إنه أمر نادر بقدر ماهو مرحب به. كتبت عن تجربة الفنان صلاح حماد أثناء إقامة معرضه (إتجاهات الروح" بقاعة "أفق" التابعة لقطاع الفنون. وبعد أن اقتربت من نهاية قراءة أعماله حفظت الوورد لاستكماله فيما بعد. وعند عودتى لتكملته فؤجئت بأن الصفحة بيضاء وقد اختفى كل ما كتبته وفشلت كل المحاولات فى إستعادته.. ولأن المعرض مهم والأعمال مغرية والفنان يستحق كان لابد أن أتناول أعماله بالقراءة مرة إخرى.
يقوم الفنان ببناء نوع جديد من العلاقة بين الكائن والفضاء، ناهيك عن اللغة الجمالية الأصلية، والتنازل عن اللغة السردية والفهم التقليدى للنمذجة، لقد اختار الإرتباط بالحالة الروحية والفلسفية والرمزية والإحتفال بالحركة والديناميكيات المرتبطة ببناء أعماله النحتية، كما اهتم بجوهر الأشياء والحقائق الخفية للتعبير عن حالتها التى ترضيه ويريد أن يصدرها للمشاهد. ركز صلاح حماد على المفردات الحيوية كالطيور والأشجار والبشر، وارتبطت أعماله بروحه الإنسانية المرتبطة بثقته بنفسه وكبريائه، وكثيرا ما تشاهد القوة والشموخ والإعتزاز بالنفس فى منحوتاته من صقور وحمام ونسور، وغيرها من الكائنات التى أضفى عليها من روحه وثقافته
سعى صلاح حماد للتعبير عن قوة وعظمة الحياة البشرية في الأعمال التي عبرت في نفس الوقت عن قوة المواد التي استخدمها، والتى شعر بالتعبير المباشر عن الصفات ونقاط القوة الموجودة في حياة الإنسان وفي المواد الطبيعية التي يمكن أن تنتج أعمالًا فنية تعبر عن الحقيقة حول الناس وعالمهم.
صنع حماد أشكالًا جريئة وقاسية وكبيرة من البرونز أو الحجر والحديد. يتميز نحته بواقعية قوية، وطليعية من حيث المفهوم والأسلوب الذى جذب جمهور أحب الجماليات المتنوعة فى أعماله والتى إستلهمها من الفنون المصرية القديمة ومن ثقافات النحت الغربى، والتى تميزت بجمع المتناقضات من الظلال والأضواء والسطوح الكسورة، وأيضا بعضويتها وهندسيتها فى آن واحد.
سعى صلاح إلى إنشاء منحوتات تنقل الجوهر الحقيقي لموضوعاته، سواء كانوا حيوانات أو أشخاصًا أو أشياء من خلال التركيز على أشكال مبسطة للغاية خالية من الزخرفة . بينما اعتبر البعض فنه مجردًا، اختلف أخرون معتبرين أن الطبيعة التمثيلية واضحة بأعماله، والحقيقة أن منحوتات الفنان مرتبطة إرتباطا وثيقا بشخصيته، والتى تكشف حقائق واضحة يؤكدها فى التكوين والحركة وقوة البناء وثباته. كذلك إنجذاب الفنان لمصادر الإلهام التقليدية شكل تباينا فريدا فى المظهر الأنيق لأعماله. مما أدى الى مزيج مميز من الحداثة والخلود .
كان للثقافة المصرية تأثير كبير على صلاح حماد، ولا سيما تقاليد نحت الطيور. على الرغم من أنه لم يستشهد عمومًا بمراجع محددة لأعماله.
كانت الطيور، ولاسيما تلك التي تمتلك قوى تحويلية في الأساطير، مصدر افتتان صلاح حماد. صنع تماثيل عديدة من الطيور، وسعى إلى التقاط الصفات الأساسية لها - "سرعتها، وقوتها ورشاقتها، غالبًا ما يقارن حماد بين الأشكال وصفاتها المتنوعة، باستخدام حركتها ووضعها الموحى برؤى رمزية خاصة به. لقد شكلت جزءًا كبيرًا من عمل حماد في معظم حياته المهنية. بدءًا من منحوتات الطيور المسالمة كالحمام حتى الطيور الجارحة القوية كالصقور والنسور، كانت اختلافاته العديدة هي التي تضمنت معالجاته الأكثر تميزا لهذا الموضوع. في هذه الأعمال بشكل مكثف، يهتم حماد بالسمات الجسدية للطائر، ويركز على التقاط "جوهرالطيران" من خلال الأشكال الطويلة التي توحي بحركة الطائرالسريعة والصاعدة.
البساطة ليست غاية فى أعمال الفنان ، لكنه يصل إلى البساطة عندما يقترب من المعنى الحقيقي للأشياء، والتفكير الرمزي القائم على مبدأ أن أي شيء يمكن أن يكون شيئًا آخر في نفس اللحظة ويكون مرتبطا بالمعنى الجمالي، المعني بطريقة التعبير الإيحائي، يتطلب تكاملً التفسير الرمز، والكشف عن عمق المعنى وتفسيره .
ألزم صلاح حماد نفسه بفكرة أن ماهو عبقري بسيط أيضًا. ففى أعماله تجد هذا الإحساس الذى يأخذنا رغم تعبنا بروتين الحياة اليومى، ويحررنا لبعض الوقت حتى يكون لدينا مشاعر عالية من الأمل والتفاؤل والقدرة على المواجهة والتحدى، ونتحرك بين أعماله فى صمت التأمل، لنبحث عن جوهر الأعمال فى الترميزات الموحية التى ننتقل من خلالها الى الجوانب الغنائية لأعماله والتى بناها برؤى فلسفية لأفكاره. نستطيع أن نصل الى كل هذا حين نتخلى عن غرورنا ونتعمق فى تلك البساطة المركبة المأخوزة من الأفكار والرسائل العميقة التى تقودنا إلى البراءة والارتفاعات الروحية.
أن عمل الفنان مبنى على أساس فلسفي متين، مع وجود نظرية حقيقية معبرة جيدًا، مرتبطة بالإشارات الكامنة للطاقة وكيفية التعبير عنها فى العنصر الساكن من خلال تأكيد الحركة. هذه الجوانب المتنوعة من الإبداع الفني لحماد تتطلب دراسة عميقة ومعقدة لنحته والفلسفة التي يقوم عليها إبداعه. فمنحوتاته خالية من أى قيود تعتمد فى معظمها على الطاقة الكامنة فى الأعمال، لتعطى إشارات رمزية للتعبير عن حالة السكون وفعل الحركة المفترضة التى تأخذنا الى تأمل مولد هذه الحركة، بل وتحديد حجمها، والبحث فى القيم الفنية والتجربة الجمالية ذات الخاصية المزدوجة
الأشكال الهندسية (التجريدية) أو الحيوية في منحوتاته ترتبط بالمشاعر الفنية والتجربة الجمالية بخاصية مزدوجة. من ناحية أنه لديه ميل الى التجريد، ومن ناحية أخرى غريزية. لذلك يجب أن نكون تحليليين عند النظر الى فلسفة حماد حتى نتمكن من فك رموز رسالة أشكاله الفنية، وحتى نتمكن من الوصول الى مفاتيح فنه.
--------------------------
بقلم: د سامى البلشى
