا، حتى بعدما اضطر لتناول المسكنات القوية والمهدئات والمنومات . كان يقاومها جميعا كأنه يرفض الإستسلام لمحاولة تغييب العقل المعتز دوما بيقظته واتقاده .. وصل الخبيث للمخ لكنه لم ينل منه.

لم تفلح أيضا تلك الأدوية التى هددت عقله بالتشوش في إحداث مفعولها، كل مانجحت فيه أنها حركت خياله ودفعته لاختلاق واقع مثالى كشف عن معدنه الطيب وأحلامه الإنسانية النبيلة .. أيام شروده السابح في خيالاته المنطلقة بفعل العلاج تخيل علاء أنه يمتلك ثروة ضخمة تجاوزت السبعة ملايين جنيه ، لم يفرح بها بل إعتبرها ابتلاء من الله ومسؤولية سيحاسبه الله عليها.. فكر في تعمير القرى ومساعدة الفقراء والمطحونين وتبنى الأيتام ، وجه كل ثروته لفعل الخير ومد يد العون للبسطاء وقليلى الحيلة مما لا ظهر لهم ولاسند مثلما كان عموده اليومى بالوفد "رؤى" منبرا لهم مسخرا كل كلماته لرد حقوق المظلومين ونصرة الضعفاء والمقهورين .. لم يفكر في نفسه بل آثر غيره واكتفى بشراء شقة فخمة للإبن والإبنة ولى وعندما سألته وماذا عنه قال سأعيش معك في شقتك.

رغم نبل الخيالات، إلا أننا لم نسلم من تبعات عبئها العصبى بعدما اختلطت في عقله بالواقع وفرضت سطوتها عليه، ولم أسلم من عصبيته المفرطة عندما أنشغل عنه للقيام بأعباء المنزل مستنكرا لغيابى غير مقتنع به، مؤكدا وجود أكثر من مساعدة لى للقيام بتلك الأعباء من تنظيف وإعداد للطعام وغيره.

حاولنا بالتدريج مساعدته على اكتشاف الواقع وطرد تلك الخيالات التي كانت تنتابه بين الحين والآخر، ونجح أخيرا في السيطرة عليها، بعدما إكتشف باطلاعه على كشف حسابه بالبنك أنه لايحمل تلك الثروة الضخمة التي كانت محض أوهام لم تخل من متعة رغم ما سببته من أرق.

لم يسمح علاء للأوهام أن تنال من عقله، فرفض تناول الدواء المتسبب في تلك الحالة، وتحمل بقوة الآلام مؤثرا الحفاظ على ذهنه مسيطرا على تفكيره، رافضا النيل منهما حتى ولو كان بسبب دواء فيه راحته وتخفيف لوجعه وألمه.

ظل بقظا متابعا لحالته رغم تدهورها السريع .. أدرك أنها النهاية، وإن ظل الأمل يراوده حتى اللحظات الأخيرة .. لم يستسلم للموت إلا بعدما أيقن أنه لاجدوى من النجاة والحياة، طلب بصوت واهن النوم والراحة بعد سنوات من الألم والوجع والعذاب ، إستجاب الله له فهدأت روحه المتعبة وظللت وجهه سكينة وهدوء وراحة لتحمل طلته الأخيرة لنا قدرا من السكينة والعزاء والرجاء بأنه في حالة ومكان أفضل إن شاء الله.

رحل علاء الذى اختلفت معه كثيرا كزوج ، بطبيعة الحال ، واختلفت معه صحفيا في بعض الآراء، فكنت مندفعة كعادتى بحماس وثورية خشى على البعض مما إعتبروه جرأة لكنها كانت في نظرى محسوبة ومأمونة بيقين أنه لا يجرؤ أحدا أن يمسنى بسوء وعلاء على قيد الحياة، فلم يكن ليسمح لأحد مهما كانت سطوته بذلك .. لم تتوقف كلماتى الحادة وعلى النقيض تماما كان هو يتسم بعقلانية وحكمة وعمق في التفكير وموضوعية ، تلك الميزات التي جعلته يقتحم أدق القضايا بمهارة ويخرج منها سالما رغم ماتعرض له من مساءلات قانونية إلا أن دقته وتمكنه وعقلانيته كانت دوما سلاحه للحصول على البراءة وإثبات قوة موقفه.

واجه السرقات الأدبية ولصوص التراث وأثار قضايا شائكة خطيرة ، فجرها بتعقل ، لكنها بالطبع لم تدفع الناشرين لتبنيها لحساسيتها وخطورتها وتحسبا لإثارتها المتاعب كانوا يؤثرون تجنبها وتحاشيها.

لم ينشر إلا القليل من الكتب "البكورية أو الإبن البكر في الثقافات القديمة" الذى أصدره مركز زايد للتنسيق والمتابعة، و"البكورية في المجتمع التوراتى " الذى صدرعن الهيئة العامة للكتاب  و"فتاوى لها تاريخ" الصادر عن دار الكتب.

كان في جعبة الباحث علاء عريبى الكثير وكان في وسعه أن يضيف الكثير لكنه لم يلق كالعادة من يقدر قيمه البحث وقدر الجهد وتفرد العقل .. ومع ذلك ستظل بصمته محفوره واسمه خالد ، بما تركه حتى وإن كان قليلا من فيض عقله وتفكيره وإبداعه .
-----------------------------
بقلم: هالة فؤاد *
* كاتبة المقال شريكة حياة الكاتب الراحل والمقال منشور في أسبوعية المشهد








اعلان