26 - 04 - 2024

قراءة في كتاب لليساري البريطاني جون روز: أساطير "المنفى" تنجح في نفي شعب كامل من أرضه!

قراءة في كتاب لليساري البريطاني جون روز:  أساطير

"الهولوكوست" لا يبرر اختلاق دولة قائمة على الإقصاء العنيف للفلسطينيين من ديارهم
- بلفور كانت تحركه نزعة "معاداة السامية" ووزارة الحرب البريطانية حركها معتقد أن القوة اليهودية ستساعد على تقوية مركز الحلفاء في الحرب ضد ألمانيا
- الزعماء الصهاينة كانوا على استعداد تام لأن يقولوا للسياسيين الأوروبيين "في بلادكم يهود أكثر مما ينبغي"؟ ساعدونا على التخلص منهم إلى فلسطين

ينقض الكاتب اليساري اليهودي البريطاني جون روز في كتابه "أساطير الصهيونية" الدعامات والأسس التاريخية والسياسية التي بني عليها المشروع الصهيوني، من خلال تفنيد أساطيره وكشف خرافاته، حيث يقدم رؤية نقدية تحليلية لجذور الصهيونية ويكشف عوارها وكذبها وتحريفها وتشويهها للحقائق، مؤكدا أن الصهيونية مبنية على سلسلة من الأساطير أو مجموعة من المفاهيم الزائفة التي تقوض مزاعمها عن الديانة اليهودية والتاريخ اليهودي، كما أن أساسها الجوهري – جاء استجابة لنزعة معاداة السامية الأوروبية - فضلًا عن تبريرها لوضعها السياسي العدواني، وهو أمر بالغ الخطورة في أرض فلسطين.

وتتعامل فصول الكتاب الذي ترجمه المؤرخ د.قاسم عبده قاسم وصدر عن دار صفصافة في طبعة مزيدة منقحة، بشكل مباشر مع الأساطير، عبر الرد على مزاعم محددة اصطنعتها الأيديولوچيات الصهيونية، وعلى المعتقدات واسعة الانتشار التي صارت جزءًا من الفولكلور الصهيوني.

يفول جون روز إن فكرة كتابه نشأت للمرة الأولى صيف 2002، في أعقاب ملاحظات عنصرية صفيقة أطلقها رئيس الوزراء السابق إيهود باراك من حزب العمل الإسرائيلي، عندما زعم أن "الكذب" جزء جوهري في الثقافة العربية". انعكس هذا الانفجار العاطفي غير العادي بشكل غاية في السوء على باراك، وربما يشي بشيء مماثل عن العملية النفسية التي تسمى "الإسقاط"، ألم يكن يسقط على عدوه كشفًا عن أفكاره السياسية الخاصة ومعتقداته المدفونة في أعماق نظامه العقلي؟ المؤكد أن الفلسطينيين يرون من خلال تجربتهم أن الصهيونية عبارة عن صرح من الأكاذيب. خُذ مثالًا بسيطًا، عندما كان باراك رئيسًا للوزراء، كان عدد المستوطنات اليهودية "غير القانونية" في الضفة الغربية قد تزايد، على الرغم من التزامه المفترض بـ"عملية السلام". والسياسيون الصهاينة أمثال باراك يدثرون ادعاءاتهم حول الضفة الغربية بعباءة الأسطورة الدينية، ويستشهدون بحكايات الكتاب المقدس عن "أرض إسرائيل القديمة". وعلى أي حال، فإنه بالنسبة للفلسطينيين الذين عاشت عائلاتهم على هذه الأرض الفلسطينية وزرعوها على مدى الأجيال، تبدو هذه الأسطورة كذبة ضخمة، لتبرير سرقة أرضهم. 

ويوضح "ما الذي يميز كذبة عن أسطورة؟ الكذبة تعني "بيان زائف عمدًا"، "خداع متعمد"، على حين أن الأسطورة مفهوم "ذائع الانتشار ولكنه مزيف"، دون أن يكون فيه خداع متعمد بالضرورة. ولكن إذا جربت مجموعة من الناس الظلم والاضطهاد نتيجة لأسطورة الزيف، فمن المؤكد أنه لا يهم بالنسبة لهم ما إذا كان الزيف خداعًا عمدًا في أصله. لقد ساعد أعظم صناع الأساطير الصهيونية، داڤيد بن جوريون، دون قصد في تشكيل أول وآخر فصول الكتاب. هذا المزور للحقائق كان أول رئيس وزراء إسرائيلي وأكثر زعماء الصهيونية نجاحًا في القرن العشرين. بن جوريون تباهى مرة بأن الأسطورة يمكن أن تصبح حقيقة إذا آمن الناس بها بما يكفي من القوة. وقد استخدم بحذق ومهارة، خفة اليد الثقافية، لكي يتلاعب باحتراف بقصص الكتاب المقدس، بحيث تناسب المزاعم السياسية للصهيونية على الأرض الفلسطينية".

يفند جون روز في الفصل الأول استخدام بن جوريون الفاحش جدًّا للأساطير الدينية، وبالتحديد أسطورة أن الكتاب المقدس "فوضه أمر" إعلان دولة يهودية في فلسطين. ويوضح الفصل مع تطور الطرح المقدم فيه، كيف أن علم الآثار الإسرائيلية الآن قلل من مصداقية المزاعم الصهيونية حول "إسرائيل القديمة"، والفصل العاشر يوضح كيف أن بن جوريون دمر أي احتمالات لمصالحة عربية - إسرائيلية. إذ إنه خرب المحادثات السرية مع عبد الناصر، الذي كان أهم زعيم قومي عربي في القرن العشرين، والذي كان يسعى إلى سلام مشرف مع إسرائيل. ذلك أن "تنظيم الضباط الأحرار"، بما فيه ناصر، الذي قاد ثورة مصر الوطنية في 1952م، كان قد قطع شوطًا كبيرًا لبناء جسور مع المجتمع اليهودي في البلاد. ويشير سلوك بن جوريون هنا إلى أهم استنتاج في الكتاب، بأن الصهيونية هي مصدر العداوة العربية - اليهودية، وتعتمد أي احتمالات للمصالحة العربية - اليهودية على إزاحتها.

ويرى أن فكرة المصالحة "العربية – اليهودية" تتطلب سؤالًا حيويًّا حول تجاهل تاريخ آخرَ أسبق زمنًا. إذ إن انتشار الإسلام، قبل ما يزيد على ألف وثلاثمئة سنة، بشر بما أسماه العديد من الباحثين "التعايش" بين العرب واليهود مما أنتج ثقافة عربية - يهودية، أو حتى ثقافة يهودية - إسلامية، وليس مجرد ثقافة يهودية باللغة العربية. بل إن من المحتمل أن طبقة التجار اليهودية فائقة الحركة -التي تولت زمام قيادة اليهودية في أوروبا خلال العصور الوسطى وساعدت على وجود فترات آمنة من ازدهار واستقرار اليهود في تاريخ أوروبا القديم كانت جذورها، جزئيًّا على الأقل، تضرب في هذه الفترة الإسلامية اليهودية المبكرة. ومن المؤكد أن هذه كانت وجهة نظر أبرز باحثي القرن العشرين في التاريخ العربي اليهودي، البروفيسور س. د. جوبتين.

ويتساءل جون روز: ما علاقة هذا بتفنيد أساطير اليهودية؟ هناك إجابتان مختلفتان تمامًا. أولاهما: أن الصهيونية تتجاهل المكون العربي الإسلامي في التاريخ اليهودي. وثانيهما: أن الصهيونية لا ترى سوى "المعاناة" اليهودية خلال ما يسمى "النفي"، لا سيما في أوروبا. وأسطورة"النفي" لها سخافتها المخصوصة، وقد سيستها الصهيونية عندما جلبتها من قصص الكتاب المقدس. وهي تشير إلى ما يقرب من ألفي سنة من التاريخ اليهودي من هدم المعبد في القدس على أيدي الجيش الروماني سنة 70م، حتى مولد إسرائيل في سنة 1948م. ويعتبر أن اليهود الذين كانوا يعيشون خارج فلسطين في هذه الفترة عاشوا في "المنفى". 

لا يبدو التعايش العربي - اليهودي نوعًا من "النفي" بأي حال. والحقيقة أن اليهود كانوا قد استوطنوا منطقة الهلال الخصيب (التي حولت بريطانيا جزءًا كبيرًا منها إلى العراق في بدايات القرن العشرين)، لا سيّما المنطقة المحيطة بمدينة بابل القديمة، قبل عدة قرون مما يُسمى النفي. وإلى هذا اليوم يتحدث اليهود الإيرانيون والعراقيون بفخر عن تاريخ متواصل على مدى 2500 سنة. والتلمود البابلي، الذي بقي المرشد الروحي لكل اليهود المتدينين، ومنهم اليهود الأوروبيون، هو في حد ذاته شهادة على أهمية هذه الجماعات اليهودية. وبعد انتشار الإسلام، حلت بغداد محل بابل باعتبارها المركز الروحي لكل الجماعات اليهودية، بما في ذلك الجماعات اليهودية الصغيرة جدًّا، في ذلك الوقت، بأوروبا.

ويتحدى جون روز أساطير "المنفى" و"المعاناة" في الفصلين الثاني والثالث، ففي الثاني يكشف كيف أنه في وقت سقوط المعبد بالقدس، منذ نحو 2000 سنة، كان معظم اليهود يعيشون خارج فلسطين، مبعثرين في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية وما وراءها، ولم تكن بابل استثناءً في ذلك. أما الفصل الثالث فيرجع بروز طبقة التجار اليهودية، في أوروبا العصور الوسطى إلى أسطورة "المعاناة". ويشير "الآن لا يوجد شك في أن الدور الاقتصادي اليهودي في أوروبا العصور الوسطى كان يمكن أن يفاقم، بل ويحفز نزعة عداء السامية التقليدية في المسيحية. ولكن الصهيونية تحكي جانبًا واحدًا فقط من القصة. إذ كان الحكام المسيحيون على استعداد دائم لحماية رعاياهم اليهود الذين كانوا ناشطين اقتصاديًّا وفي غاية النجاح أحيانًا. وعلى أي حال، فإن الصهيونية تتخلص من المناقشة الجادة، دعك من التحليل، للدور الاقتصادي اليهودي في التاريخ الأوروبي الباكر".

ويتابع "هذا محض نفاق، إذ كان على الصهيونية أن تواجه الصورة غير المتوافقة زمنيًّا "للتاجر والمالي اليهودي" التي عاشت إلى ما بعد حركة التنوير الأوروبية بنفس الروح التي عمرت بها الحركات اليهودية الأخرى ، الأهم كثيرًا ، والتي خرجت من رحم التنوير والاندماجيين والاشتراكيين. و"شيلوك" الشخصية اليهودية المثيرة للجدل التي ابتدعها شكسبير، ينتمي بجذوره إلى هذا التاريخ اليهودي الأوروبي الباكر. 

إن حركة التنوير طرحت وعدًا بالاندماج، إذ إنها كانت إعلانًا عن حقوق جديدة للمواطنة والحريات في أوروبا وأمريكا، ليعيش اليهود جنبًا إلى جنب مع المسيحيين. وتضمن هذا التحرر من الدور الاقتصادي الضيق الذي كانت أوروبا المسيحية قبل العصر الحديث قد حاولت أن تفرضه على اليهود. وبدأت الثورة الأمريكية سنة 1776م، والثورة الفرنسية 1789م في تحويل الوعد إلى حقيقة سياسية عملية. وللأسف، فإن الثورة في الإمبراطورية الروسية حيث كانت تعيش غالبية اليهود - والتي بلغت ذروتها في بواكير القرن العشرين - قد أخفقت في الوفاء بذلك الوعد. وكشف الفصل السادس الخلفية التاريخية، ويبرهن على أن الجذور الحقيقية للصهيونية تكمن هناك.

ويكشف جون روز في الفصول: الخامس والسابع والتاسع الأثر المدمر العميق للصهيونية على العرب وأرضهم في فلسطين، حسبما ظهر أيضًا في العالم الحديث. ويفند الفصل الخامس النصف الأول من الأسطورة الصهيونية الشهيرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". ويفند الفصل السادس النصف الثاني منها. ويحاول الفصل الخامس أن يعيد الحياة للجماعات الفلاحية العربية في الأرض الخاوية بفلسطين قبل وصول الصهاينة في القرن التاسع عشر. ويكشف الفصل السابع والتاسع أسطورة أن مزاعم الصهيونية بشأن الاستقلال الوطني اليهودي والتحرير، يمكن مقارنتها بنضال الشعوب المقهورة في أماكن أخرى بالعالم في القرن العشرين. فالحقيقة أن الصهيونية مثلت حركة في الاتجاه المضاد. وبعد الحرب العالمية الأولى، ساعدت على تقوية الحكم الاستعماري البريطاني على العالم العربي. وبعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن الدولة اليهودية المختلقة حديثًا سوى رصيد استراتيجي لمخططات الولايات المتحدة الإمبريالية الجديدة للمنطقة العربية. وفي كلتا الحالتين، كانت الصهيونية معتمدة على القوى الإمبريالية الغربية تمامًا.

جذور عميقة لوعد بلفور

أيضا يكشف الفصل السابع كيف أن إعلان بلفور سنة 1917م، الذي مهد الطريق أمام الدولة اليهودية، له جذور أعمق مما يدرك معظم الناس. ذلك أن آرثر بلفور، الوزير البريطاني المحافظ الذي ارتبط الإعلان باسمه، كانت تحركه معتقدات معادية للسامية. ولم تنتقل عدوى معاداة السامية المنسوبة إليه إلى بقية وزارة داڤيد لويد الحربية فقط، وإنما أذعن إليها بسعادة الزعماء الصهاينة من أمثال حاييم وايزمان. وهذا يفضح جانبا من الصهيونية مزعج تمامًا، ومخفي عادة، وهو جانب نقابله أيضًا في الفصل السادس مع تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية، كان ذلك استعدادًا لدعم الآراء الأوروبية للسامية عن اليهود. ونقولها صريحة: "كان الزعماء الصهاينة على استعداد تام لأن يقولوا للسياسيين الأوروبيين الذين يتصرفون من منطلق رد الفعل "في بلادكم يهود أكثر مما ينبغي"؟ ساعدونا على التخلص منهم إلى فلسطين. ويناقش نفس كذلك الفصل زعمًا غير تقليدي، بأن الدافع الأساسي وراء إعلان بلفور كان اعتقاد وزارة الحرب البريطانية، بأن القوة اليهودية في أمريكا وروسيا سوف تساعد على تقوية مركز الحلفاء في الحرب ضد ألمانيا.

ويناقش جون روز فترة حكم الرئيس چورچ بوش الابن، حيث بدت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل معكوسة أحيانًا بشكل غريب، وبعيدًا عن أن إسرائيل تخدم مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ويتساءل: ألم تبدأ الولايات المتحدة في خدمة مصالح إسرائيل؟. ويضيف "يغلب على الظن أن اليهود الأمريكيين من المحافظين الجدد، في قلب إدارة بوش، كانوا مهندسي هذا الانقلاب في السياسة. ومن المؤكد أن لبعض هؤلاء المحافظين الجدد جذورًا تمتد إلى حزب الليكود المتعصب في إسرائيل (الحزب الحاكم وقت تأليف هذا الكتاب في صيف 2003م). وثمة عامل معقد يتمثل في أن هذه الزمرة القبيحة قد بعثت الحياة مجددًا في اتهام قديم بمعاداة السامية تستخدمه المؤامرة الصهيونية. ويحاول الفصل التاسع بعناية أن يفند الاتهام، وينظر إلى أي مدى انصاعت إدارة بوش للمحافظين الجدد.

ويخصص جون روز الفصل الثامن لأسطورة "الهولوكوست" أو ما يُسمى مذابح النازية ضد اليهود، لافتا إلى أن"الهولوكوست"يقدم حالة لا يمكن الرد عليها في الدفاع عن الصهيونية. فبينما لا يوجد شك في أن الهولوكوست يشكل إحدى أخطر الجرائم في التاريخ الإنساني فإن ذلك لا يبرر اختلاق دولة يهودية قائمة على أساس الإقصاء العنيف لشعب آخرَ من أرضه، وهو ما حدث بالضبط سنة 1948م. لقد كانت تلك لحظة فاصلة بالنسبة لكل من الصهيونية والفلسطينيين الذين يذكرونها باعتبارها نكبة. وبالإضافة إلى أن ما حدث هو أبعد ما يكون عن كونه رد فعل مشروع للهولوكوست، فإن الهولوكوست إذا ما تذكرناه بشكل صحيح هو نفسه يدين الأفعال التي تسحب الأساس الأخلاقي من أولئك الذين يستغلونه على هذا النحو".

ويحلل كتابات وتحليلات حول الهولوكوست، كاشفا أن الرفض الأيديولوجي الأعمى لفهم الحقائق السياسية للشعب الفلسطيني، له قدرة في حد ذاته على جعل الصهيونية حركة راديكالية، مما يغريها بتصرفات عنيفة أشد من ذي قبل ضد الشعب الفلسطيني. ونحن نعرف من تاريخها القصير والدموي كيف يمكن أن يتحول هذا العنف إلى تطهير عرقي. ولدينا دلائل تاريخية صادمة من قرية دير ياسين الفلسطينية سنة 1948م وفي معسكرات اللاجئين الفلسطينيين في صابرا وشاتيلا ببيروت سنة 1982م وقد صك كاتب إسرائيلي راديكالي مصطلحًا جديدًا لهذه العملية هو "Politicide"، بمعنى "إيجاد نهاية للوجود الفلسطيني"، التي ترمز إليها سياسات الزعيم الإسرائيلي آرييل شارون.
-------------------------------
بقلم: محمد الحمامصي


من المشهد الأسبوعية






اعلان