25 - 04 - 2024

شعبان يوسف يحاكم "الذين قتلوا مي".. هؤلاء العمالقة لم يعلنوا حقيقة الصياد المختفي تحت جلودهم

شعبان يوسف يحاكم

- أحمد أمين تجاهلها مع كل الرائدات وطه حسين تهكم عليها لأنها شبهته بأبي العلاء
- فتحي رضوان لم يناقش سوى توترها الجنسي وهيام الآخرين بها والعقاد لم ينصفها وكتب عن دعابات "رجال مي"
- سلامة موسى ناقض نفسه فمدحها وذمها وكتب كلاما لايليق عنها و د. هيكل أعطي صورة مغايرة تماما لما كتبته
- المازني تلبسه الأذى حين كتب عنها والمعداوي اتهمها بالشذوذ وتساءل هل هي امرأة؟ ولم ينصفها غير وداد سكاكيني وسلمى الحفار الكزبري ‏ود. ألفت الروبي

‏لم تحظ كاتبة في التاريخ العربي المعاصر بمثل ما حظيت به مي زيادة من شهرة وسطوة إعلامية ونفوذ أدبي، ويعتبر صالونها أشهر صالونات العالم العربي في القرن الماضي على الرغم من أن مي ظلمت كثيرا كأديبة وصحفية وباحثة عربية وأيضًا كإنسانة من حقها أن تختار أسلوب حياتها، ظلمها التناول النقدي لعملها الأدبي والصحفي ودورها كمحرك ثقافي اجتماعي في بيئة مصرية ولبنانية. 

وبدلا من التركيز على أعمالها جاءت شهرتها من خلال متابعة حياتها الشخصية ومن وقعوا في غرامها، وحريتها غير المسبوقة وانهيارها العصبي في أيامها الأخيرة، ووجودها في كتابات الأدباء الذين التفوا حولها كأصدقاء أحيانا وعشاق في أحيان أخرى لأنها كانت امرأة عصرية من نوع خاص، لم يجدوا مثلها في بيئاتهم، اقتربوا منها لتعطي لحياتهم أبعادًا مغايرة ورأوا فيها من الطرافة أكثر كثيرًا من العمق الذي تستحق، فكثرت الشائعات حولها والتربص بها في كتاباتهم دون أن يتحقق أي منهم إن كان ما يكتبه حقائق أو مجرد أكاذيب بدافع الغيرة والحسد.

 توقعت أن يقدم لنا  الشاعر والمؤرخ الأدبي شعبان يوسف في كتابه الجديد "الذين قتلوا مي" رؤيا مختلفة تنصف "مي" وهذا ما كان، فقد دأب شعبان يوسف في السنوات الأخيرة على الكتابة في قضايا شائكة وحساسة أهملها تاريخ الأدب وحقق هو فيها، بدأب الباحث المؤرخ وبشجاعة يحسد عليها، ونشر عددًا كبيرًا من المقالات المنحازة للمرأة الكاتبة وللمهمشين من الكتاب، وحلل الظروف التاريخية المصاحبة لإبداعهم وخلص إلى نتائج تدين الوسط الثقافي وتَسلط النجوم وتغلغل النفوذ السياسي والحزبي في الترويج لبعض الكتاب على حساب كتاب آخرين، بعدها أصدر سلسلة من الكتب توثق أبحاثه هذه وتضيف للمكتبة العربية ما يفتح الباب أمام الباحثين لمقاربة مثل هذه القضايا التي فتح هو الباب للكشف عنها، فصدر كتابه  "لماذا تموت الكاتبات كمدا" مقدمًا فيه عددًا من الكاتبات العربيات تعرضن للغبن والقهر وتلاه بكتاب "ضحيا يوسف إدريس وعصره" مسلطًا الضوء على تأثير وجود نجم صارخ الموهبة على كُتاب عصره ومسئوليته ومسؤلية اليسار في هذا، مستدعيا سلطات كتاب آخرين في أجيال سابقة منهم طه حسين ومحمود العقاد، مستعرضًا عددا من النماذج منها الكاتب محمد صدقي وفي كتابه التالي "المنسيون ينهضون" تابع الفكرة ذاتها  في النبش في تاريخنا الأدبي لإلقاء الضوء على عدد آخر من الكتاب غاب عنهم النقد الجاد فقدمهم وصحح بهذا مسارات تم إغفالها عن عمد وأثار القضية لعله يحض باحثا آخر على الالتفات لها ويعطي لهذا الكاتب المنسي أو هذه الكاتبة التي ماتت كمدا أو لمي زيادة نفسها في كتابه الأخير جزءًا من حقها المغدور فمن هم الذين يوجه لهم شعبان يوسف الاتهام بقتل مي؟

 الغريب أن عددًا من هؤلاء الكتاب كان يظن معظمنا أنهم من محبيها مثل طه حسين وسلامة موسى ومحمد حسين هيكل وإبراهيم عبد القادر المازني وأنور المعداوي. تعالوا نقرأ معًا ما أسفرت عنه محاكمته لهم.

وقائع المحاكمة

 يتناول شعبان يوسف العلاقة الشخصية لكل واحد منهم  بمي زيادة، ثم يناقش علاقة كل منهم بأعمالها ويطرح التناقض في هذه المواقف تجاه أعمالها وأنشطتها الثقافية من ناحية وحياتها الشخصية من ناحية أخرى، ويخلص لقائمة الاتهام التي يوجهها لكل منهم بالقتل، ونفهم من الكتاب أنه لا يقصد ذلك القتل الفيزيقي بل يقصد الاغتيال المجازي والأدبي الذي تعرضت له مي، من الذين عملوا على تغيبها بشكل قصدي وتنكروا لها في حياتها وبعد رحيلها واختصروها في مجرد صالون أدبي يحضره كبار الأدباء والمفكرين والشعراء ويثبت في كتابه انه تم اهمالها وتجاهل وضعها الصحفي الريادي حين تولت القسم النسائي الذي خصصته جريدة السياسة الأسبوعية، لسان حال حزب الأحرار الدستوري للمرأة. ويشرح في كتابه كيف اتخذت مي مواقف تبدو للوهلة الأولى ضد الحزب لأنها تنحاز لوطنها وللموضوعية أولاً وليس للتطبيق المباشر لأفكار الحزب، ويثبت أن كل من كتب عنها سواء في حياتها أو بعد موتها قد تجاهل هذا الدور في الصحافة النسائية بما في ذلك من عاصروها مثل ميخائيل نعيمة، ويسرد الكثير من الملاحظات حول إهمال ذكر أعمالها في كل الكتب التي صدرت سواء عن الصحافة أو القصة القصيرة أو الكتابات الأدبية ويتهمهم بتعمد حذف الكاتبات من التاريخ المدون، ويعطي مثالا بكتاب الدكتور أحمد أمين الذي أصدره عام 1948 بعنوان زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ‏متجاهلاً فيه وجود نساء مثل هدى شعراوي ومي زيادة ومنيرة ثابت وعائشة التيمورية ونازلي فاضل وملك حفني ناصف ونبوية موسى ولبيبة هاشم واوليفيا عبد الشهيد ووردة اليازجي وغيرهن من الشاعرات والكاتبات في هذا الوقت، ولم يأت على ذكر واحدة منهن أيضا. ويصف هذه النزعة الذكورية بأنها متفشية في كتابات كثير من الأدباء على رأسهم عباس العقاد، وأشار شعبان إلى ما قاله عباس العقاد من أن الشعر يحتاج إلى استعدادات خاصة فطرية، تلك الاستعدادات نادرة عند المرأة، أي أن عباس العقاد كان يرفض تماما فكرة أن تكون المرأة شاعرة. 

يثبت شعبان أن التاريخ الشخصي لمي زيادة وجمالها وأخبار عزوفها عن الزواج، هي أكثر المعلومات المتداولة وأكثر المواد الشائعة في كل ما كتب عنها بالإضافة بالطبع إلى الاكتئاب والوسوسة، على الرغم من أنها كتبت كتابين عظيمين أحدهما عن ورد اليازجي والثاني عن ملك حفني ناصف باحثة البادية، وهو كتاب رائد في مجال النقد النسوي في مصر والعالم العربي انتصرت فيه للكتابة عن قضية المرأة على المستوى الاجتماعي والفكري والأدبي والثقافي.

يستخدم شعبان يوسف أسلوب التشويق متدرجا بالمعلومات عن الذين قتلوا مي حتى يصل في نهاية الكتاب إلى ذروة المهانة والسب والتنمر الذي أدى في النهاية إلى انهيارها، مركزًا على ما فعله الأدباء والمفكرون بعيدًا عن ابن عمها وعائلتها التي طمعت في مالها فقضت عليها بإدخالها مصحة للأمراض العصبية في لبنان، حتى عادت إلى مصر بمساعدة من بعض أصدقائها فأثبتوا أنها صحيحة العقل واجهت ما يكتبه زملائها من افتراءات. حتى يصل الكاتب إلى ما كتب في تأبينها فنكتشف حجم المصيبة وكيف كان يرى الذين عاشروها وزاملوها امرأة مثلها نجحت بقدراتها الكبيرة ووقفت تناطح أفكارهم وتثبت أنها تتفوق عليهم بجديتها وإصرارها وثقافتها الرفيعة، فكيف أحكموا صياغة القتل؟ هذا ما يجيب عليه كاتبنا ويربط كل ما حدث لها بكاتبة أخرى واجهت قتلا معنويا أيضا هي نوال السعداوي.

طه حسين والعقاد وفتحي رضوان 

في البداية يرصد شعبان يوسف موقف عباس العقاد و فتحي رضوان من مي فيقول أنه على الرغم من كتابة العقاد لقصيدة آه من هذا التراب في رحيلها، إلا أن كل ما كتبه العقاد عن مي هو مقال عنوانه رجال مي لم يتحدث فيه إلا عن دعابات الرجال من حولها ولم يتطرق لأي من أعمالها ولم ينصفها فكريا أو ثقافيا. وهكذ فعل فتحي رضوان لم يناقش سوى جمالها وتوترها الجنسي وهيام الآخرين بها وكتب عن قصة حب بينها وبين لطفي السيد وكانت دون العشرين من عمرها على حد ادعائه باعتبارها من مواليد 1895 ولم يستعرض في كتابه عصر ورجال (وكانت مي المرأة الوحيدة التي ذكرها) أيا من  مهاراتها واتقانها لتسع لغات وقدرتها على الكتابة بالإنجليزية والفرنسية في مطلع حياتها وانتصارها للغة العربية وكتابتها في النقد حتى أن بعضهم أطلق عليها أنها نابغة كاتبات الشرق.

ثم يبدأ شعبان يوسف في تخصيص فصل لكل من يوجه له الاتهام.

من أكثر المفاجآت التي باغتتني موقف طه حسين ومعاركه مع ما تكتبه مي زيادة، وطه حسين معروف بدقته وشجاعته وشدة تمسكه برأيه ومواقفه فما الذي لفت انتباه شعبان يوسف؟ 

أولا: - أن د. طه حسين قد تفادى الحديث عن قيمة مي الحقيقية وابتعد عن الحديث عن انتاجها الفكري والنقدي والابداعي في تأبينها ثم ذكر موقفين غاية في الأهمية .. الأول مقال تهكمي ساخر كتبه طه حسين في مجلة الرسالة يرد فيه على ما جاء في محاضرة القتها "مي" سنة 1934 عن مكانة المرأة في حضارات العالم، ذكرت فيها أن الحضارة في جميع الأمم تستند إلى روح الرجل والمرأة معًا وانتصرت فيها للمرأة التي تم تغيبها وتجهيلها، وفقا لما وصفه شعبان يوسف بأنه امتداد لآرائها المنشورة في عدة مقالات ومواقف سابقة، وبدا في مقال طه حسين ما اعتبره شعبان يوسف شنا لحرب شعواء على الرجل أو عليه هو شخصيا لأنه كان يريد الاشتباك مع الآنسة مي بلا أي سبب فلم تكتب مي سوى رأي تقول فيه الحضارات في جميع الأمم لا تبنى إلا على مجهودات واكتاف الرجل والمرأة معا ، ثم يورد شعبان يوسف مقالا آخر نشر في جريدة الوادي بتاريخ 22 أغسطس 1934 يؤكد فيه على تعنت طه حسين في مهاجمتها بلا سبب تحت عنوان الثقافة كتاب إلى الآنسة مي ردًا على محاضرة كانت قد القتها عن أبي العلاء المعري، وضعت فيها مقارنة سريعة بينه وبين طه حسين الذي احتج بشدة و كتب مقالا شديدة القسوة وضاق بالشبه الذي أوردته مي بينهما بأسلوب تهكمي استنكاري، وتساءل شعبان يوسف لماذا تعامل طه حسين مع مي بكل هذه القسوة؟

أظن أن استفزار طه حسين من هذه المقارنة مع المعري سببه أنه كان يرى في المعري يأسه وإحباطه من الدنيا وكان يرى في الحياة متعا أخرى، وأن الذي يجمعهما هو فقد البصر وحده وهو عنصر ظالم للمقارنة.

سلامة موسى ومحمد حسين هيكل

تنتقل المحاكمة إلى علاقة أغرب في تطورها، هي العلاقة ما بين سلامة موسى ومي، يقول الكاتب ان المفكر الكبير كان متحمسا لها في بدايتها وكان أحد الذين قدموها بعد يعقوب صروف وخليل مطران، إذ كتب لها عام 1924 مقدمة حماسية لكتابها بين المد والجزر ‏ثم يأتي ما كتبه في تأبينها ويعكس تماما ما قاله في المقدمة عن قدرتها على الخوض في قضايا شائكة وشجاعتها، فيقول في التأبين أن مي كانت مسالمة في كتاباتها وكانت تقول له شفويًا أنها تخشى الرأي العام وتحذر أكثر مما يجب في كتابتها مع إنها لو تجرأت وكتبت لكانت فائدتها وأثرها أعظم في النهضة ولكنها للأسف لم تجرؤ فقد كانت تحس أنها مسيحية في وسط إسلامي. يثبت شعبان يوسف بهذا المثال أن ‏ثمة تناقض كبير عما اورده في مقدمته لها، ويأتي بمثال ثان أيضا في مقاله الذي نشر في الهلال بعنوان صورة موجزة عن الآنسة مي، وفيه نفس الأفكار التي جاءت في المقدمة ثم يحدث الانقلاب الذي تناقضت فيه أفكاره وآراؤه‏وآلمها ووصفها بأنها لم تكن تبالي بالعلوم ولا يوجد كتاب وحكمة كتبتها في العلم، إنها تكتب بقلبها بعاطفتها بدون عقل أو منطق ويصف انعكاس فنها على حياتها التي عاشتها بالعاطفة دون التفكير في المستقبل. 

 يدحض شعبان يوسف الأحاديث التي جاءت في كتاب تربية سلامة موسى عن رؤيته لها عام 1914 في سن صغيرة تجلس فوق ساق د. شبلي شميل صديق والدها ‏"يحبها ويعاملها كما لو كانت طفلة وكان يؤلف عنها أبياتا ظريفة من الشعر للمداعبة وما هو أكثر من المداعبة، إن ما كتبه سلامة موسى ما هو إلا افتراءات وهمية وأكاذيب ، وأن كل  ما كتبه بعد رحيلها كان كلاما لا يليق ويتساءل: ما الذي دفع كاتبا مفكرا مرموقا له تأثيرات عميقة على الأجيال، أن يقول كلاما من قبيل أن مرضها قد تفاقم وأنها التزمت مسكنها وصامت عن الطعام وفقدت كل ما بقي لها من وجدان وتعقل وكانت تبول وتبرز في أنحاء المنزل (أعوذ بالله) من هذا الوصف البشع لامرأة بعد رحيلها، واتفق مع شعبان يوسف أن ما كتبه سلامة موسى هو وغيره هو محاولة اغتيال مجازي وقتل أدبي حتى بعد رحيلها. بل أن بعضه مقزز ويقلل من قيمة صاحبه أو حتى ينفيها.

 في فصل محمد حسين هيكل الذي يصفه المؤلف بأنه رجل شديد الاعتدال وشديد الاعتداد بنفسه، يستعرض اختيار الدكتور هيكل في تأبين مي التحدث عن موقفها وبعض أرائها كما سمعها منها بشكل شخصي ، وأوضح أنها كانت ترى أن أعظم عنوان لمجد الرجل هو كمال رجولته، فالرجل ناقص الرجولة لا يغني عنه علمه ولا ماله بل يظل ناقصًا أبدًا ... وأن كمال المرأة في كمال أنوثتها، وفي مجال آخر قال أن مي كانت منزعجة من ذلك الصراع الدائر بين المرأة والرجل، إذا أن طبيعة الرجل والمرأة تقتضي تضامنهما في مودة ورحمة وتنكر تنافسهما في نضال وقتال، وقد فهمت مما أورد شعبان يوسف ان دكتور هيكل أعطي صورة مغايرة تماما لما كتبته مي وناضلت من أجله في مقالتها المنشورة في نفس الجريدة، أي أنه ذكر صورة مختلفة عن أفكارها وإيمانها بالوطنية والبعد عن الحزبية في الحلقات التي نشرتها عن عودة سعد زغلول إلى مصر وعن دور صفية زغلول وكتاباتها الفنية عن مختار. كان من الممكن أن يكتب هيكل او يقول شيئا عن الصحافة المتخصصة التي قدمتها مي أو يكتب تقريرا عما قدمته هذه السيدة في القسم النسائي الذي أنشأته داخل الجريدة وجعلها رائدة في الكتابة الصحفية النسائية، لم يأت على ذكر أي من هذا مطلقا بل تجاهله تماما، تجاهل شجاعتها في كتابها المد والجزر عن اللغة العربية، وشجاعتها تجاه المواقف الفكرية والمواقف الصحفية. وهنا يبرز السؤال الكبير الذي يطرحه شعبان يوسف عما كتب في تأبينها وبعد رحيلها ، وأظن أن هذا ما كان يقصده باغتيال الذين عاصروها في حياتها وبعد مماتها على الرغم من أنه يورد أيضا في هذا الفصل كيف أن الجريدة لم تعترض على ما كتبته عن صفية زغلول زوجة سعد زغلول في الحزب المنافس لهم، لأن هذه مصر والكتابة عن الوطنية أمر آخر وأن كتابتها لاقت رواجا كبيرا داخل الجريدة بل أنهم فتحوا لها كل المجالات لتكتب بحرية كبيرة.

يصحبنا الكتاب إلى ما كتبه إبراهيم عبدالقادر المازني عن مي ونكتشف مع كل فصل السكاكين الصدئة التي أخفاها زملاء المهنة ليطعنوا بها كاتبة كل ما فعلته في حياتها أنها لمعت وتحققت رغم أنوفهم لم يدع أحدهم أنه كتب لها كانت تفوقهم معرفة باللغات وكثير من المهارات الصحفية الأخرى فنعتها أحدهم بالمتفلسفة لأنها من وجهة نظرة لا تقدر على الفلسفة وهل تجرؤ؟ وكل ما استطاعوا فعله أنهم لخصوها في صالون جمعت فيه المثقفين.

 ناقش المؤلف ما كتبه المازني في عدة مقالات ردا على إهدائها له كتابين صدرا لها، وأثبت بالكثير من الحجج والأسانيد كيف استخف المزني بمي زيادة وكيف أشعرها بهذا الاستخفاف وكيف قابل نشر كتابيها باللمز والغمز والكلام عن الثرثرة والعاطفة الفنية واللف والدوران، وانتهي مقاله دون أن يتطرق بكلمة نقدية علمية واحدة لما جاء في الكتابين: كتاب الصحائف، وكتاب ظلمات وأشعة، ويرصد الأذى الذي تلبس المازني دون أي اعتبارات نقدية أو أدبية. و يرى شعبان أن هذا الموقف سببه المقالات والأخبار الكثيرة التي كتبت عنها وعن كتابيها في الصحف والمجلات، ويتساءل إن كانت هذه حالة غيرة عامة بين الأدباء وذكورية مغلفة ‏على الرغم من أن عبد القادر المازني قد اعتذر عما اقترف في حق مي في حوار صحفي له بعد ذلك، لكنه اكتفى بهذا الاعتذار الذي ربما لن يتذكره أحد ولم يكتب  عنها وعن أعمالها أبدا ولم يعطها حقها بعد ذلك حتى بعد رحيلها.

أنور المعداوي

 ‏لا يختلف الأمر مع الكاتب الشهير انور المعداوي وموقفه من مي، ‏لم يكتب عن كتبها عن ثلاث كاتبات: عن باحثة البلدية وعائشة التيمورية ووردة اليازجي بل كتب عن علاقتها بجبران واصفا إياها بالقول: "أن عاطفة الأنوثة في مي لم تتجه يوما إلى جبران"، وسيطر عليه الاستغراق في البحث عن فكرة العشق بين مي وجبران والتفتيش في حياتها الخاصة هذا كل ما شغل أنور المعداوي.

‏ يتهم شعبان يوسف الناقد الكبير بأنه حاول أن يطبق نظريته النفسية على الأدباء أنفسهم بدلا من تطبيقها على النصوص الأدبية، ويتخلى عن دوره الحقيقي تجاه النص بتحليل البشر فلا فرق بين النص وخالقه بين الكلمات وكاتبها ، حتى أنه تساءل: هل هي امرأة؟ وانتهي إلى نتيجة أن مي ليست امرأة طبيعية، بل هي امرأة شاذة كما كتب بالحرف: "هذه هي المرأة شاذة، وهي تلك التي تنام في أعماقها مثل هذه اليقظة هي تلك التي تلهب دون أن تحس بين جنبيها وهج النار، هي تلك التي تثير ولا تثار. هي مي في حقيقتها العميقة التي لم تتذوق طعم الحب لأنها فقدت شهية الأنوثة، وهذا هو الباب المغلق الذي يحتاج ليفتح على مصراعيه إلى طرق عنيف" ، يتساءل شعبان لماذا يأتي كاتب كبير مثله يكتب سلسلة مقالات من وحي إهداء مي كتابين له دون أن يقرأ ما تنطوي عليه الكتب من قيمة، يكتب بقسوة ويعمل في جسدها سيف الإستظراف السخيف والمؤذي والقاتل، إنهم عملوا جميعا على قتلها دون هوادة، ذلك القتل الذي جاء تحت عنوان في غاية البراءة. 

حتى ميخائيل نعيمة الذي كان أول من وجه لها نقدا عام 1923 في كتابه الغربال، الأمر شبه متصل بين جميع الرجال الذين تناولوا أعمالها من زوايا مختلفة، ويتساءل شعبان إن لم يجد أحد من كل هؤلاء الكتاب العماليق ما يشغلهم في الآنسة مي سوى موضوع أنوثتها وموضوع عواطفها الجامدة أو الشاذة او الباردة او الخامدة أو الهامدة، وأن الذين أنصفوها في الكتابة كان أغلبهم من النساء مثل الأديبة السورية وداد سكاكيني وسلمى الحفار الكزبري ‏ودكتورة ألفت الروبي في بحثها عن كتابيها باحثه البادية وعائشة التيمورية، ‏وينهي شعبان يوسف كتابه عن مي بمقال عن نوال السعداوي يعطي مثالا ‏آخر لما تواجهه المرأة الكاتبة في حياتها وأبحاثها وكتابتها ومواقفها العامة والخاصة من استبعاد وتجاهل واعتداء.

أحاول الإجابة على أسئلة شعبان هذه المرة من منظور نسوي بحت، يا عزيزي شعبان لم ير كل هؤلاء الكتاب في مي سوى جسد. لم يعلنوا حقيقة الصياد المختفي تحت عباءة الثقافة والتقدم والحداثة وهم يتوددون إليها، لهذا أرى أنه من الطبيعي جدا أن يسبوها ويصفوها بالشذوذ ويتقولوا عليها لأنها في ذاتها ووجودها وكينونتها قد اقترفت فعل الحياة باعتبارها إنسانة لها نفس حقوقهم في الإبداع، وكانوا يتصورون أنهم ضحكوا عليها بعواطفهم الكاذبة وعشقهم الذي اكتشفت زيفه، كانت تعرف في أعماقها بحسها الأنثوي حجم الزيف لهذا لم تستجب لأي منهم، وكان المعداوي أكثرهم صدقا مع نفسه حين وصفها بأنها ليست امرأة أتعرف لماذا؟ لأن صورة المرأة التي تذوب من كلمات الرجل كسرتها مي، فكيف تجرؤ هذه المرأة على رفض كل هؤلاء وبنص كلماته "كانت تجتمع بهم وتتحدث معهم ثم لا شيء وراء الحديث المألوف واللقاء المتكرر مما يتصل بالشعور الأنثوي ولقد شغف بها بعضهم ذلك الشغف الذي يودي بالكرامة ويعصف بالوقار ومع ذلك ظل القلب لا يعرف النبض ولا يعترف بالخفوق" هو المدافع إذن عن كرامة كل الرجال الذين لم تبادلهم مي العشق وإن فعلت لكانت حمقاء تبيع نفسها. الاستبعاد والسحق للكاتبات يأتي من دوافع ذكورية محضة من الجميل أن يكشفها رجل.
--------------------------
بقلم: هالة البدري


من المشهد الأسبوعي






اعلان