19 - 04 - 2024

رواد التنوير في الفكر المصري الحديث (4): "علي مبارك": مهندس التعليم والنهضة وباني "قلعة الأمل"

رواد التنوير في الفكر المصري الحديث (4):

- كان لا يكاد يستقر في وظيفة حتى يفاجأ بقرار إنهاء خدمته وإبعاده بلا سبب! حتى تولى زميله في بعثة الأنجال الحكم
- شيّد مدرسة العلوم ودار الكتب وسبق باتجاه تجديد المعارف و"تيقن" أن التعليم هو الصخرة الصلبة والثابتة للمدنيّة وبها يمكن مقاومة أذى الجهل والرجعية والجمود
- قاد مشروعا عمرانيا عظيما لتحويل القاهرة إلى مدينة عصرية حديثة، تشُق فيها الشوارع الواسعة والميادين وتمد بالمياه النظيفة وتضاء بمصابيح الغاز، ويمتليء قلب المدينة بتحف المعمار والمباني ذات الأبهة والجمال

في انقلابه الرجعي على صيغة المدنية والتنوير التي توجت مساعي "محمد علي" لتأسيس الدولة المصرية الحديثة، كان الخديوي "عباس الأول" حريصا على تشتيت طلاب البعثات العائدين من فرنسا، ومنهم أساتذة مدرسة الألسن، التي تحولت في عهد جده "محمد علي" إلى منارة للتمدين والاستنارة، فأغلق المدرسة ونفى مؤسسها "رفاعة رافع الطهطاوي" مديرا لمدرسة ابتدائية في السودان. وخلال السنوات الست التي قضاها "رفاعة" منفيّا لم يتسلل اليأس إلى عقله، وعندما عاد إلى مصر بعد رحيل "عباس" كان يحمل في حقيبته مخطوطة رواية فرنسية مترجمة نشرت سنة 1867 في بيروت للكاتب "فينلون" بعنوان: "وقائع الأفلاك في مغامرات تليماك"، قال عنها: "إن تعريب تليماك، بكل من في حماك، أو ليس إنه مشتمل على الحكايات النفائس، وفي ممالك أوربا وغيرها عليه مدار التعليم في المكاتب والمدارس، فإنه دون كل كتاب، مشحون بأركان الآداب، ومشتمل على ما به كسب أخلاق النفوس الملكية، وتدبير السياسات الملكية". 

في نفس الآونة كان هناك مبعوث آخر من أوائل المبعوثين لفرنسا يستعد للعودة إلى مصر، لم تكن بعثته اكتملت حسبما خُطط لها، لكن الخديوي "عباس" أرسل لإعادته مع زميلين متفوقيْن له، كان الثلاثة أوائل بعثتهم وأكثرهم تفوقا مما رشحهم لاستكمالها، وقال الطالب عن ذلك: "كان المرحوم إبراهيم باشا – وهو نجل "محمد علي" الأكبر – يود إقامتنا في العسكرية حتى نستوفي فوائدها ثم نسيح في الديار الأوروباوية لنشاهد الأعمال ونطبق العلم على العمل مع كشف حقائق أحوال تلك البلاد وأوضاعها وعادتها، وكان ذلك نعم المقصد، لكن الله أراد غير ما أراد وهو توفي إلى رحمة الله تعالى". 

عندما عاد المبعوث النابه لمصر وجد نفسه "خوجة" – أي مدّرسا – بمدرسة طرة التي كانت أحوالها تدهورت، لم يبق بها غير طلبة قلائل من متقدمي السن أزمنوا في تأخرهم الدراسي، وأراد الناظر الفرنسي "برنستو بك" تعزية الخوجة الجديد وزملائه فقال لهم: "أملي أن هذه الحالة لا تدوم وعما قليل تستقيم الأحوال، وعليّ وعليكم أن نقوم بواجب الامتثال، وآداء ما علينا". من نقطة الأمل تلك بدأ النابغة المستنير "علي باشا مبارك" خطوات مسيرته الشاقة في طريق بناء قلعة للأمل، بعد أن تيقن أن التعليم هو قلعة الاستنارة، الصخرة الصلبة والثابتة للمدنيّة، من خلالها يمكن للمصريين مقاومة أذى الجهل والرجعية والجمود.

البداية من التمرد

ولد "علي مبارك" سنة 1823م بقرية برنبال الجديدة التابعة للدقهلية لأب أزهري وأم لم تلد قبله سوى الإناث، فكان مولده فرحة للجميع وفق التقليد الذكوري القديم. لكنه مع تعلم للقراءة والكتابة وحفظ القرآن بدأ ذكاؤه الحاد يثير مخاوف وأحزان الجميع، فقد اتخذ نبوغه هيئة التمرد على أوضاع التعليم الديني المزرية آنذاك. 

عندما أصبح عمره 6 سنوات اضطر والده للارتحال إلى قرية "الحماديين" بالشرقية، هربا من تضييق محصلي ضرائب الأطيان على أسرته وتهديدهم له بالسجن والضرب بسبب الضرائب المنكسرة. ولما ارتاح والده من الشدائد بدأ تعليم ابنه بنفسه، قبل أن يسلمه لمعلم اسمه الشيخ "أحمد ابوخضر"، أقام الطفل في منزله ويقول عنه: "كنت لا أذهب إلى بيتنا إلا كل جمعة، ومن خوفي منه كنت لا أعود إليه فارغ اليد، فأقمت عنده نحو سنتين فختمت القرآن بداية، ثم لكثرة ضربه لي تركته وأبيت أن أذهب إليه بعد ذلك وجعلت أقرأ عند والدي". ولكثرة انشغال والده نسي الطفل ما حفظه، وقرر الوالد إرساله لشيخه من جديد، فانعقدت نية الفتى على الهرب، وبدت نيته فسببت فزعا لأمه وأخوته الذين سألوه عن مرغوبه في التعليم فاختار ألا يكون فقيها وأن يكون كاتبا. 

وكان لوالده صاحب من الكتّاب يقيم بقرية قريبة فأسلمه إليه، لكن الحال لم يكن أفضل: "دخلت بيته وخالطت عياله، فإذا هو مجمّل الظاهر فقير في بيته، وله ثلاث زوجات وعيال على قلة من الزاد، فكنت في أغلب أيامي أبيت طاويا من الجوع، وكان أغلب تعليمه إياي على قلته في البيت أمام نسائه، وكان خروجه إلى السرحة قليلا، وإذا خرج يستصحبني معه فلا أستفيد إلا خدمتي له ومع ذلك كان يؤذيني دائما". 

ذات يوم سأل الكاتب تلميذه الصبي أمام جماعة من الحضور عن ضرب الواحد في الواحد فقال باثنين، فضربه بمقلاة بُّن في رأسه وشجها ولامه الحاضرون. حينئذ نفذ الصبي نيته وهرب قاصدا المطرية بجهة المنزلة، لكنه يصاب في الطريق بالكوليرا، وعندما يصل إليه والده بعد أربعين يوما في قرية صان الحجر، يهرب الصبي إلى منية طريف، ومنها إلى قريته برنبال ملتحقا بأحد إخوته هناك: "ذهبوا كل مذهب في كيفية تربيتي وما يصنعون بي، وجعلوا يعرضون عليّ القراء والكتّاب فلم أقبل، وقلت إن المعلم لا أستفيد منه إلا الضرب، والكاتب لا يفيدني إلا الضياع والأذية ويستفيد مني الخدمة".

أخيرا يلحقه والده بكاتب من مسّاحي الأراضي، لكن لصغر سن الصبي وقلة خبرته يفشى سر أجرته التي يتلقاها فيطرده المسّاح. بعد نحو سنة يلحقه والده بعمل لدى مُحصّل في مأمورية أبي كبير، يقيم فيه الصبي ثلاثة أشهر: "وقد خلقت ثيابي وساء حالي ولم أقبض شيئا من الماهية إلا الأكل في بيته، ثم عينني يوما لقبص حاصل أبي كبير فقبضته وأمسكت عندي منه قدر ماهيتي وكتبت له علما بالواصل ووضعته في كيس النقدية"، وتصل عاقبة هذا التمرد بالطفل إلى سجن زمنه بأوضاعه المزرية: "فنادوني على حين غفلة وأمرني المأمور بالذهاب إلى السجن، وأحضروا بلشا من الحديد ووضعوه في رقبتي، وتُركت مسجونا فداخلني ما لا مزيد عليه من الخوف، فلبثت في السجن بضعا وعشرين يوما في أوساخ المسجونين وقاذوراتهم، وصرت أنتحب فرق لي السجان لصغر سني".

ريثما انتهت مساعي الأب للإفراج عنه اكتشف السجّان نجابة الصبي وحسن خطه، فألحقه بوظيفة كاتب لدى المأمور: "وكان يسمى عنبر أفندي، فنظرت إليه فإذا هو أسود حبشي كأنه عبد مملوك، لكنه سمح جليل مهيب، كنت أعرف من المشايخ الذين كانوا بين يديه جماعة من مشاهير البلاد أصحاب الثروة والخدم والحشم والعبيد، فاستغربت ما رأيته من وقوفهم بين يديه وامتثالهم أوامره، وكنت أعتقد أن الحكام لا يكونون إلا من الأتراك على حسب ما جرت به العادة في تلك الأزمان".

"هل يكون العبد حاكما؟!" هذا السؤال حيّر ذهن الصبي النابه، ولم تكن العبودية ألغيت من مصر بعد في تلك الآونة، وتساءل الصبي الذكي: "إن الكتابة والماهية كانت هي السبب في سجني ووضع الحديد في رقبتي، وقد وجدت هذا المأمور خلصني من ذلك، فلو فعل المأمور معي مثلما فعل الكاتب فمن يخلصني؟"، واختمرت الفكرة في ذهنه: "أود أن أكون بحالة لا ذل فيها ولا تخشى غوائلها". والطريق الذي انفتح أمامه من جراء اسئلته المتمردة كان الالتحاق بالمدارس التي يتخرج منها أمثال المأمور، وتكلّف تحقيقه لطموحه الجديد مرحلة أخرى من المعاناة في مواجهة معارضة والده وأسرته، وطائفة من المغامرات وضعته على شفا الموت جوعا ومرضا، قبل أن يصبح أخيرا تلميذا في مدرسة "القصر العيني".

التعليم انحطاطا وتفوقا

يقول "علي مبارك" عن المدارس: "وجدت المدارس على خلاف ما كنت أظن، بل بسبب تجدد أمرها (حداثتها) كانت واجبات الوظائف مجهولة فيها، والتربية والتعليم غير معتنى بهما، بل كان جل اعتنائهم بتعليم المشي العسكري، فكان ذلك في وقت الصبح والظهر وبعد الأكل وفي أماكن النوم، وكان جميع المتكلمين على التلامذة يؤذونهم بالضرب وأنواع السب والإهانة من غير حساب ولا حرج". من مدرسة "قصر العيني" عندما تحولت لمدرسة الطب انتقل التلميذ لمدرسة أبي زعبل، هناك اكتشف الخوجة "إبراهيم بك رأفت" نبوغ تلميذه المتأخر دراسيا بسبب أساليب التعليم القاسية، وانجلى ذكاء عقل التلميذ على يدي أستاذه، بعد أن طهره من عوالق السحر والخرافة الملتصقة بمعارف القرون الوسطى وأكسبه القدرة على التفكير العلمي: "ففي أول درس ألقاه علينا أفصح عن الغرض المقصود من الهندسة، بمعنى واضح وألفاظ وجيزة، وبيّن أهمية الحدود والتعريفات الموضوعة في أوائل الفنون، وأن هذه الحروف التي اصطلح عليها إنما تستعمل في أسماء الأشكال وأجزائها كاستعمال الأسماء للأشخاص، فكما أن الإنسان له أن يختار لابنه ما شاء من الأسماء، كذلك المعبّر عن الأشكال له أن يختار لها ما شاء من الحروف"، "كان رأفت بك يضرب بي المثل ويجعل نجابتي على يديه برهانا على سوء تعليم المعلمين وأن سوء التعليم هو السبب في تأخر التلامذة". 

في تلك السنة اجتاز التلميذ النجيب اختبار مدرسة المهندسخانة ببولاق والتحق بها. ومن دروس الجبر والميكانيكا والديناميكا والهيدروليكا والطوبوغرافية والكيمياء والطبيعة والفلك التي اجتازها بتفوق باهر، ترشح للسفر إلى فرنسا في بعثة اشتهرت باسم "بعثة الأنجال"، ذلك أنها ضمت عددا من أبناء وأحفاد "محمد علي" أو "عزيز مصر" كما يلقبه "علي مبارك". وكانت أول عقبة تعليمية يجتازها في فرنسا عقبة تعلم اللغة الفرنسية: "أمر المعلمون أن يلقوا الدروس للجميع باللغة الفرنساوية لا فرق بين من يفهم تلك اللغة ومن لا يفهمها، ففعلوا وأحالوا غير العارفين بها على العارفين ليتعلموا منهم، فكان العارفون باللغة يبخلون علينا بالتعليم لينفردوا بالتقدم، فمكثنا مدة لا نفهم شيئا من الدروس، وشكونا فلم يصغ لشكوانا، ومن يخالف يرسل إلى مصر مجددا، وبذلت جهدي، فسألت عن كتب الأطفال فنبئوني عن كتاب فاشتريته واشتغلت بحفظه، وشمرت عن ساعد جدي في الحفظ والمطالعة، ولزمت السهاد وحرمت الرقاد، فكنت لا أنام من الليل إلا قليلا حتى كان ذلك ديدنا لي إلى الآن". 

وعندما يزور "إبراهيم باشا" النجل الأكبر لعزيز مصر و"سر عسكر الديار المصرية" – أي قائد الجيش المصري – مدينة باريس، يحضر بنفسه امتحان طلاب البعثة، وفي صحبته "سر عسكر الديار الفرنساوية وابن ملكهم وأعيان فرانسا وجملة من مشاهير النساء الكبار". يصافح "إبراهيم باشا" الطلبة المتفوقين ومنهم "علي مبارك"، ويسلّمه جائزة تفوقه "نسخة من كتاب جغرافيا مالطبرون الفرنساوي بإطلسها"، وهو الكتاب الذي عكف "الطهطاوي" وكبار تلامذة مدرسة الألسن على ترجمته في مصر.  

مزيد من المعاناة

بعد عودته إلى مصر بأمر الخديوي استطاع "علي مبارك" أن يثبت تفوقه بعد أن عمل فترة بالتدريس، ليعهد إليه قائد الجيش المصري "سليمان بك الفرنساوي" بأعمال مسحية وإنشائية أثبت بها تفوق معارفه الهندسية. وهو ما أهلّه لأن يلتحق بحاشية عباس الأول ليشرف على امتحان المهندسين وصيانة القناطر الخيرية وغيرها من الأعمال، رغم أنه يقول: "كنت أعلم مما كان يقع لمن يلوذ بالعائلة الخديوية من الإيذاء وكان لي اجتماعات بالخديوي إسماعيل وغيره منهم"!. 

عندما عُرض على "عباس الأول" مشروع لتنظيم المدارس تبلغ ميزانيته مائة ألف جنيه استكثر ذلك، وأحال المشروع إلى "علي مبارك"، مكلفا إياه بإدارة ناظر واحد وإلغاء مدرسة الرصدخانة (الفلك) لعدم وجود من يقوم بإدارتها، وكانت خطة التطوير التي وضعها المطوّر المستنير مثيرة لإعجاب ودهشة الخديوي: "طلبني المرحوم عباس باشا وسألني عما أراه من نجاح هذا الترتيب وعدمه لدى العمل به، فقلت: هذا رأيي فإن أحسن مديره إدارته وأجراه على فهم منه وبصيرة نجح، وإلا فلا، فإن الساعة المضبوطة الدقيقة الصنعة يفسدها من لا يحسن إدارتها من جاهل أو مفرط، وتدوم على حالها إذا كانت بيد من يحسن إدارتها، فعجب من جرأتي واستحسن جوابي".

يتولى "علي مبارك" نظارة ديوان المدارس ليبدأ خطة إصلاح شامل لأوضاع التعليم بها: "في مدة نظارتي كنت أباشر تأليف كتب المدارس بنفسي مع بعض المعلمين، وجعلت بها مطبعة حروف ومطبعة حجر، طبع فيها للمدارس الحربية والآلايات الجهادية (كتائب الجيش) نحو ستين ألف نسخة من كتب متنوعة، غير ما طبع في كل فن بمطبعة الحجر للمهندسخانة وملحقاتها، من الكتب ذات الأطالس والرسومات وغيرها مما لم يسبق له طبع، واستعملت في رسم أشكالها وأطالسها التلامذة لا غير، وقد حصل منها الفوائد الجمة العمومية. وكل ذلك لا يشغلني عن التفاني للتلامذة في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وتعليمهم وغير ذلك، وكنت أباشر ذلك بنفسي حتى أعلم التلميذ كيف يلبس وكيف يقرأ وكيف يكتب، وألاحظ المعلم كيف يلقي الدرس وكيف يؤدب التلامذة، ونجب كثير من التلامذة وقاموا بمصالح كثيرة وحصل منهم النفع العظيم، وترقى جمع منهم إلى الرتب العالية وشاع الثناء عليهم في المعارف والآداب، وشهدت لهم بالفضل أعمالهم المهمة التي أجروها". 

في سنة 1854 يرحل عباس ويتولى الخديوي سعيد، ليجد "مبارك" نفسه معزولا من وظيفته بسبب الوشاية به من طريق بعض المفسدين، يلتحق بدلا منها بالقوات المصرية المسافرة لحرب القرم بين تركيا وروسيا، وتستمر المهمة لعامين ونصف يصمد لها "مبارك" ببراعة وكفاءة، يتولى الإشراف على الشؤون الإدارية للقوات العثمانية المحاربة، ويقيم بالجهود الذاتية مستشفى لعلاج الأمراض المتفشية بين الجنود بسبب سوء الأحوال الجوية والمعيشية، ويتعلم في أثناء ذلك اللغة التركية ويجيدها كأبنائها. وعندما تنتهي الحرب يعود لمصر لكن المحنة تستمر ليجد "علي مبارك" قرار انهاء خدمته في انتظاره مسرحا من الميدان كباقي الجنود بأمر الخديوي "سعيد"!.

عودة إلى برنبال

بعد فصله يعتزم الرجوع لبلدته برنبال والاشتغال بالزراعة ويقول: "كانت حالتي بعد سبع سنين مضت من عودي من بلاد أوروبا كحالتي عند عودي منها، وذهب ما رأيته من الأموال والمناصب والوظائف وجميع ما كسبت يداي، وعزمت على الرجوع إلى بلدي والإقامة بالريف والاشتغال بالزرع والتعيش من جانبه وترك الاشتغال بالقيل والقال، وقلت: عوضنا الله خيرا في نتائج الفكر وتراث المعارف، ولنفرض أنّا ما فارقنا البلد ولا خرجنا منها". لكن أمرا بإعادته للخدمة في ديوان الجهادية يصدر فجأة ليعود ويتقلب في عدة وظائف مدنية، لا يكاد يستقر في وظيفة حتى يفاجأ بقرار إنهاء خدمته وإبعاده بلا سبب!. وحين احتاج الخديوي "سعيد" لمن يعلم الضباط وصّف الضباط المصريين القراءة والكتابة، يُسأل "علي مبارك" عمن يرشحه من تلامذته لهذه الوظيفة، ليفاجيء السائل بأن "ناظر ديوان المدارس" السابق يرشح نفسه لها فيظن أنه يمزح، لكن المستنير العظيم يعاجله بالقول: "وكيف لا أرغب انتهاز فرصة تعليم أبناء الوطن وبث فوائد العلوم؟، فقد كنا مبتدئين نتعلم الهجاء، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه". يعود الرائد العظيم لممارسة فن التعليم الذي يعشقه: "كنت أذهب إليهم في خيامهم، وتارة يكون التعليم بتخطيط الحروف على الأرض، وتارة بالفحم على بلاط المحلات، حتى صار لبعضهم إلمام بالخط، وعرفوا قواعد الحساب الأساسية، فجعلت نجباءهم عرفاء استعنت بهم على تعليم الآخرين، فازداد التعليم واتسعت دائرته، واستعملت لهم في تعليم مهمات القواعد الهندسية اللازمة للعساكر الحبل والعصا لا غير، فكان يثبت في أذهانهم حتى أن بعضهم كان يجريه أمامي في الحال بلا صعوبة، ووضعت في ذلك كتابا مختصرا". وفي سنة 1862: "لما رام المرحوم سعيد باشا التوجه إلى بلاد أوروبا أمر برفت غالب من كان في معيته فكنت في جملة المرفوتين"!.

عندها يودع أحلامه مشتغلا بالتجارة: "لما تقرر عندي من اضطراب الأحوال وتقلبات الأمور التي كادت أن تذهب مني ثمرات المعارف والأسفار، بحيث كلما تقدمت في العمر وكثرت العيال كنت أرى التقهقر ونفاد ما استحوذت عليه فآثرت حرفة التجارة. وبينما هو "في حوالك هذه الأحوال يروم التخلص من تلك الأوحال" يتوفى "سعيد باشا" في سنة 1863 ويتولى زميل "علي مبارك" في بعثة الأنجال الحكم.

فارس النهضة المصرية

فور جلوسه يستدعي الخديوي "اسماعيل" زميله السابق في البعثة المعروف بنبوغه، عهد إليه بنظارة القناطر الخيرية وحل مشكلاتها، وينجح "علي مبارك" لتتدفق المياه من جديد في فرع النيل الشرقي وتحيي أرضه وزراعاته، فيكافئه الخديوي بـ 300 فدان منحة لإنجازه. ثم يعهد إليه بقيادة مشروعه العمراني العظيم الذي حوّل القاهرة إلى مدينة عصرية حديثة، شُقت فيها الشوارع الواسعة وأنشئت الميادين، ومدت بالمياه النظيفة وأضيئت بمصابيح الغاز، امتلأ قلب المدينة بتحف المعمار والمباني ذات الأبهة والجمال، ولايزال قلبها الحافل بالمعمار المتحفي شاهدا على براعة "علي مبارك" وحسن تخطيطه.

يكلفه الخديوي كذلك بتمثيل مصر في النزاع بينه وبين شركة قناة السويس فينجح في فض النزاع ويكرم لذلك من طرف الحكومتين المصرية والفرنسية، ثم يعهد إليه بالإشراف على تنظيم الاحتفال التاريخي بافتتاح قناة السويس، ويضم إليه ديوان الأشغال العمومية وإدارة مشروع السكك الحديدية الذي كان مفخرة مصر في الشرق والغرب، بالإضافة لنظارة الأوقاف، ومع ظهور الوزارات في مصر يتولى "علي مبارك" ثلاث وزارات: الأوقاف والمعارف والأشغال العمومية.

خلال ذلك يتم الرائد العظيم إنجازيه الكبيرين في تاريخ الاستنارة المصرية، أولهما: إنشاء مدرسة "دار العلوم" التي كانت أول جبر مؤسسي لعثرة النهضة المصرية المتقدمة ماديا وعمرانيا والمتأخرة ثقافيا وعقليا، مستبقا بها خطط إصلاح الأزهر التي نفذت في زمن الرئيس "جمال عبدالناصر" بقرن كامل، ويقول عنها: "وحيث كان أهم ما يلزم للدارس الاستحصال على معلمين مستعدين للقيام بسائر وظائف التعليم، أمعنت النظر في هذا الأمر المهم واستحدثت مدرسة العلوم بعد استصدار الأمر بها، وجعلتها خاصة لطلبة بقدر الكفاية، يؤخذون من الجامع الأزهر ليتعلموا بهذه المدرسة بعض الفنون المفقودة من الأزهر مثل الحساب والهندسة والطبيعة والجغرافيا والتاريخ".

أما إنجازه الثاني الكبير فكان تأسيس صرح دار الكتب المصرية وقال عنه: "لم يكن بمصر دار كتب جامعة عامة، يرجع إليها المعلمون للاستعانة على التعليم كما في مدارس البلاد الأجنبية، وقد كان الخديوي إسماعيل يرغب في إنشاء كتبخانة عمومية تجمع الكتب المتفرقة في الجهات الميرية وجهات الأوقاف في المساجد ونحوها، وأمرني بالنظر في ذلك، فوصفت له المحل الذي أنشأ، ونظمت لها لائحة صار نشرها يؤذن بإباحة الانتفاع بها للطالبين وسهولة التناول للراغبين، مع الصيانة لها وعدم التفريط فيها، فجاءت بحمد الله من أنفع الإنشاءات".
----------------------------
بقلم: عصام الزهيري
الحلقات السابقة
"عبدالرحمن الجبرتي" .. معمم فتحت الحملة الفرنسية عيونه على الحضارة الحديثة
"حسن العطّار": شيخ الأزهر الذي درّس الممنوعات وربّى المفكرين العظام
"رفاعة الطهطاوي": مصباح أضاء ربوع مصر وأقال بكفاحه عثرة نهضتها الحديثة

من المشهد الأسبوعي






اعلان