23 - 04 - 2024

شيرين أبو عاقلة والمتشددين والقس داود لمعي

شيرين أبو عاقلة والمتشددين والقس داود لمعي

وكأن موتها صفعة على وجه المجتمعات العربية، نزع ورقة التوت عن عقلنا الجمعي، وكشف عورتنا الفكرية، فنظرنا في مرآة الحقيقة؛ لنشاهد شعوبا عربية منقسمة على ذاتها، فما بين جواز الترحم عليها من عدمه دارت حروب فكرية طاحنة، ووصل الأمر لرجال الدين الذين انقسموا بدورهم؛ كما انقسمنا ما بين مؤيد للترحم عليها وما بين معارض؛ وكأن شيرين تنتظرهم وكأن مفاتيح أبواب السماء مرهونة بكلمتهم .. ما أبأسكم فالرحمة في يد الخالق لا في أيديكم.

نحن جميعا نعرف ان كل ديانة تؤمن أنها الديانة الوحيدة الصحيحة، وكل طائفة داخل كل ديانة ترى نفسها الطائفة الوحيدة الصحيحة، وكل فرد داخل كل طائفة داخل كل ديانة يمتلك وحده النعيم الأبدي؛ حيث (الجنة | السما/ الملكوت) كما أن الملحدين وغير المؤمنين بالديانات السماوية يضحكون علينا؛ هكذا تقتضي طبائع الأمور؛ فكشف موت "أبو عاقله" المسكوت عنه أو بالأحرى ما نعرفه ولكننا نتعامى عن مناقشته؛ فتبادل جميع الأطراف المكايدة والمعايرة والسباب؛ بل وحاول أنصار فريق عدم الترحم على شيرين البحث عن فيديوهات لرجال دين مسيحيين تؤيد فكرهم ليقولوا (مش إحنا بس)، ووجدوا ضالتهم في فيديو شهير للقس داود لمعي؛ تحدث فيه "لمعي" عن بدعة حديثة تبدو في ظاهرها براقة، ولكن في باطنها خبيثة ومنافية لجوهر تعاليم الكتاب المقدس، وتتخلص في (أن هناك من يعتقد ان بعض الأفراد لمجرد ان سلوكهم طيب سيدخلون ملكوت السماوات، وهذا خطأ من منظور العقيدة المسيحية).

واشتعلت مرة آخرى صفحات الفيس بوك بمنطق (هما كمان زينا) ونسى الجميع أن اللحظات الاستثنائية في عمر الشعوب لها منطق مختلف، تذكر معي ثورة 1919 عندما دخل الكاهن الجامع ودخل الشيخ الكنيسة، ورغم ذلك ظل كل منهما على فكره ومعتقده؛ لكنهما تشاركا في الإنسانية، وهي القضية التي فجرها موت "أبو عاقله"، فالشهادة والترحم والصلاة كلها تندرج تحت بند المشاركة الرمزية لا الفعلية والجميع يعرف ذلك.

فتح أيضا موتها صفحة مطوية بداخلها سؤال منسي؛ هل القضية الفلسطينية قضية إسلامية فقط؟ وأنا هنا أخاطب العقل الجمعي المسيحي؛ الذي تقوقع داخل جدران الكنائس، وتزامن مع ذلك قيام المتشددين بوضع هذه القضية في إطار ديني أدى إلى إضعافها؛ فما بين عزوف البعض – بمنطق مش لما تبقى تتعاون معايا أبقى أتعاون معاك - وعدم اكتراث الآخرين؛ بل وعدم الفهم الصحيح للقضية نفسها، وجدنا أنفسنا أمام حدث جلل لم يستطع العقل الجمعي الهش التعامل معه.

كشف أيضا موت "أبو عاقلة" زيف النضال الحنجوري (على القدس ادينا رايحين شهدا بالملايين)، فهذه الشعارات الطنانة تنتهي أما بالصمت أو باليأس أو بمتشدد كاره لنفسه وللحياة أو بصناعة إرهابي يدمر نفسه وبلده.

ماتت شيرين أبو عاقلة، واعلنت صديقتها أميرة عيسى التحول إلى المسيحية؛ فبحسب منشورها على الفيس بوك قالت ان طريقة تعامل المجتمع مع موت شيرين هو السبب في ذلك، ولكنها ذكرت جملة أرى انها السبب الحقيقي؛ حيث قالت: (وأنا من سنة مسيحية وليس اليوم فقط) وهذه الجملة في رأيي هي الأدق؛ لان تغيير الدين – وأنا اقصد هنا تغيير الدين عن قناعة حقيقية وليس بعمليات الاستقطاب والألعاب الصبيانية - يحتاج إلى وقت ولا يتم في ليلة وضحاها؛ ما أقصده ان هذه السيدة تفكر في الأمر منذ فترة، والدليل على صحة تفسيري، هي بنفسها قالت "منذ سنة".

وعندما دخلت على صفحتها وبدأت في قراءة التعليقات، وجدت نفسي أمام نفس العبارات التي تكتب عندما تتحول سيدة مسيحية إلى الإسلام، وجاءت التعليقات على شاكلة (مبروك كسبتي السما – هللويا) ووسط حالة الاحتفاء المسيحي والاستنكار الإسلامي؛ تذكرت سيدة بني سويف، والتي تحول بسببها الفيس بوك إلى ساحة حرب فكرية مغلفة بفرحة عارمة واستنكار شديد. ومن بني سويف إلى دولة النمسا أخبرني صديقي الفنان الجميل تامر عيسى ان هناك مبادرة لمحو الأمية الموسيقية، وكان هدف هذه المبادرة هو ان يعرف كل أفراد الشعب النمساوي قراءة النوتة الموسيقية!.

(أنت متخيل الفرق)، وعلى رأي عبد الحليم حافظ (شوف بقينا فين يا قلبي).

ورغم ذلك مازال التيار المصري المستنير حائط الصد الأهم ضد انعزال الأقباط داخل الكنائس، ومغالاه السلفيين، وجنوح بعض المثقفين، وتخبط رجل الشارع؛ فهذا التيار يملك الورقة والقلم يعيد من خلالهما تشكيل الواقع برؤى وأفكار تنخرط مرة آخرى مع الواقع وتتفاعل معه وتغيره، ولذلك دافع هذا التيار بكل ما اوتي من قوة عن الصلاة على شيرين وعن صورة المطران جالسا بين صفوف المصلين، دافعنا ونحن نعلم انها تصرفات رمزية ولكنها مهمة؛ بل وملحة في وقت كان لازما علينا اقتناص الفرصة لنسجل موقفا، ولكننا للأسف أضعناها مثلما أضعنا فرصا غيرها.
----------------------------
بقلم: مينا ناصف

مقالات اخرى للكاتب

إحنا مش ضد اليهود!





اعلان