29 - 03 - 2024

نرفع سعر الفائدة ونخفض الجنيه أم توجد حلول أخرى؟

نرفع سعر الفائدة ونخفض الجنيه أم توجد حلول أخرى؟

تبدو ردود الأفعال على رفع سعر الفائدة على الدولار بمقدار نصف نقطة مئوية لتصل إلى 1% مبالغا فيها للغاية. وهناك توقعات تشير إلى أن البنك المركزي المصري يمكن أن يخفض سعر صرف الجنيه المصري مجددا. ولو حدث ذلك فإنه سيكون إجراء غير منطقي، بل إن التخفيض الأخير بنسبة 15% لم يكن منطقيا وساهم في الارتفاع الكبير الحادث حاليا في معدل التضخم. وللعلم فإن سعر تعادل القوى الشرائية بين الدولار والجنيه المصري هو دولار واحد= 4,65 جنيه حاليا وفقا لقاعدة بيانات تقرير صندوق النقد الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في أبريل 2022 (IMF, World Economic Outlook Database, April 2022. ). يعني كفاية تخفيض لسعر صرف الجنيه مقابل الدولار لأنه بالغ التدني عن قيمته الحقيقية أصلا، ولأن أي تخفيض يتبعه ارتفاع في أسعار السلع المستوردة والسلع المحلية التي تستخدم مكونات مستوردة، ثم كل السلع والخدمات، بما يخفض القدرة الشرائية للأجور ويخفض الدخول الحقيقية للفقراء والطبقة الوسطى، ويدفع بشرائح جديدة لهوة الفقر، وأعتقد أن الحكمة وضرورات الاستقرار السياسي تقتضي تفادي المزيد من الإفقار للفقراء والطبقة الوسطى. وصحيح أن أي تخفيض لسعر صرف الجنيه وما يعقبه من موجة تضخمية  يؤدي إلى تقليل نسبة الديون المحلية إلى الناتج المحلي الإجمالي بعد الزيادة الكبيرة التي تحدث للأخير بالأسعار الجارية لأسباب تضخمية وليس نتيجة زيادة الإنتاج كمياً، إلا أن هذا الانخفاض في نسبة الديون للناتج هو نتيجة لعبة نقدية-مالية وليس نتيجة كفاءة، ويمكن استخدامه في الدعاية الإيجابية للحكومة، لكن لا ينبغي للحكومة أن تخدع نفسها وتتصور أنها قامت بإنجاز لأنه غير حقيقي. 

أما المبرر الدائم الخاص بأن تخفيض سعر صرف الجنيه سيؤدي لتقليص الواردات التي يرتفع سعرها بالعملة المحلية، وتنشيط الصادرات التي ينخفض سعرها بالعملات الأجنبية بما يؤدي في النهاية إلى تحسين الميزان التجاري كهدف أعلى، فإنه مجرد وهم في الظروف المصرية! ولننظر لنتائج التخفيض الكبير لسعر صرف الجنيه المصري في نوفمبر 2016، حيث تشير البيانات إلى أن العجز في تجارة السلع غير البترولية بلغ -35,1 مليار دولار عام 2015/2016 أي قبل تخفيض سعر الصرف، وانخفض إلى - 31,9 مليار دولار عام 2016/2017 نتيجة جمود الأعمال وتباطؤ الاقتصاد بعد تخفيض سعر الصرف وارتفاع معدل التضخم. وارتفع إلى 33,6 مليار دولار عام 2017/2018 وسجل نحو 38 مليار دولار عام 2018/2019، وتراجع في ذروة وباء كورونا إلى 36 مليار دولار عام 2019/2020، ثم ارتفع بقوة إلى 42,1 مليار دولار عام 2020/2021. 

وكما هو واضح فإن التخفيض لم يحقق المستهدف منه على صعيد التجارة السلعية لأننا ببساطة ليس لدينا قاعدة إنتاجية قادرة على التوسع في التصدير بالاستفادة من تخفيض سعر الصرف، خاصة في ظل تركيز الاستثمارات العامة على البنية الأساسية، وضآلة الاستثمارات الخاصة المحلية بسبب المخاوف من المخاطر غير الاقتصادية على غرار ما يحدث مع مالك رئيسي من ملاك شركة جهينة وغيرها، وبسبب التوسع في الإسناد المباشر، وعدم عدالة بيئة الأعمال في الاقتصاد المدني في ظل قانون الضرائب الذي صدر في عهد مبارك والذي أعده وزيري ماليته واستثماره آنذاك والذي يعفي شركات جهاز الخدمة الوطنية من الضرائب في نشاطاتها الاقتصادية المدنية بما يمكنها من الفوز في أي مناقصة تدخل فيها في النشاط الاقتصادي المدني حتى في حالة عدم إسناد الأعمال إليها بصورة مباشرة، أي أن القطاع الخاص بكل أحجامه ليس لديه أمل في هذا الوضع، وأقصى ما يمكنه الحصول عليه هو عقود العمل كمقاول من الباطن. 

وكان طبيعيا في ظل هذا الوضع أن ينكمش القطاع الخاص غير النفطي للشهر الـ 17 على التوالي. وكان طبيعيا أيضا أن يكون معدل الاستثمار في مصر بين الأدنى في العالم، حيث تشير البيانات الرسمية إلى أنه بلغ 13,7%، 12,3% في عامي 2019/2020، 2020/2021 على التوالي علما بأن المتوسط العالمي يبلغ نحو 22%، بينما يدور المتوسط في الدول متوسطة الدخل التي تعد مصر واحدة منها حول مستوى 30% من الناتج المحلي الإجمالي.

وحتى قطاع الخدمات وبالأساس الخدمات السياحية التي يوجد لدى مصر بنية متميزة فيه يرتبط بالظروف الخارجية ويتذبذب الفائض المتحقق فيه كالبندول. وقد أسفر ميزان تجارة الخدمات عن فائض قدره 10743 مليون دولار عام 2014/2015، وانخفض بعد سقوط الطائرة الروسية في سيناء في نهاية أكتوبر 2015 إلى 6533 مليون دولار عام 2015/2016 قبل التعويم والتخفيض الكبير لسعر صرف الجنيه المصري، وتراجع ذلك الفائض إلى 5614 مليون دولار عام 2016/2017، وارتفع بقوة إلى 11122 مليون دولار عام 2017/2018، وواصل الارتفاع ليبلغ 13037 مليون دولار عام 2018/2019، وتراجع بقوة بعد بدء أزمة كورونا ليبلغ 8973 مليون دولار عام 2019/2020، وواصل التراجع بقوة ليبلغ 5119 مليون دولار عام 2020/2021، أي أقل كثيرا من مستواه قبل التعويم والتخفيض الكبير عام 2016.

ويمكن القول إجمالا أن مصر لا تحتاج للمزيد من تخفيض الجنيه مقابل الدولار لإصلاح الميزان التجاري، بل تحتاج لضبط وترشيد الواردات، وإصلاح قانون الضرائب غير العادل كأساس لإصلاح بيئة الاستثمار، وتجميد الخطط الخاصة بالتوسع في مشروعات البنية الأساسية التي حدث فيها تطور لافت وكافي في الظروف الحالية، والتركيز بدلا من ذلك على المشروعات الإنتاجية للإحلال محل الواردات في دورة متكاملة من السلع الاستهلاكية والوسيطة والرأسمالية. كما أن مصر تحتاج لأن تعطي السلطات النقدية المصرية الثقة للأسواق بإعلان صريح بأن الجنيه لن يتم تخفيضه مقابل الدولار مجددا لفترة عام على الأقل، وعندها لن يكون هناك أي مبرر للتحول نحو الدولار، بل على العكس سيكون هناك تحول من الودائع الدولارية إلى الإيداع بالجنيه المصري للاستفادة من الفائدة الأعلى عليه خلال فترة ثبات سعر صرفه.

أما فيما يتعلق برفع سعر الفائدة الذي تشير التوقعات إلى أن البنك المركزي المصري قد يقوم به بعد ارتفاع معدل التضخم لأكثر من 14% في الشهر الماضي (أبريل) بما جعل الفائدة الحقيقية سلبية (سعر الفائدة مطروحا منه معدل التضخم)، فإن مقتضيات العدل في التعامل مع المودعين وغالبيتهم الساحقة من القطاع العائلي، تتطلب هذا الرفع. 

لكن هذا الرفع الذي يمكن أن يشجع الادخار على حساب الاستهلاك بما يساعد على مكافحة التضخم، سوف يؤثر سلبيا على الاستثمار المباشر، وعلى الاستثمار في الأوراق المالية (البورصة). والاستثمار المباشر بالذات حاسم في تحريك النمو الاقتصادي والتشغيل، ومعدل الاستثمار الدال عليه في مصر يعتبر واحدا من أدنى معدلات الاستثمار في العالم حاليا كما ورد آنفا.وفي ظل هذه الإشكالية فإنه على الدولة أن تبحث عن مكافحة التضخم من خلال وسائل أخرى لضبط الأسعار في الأجل القصير وتفعيل دورها كتاجر مرجح لضبط الأسواق وتوفير السلع، ودعم السلع الأساسية. وعليها أن تقوم في الأجلين المتوسط والطويل  بتغيير استراتيجيتها التي تركز على استثمارات البنية الأساسية، إلى استراتيجية جديدة تركز على استنهاض إنتاج السلع من خلال القطاعات الإنتاجية في الصناعة التحويلية والزراعة بكل ما يتطلبه ذلك من تحسين بيئة الاستثمار وجعلها أكثر عدالة بتعديل قانوني الضرائب والأجور بحيث تكون هناك معدلات ضريبية واحدة ونظام أجور موحد يطبقان على كل من يعمل في الاقتصاد المدني سواء كان من القطاع العام المدني أو القطاع الخاص أو الشركات المنتمية لجهاز الخدمة الوطنية. 

وعليها أيضا أن تتبنى سلة سياسات اقتصادية كلية وسياسات مالية ونقدية مشجعة على هذا التحول. ومن المؤكد أن وفرة الإنتاج في حالة التركيز على تنمية القطاعين الصناعي والزراعي يمكن أن تؤدي لضبط الأسعار، فضلا عما تؤدي إليه من إنتاج سلع قابلة للتصدير لتحسين الميزان التجاري الذي تدهور بصورة منذرة بالخطر كما ورد آنفا. على السلطة ألا تستسهل حل أزماتها بالضرائب والرسوم التي تقصم ظهور المواطنين، أو بالدخول في سباق رفع الفائدة في مواجهة ارتفاع معدل التضخم بدلا من ضبط الأسواق واستنهاض النمو في القطاعات الإنتاجية. وعليها أيضا ألا تستسهل تخفيض سعر صرف الجنيه المصري خاصة وأن تعويمه وتخفيضه الكبير عام 2016 الذي عقدت عليه الحكومة الكثير من الآمال لمعالجة العجز في الميزان التجاري، قد خيب تلك الآمال وفقا لما تشير إليه البيانات الرسمية، وكل ما أنتجه ذلك التعويم وما ترتب عليه من تخفيض هائل في سعر صرف الجنيه هو التضخم الذي زاد الفقراء فقرا والأثرياء ثراء.
------------------------
بقلم: د. أحمد السيد النجار

مقالات اخرى للكاتب

من المقالة للاستقالة





اعلان