18 - 04 - 2024

رواد التنوير (3): "رفاعة الطهطاوي": مصباح أضاء ربوع مصر وأقال بكفاحه عثرة نهضتها الحديثة

رواد التنوير (3):

رواد التنوير في الفكر المصري الحديث (3)
- حرم إلغاء نظام الالتزام أسرته من ثرائها.. فباعت أمه قرطين ليسافر ويتم دراسته بالأزهر بعد اتضاح نبوغه
- تجول بين القرى ليختار تلاميذه من أكثر أبناء الفلاحين نجابة وذكاء فأثمر كفاحه ترجمة ألفي كتاب حتى سنة 1850
- دافع عن عقل المرأة وإنسانيتها وتكوينها وجدارتها بالعلم والعمل والتزم في عقد زواجه بألا يتخذ زوجة أخرى ولا جارية ومنحها حق تطليق نفسها إن فعل

عندما زار الرحالة الإيطالي "بروكي" المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي سنة 1822 خلال حكم "محمد علي" مؤسس الدولة الحديثة في مصر، استفسر منه الجبرتي عن "نوويه" أحد علماء الحملة الفرنسية ممن تعرّف عليهم في مصر، قال له: "إن هذا العالم يمكنه التبحر في علم الفلك لأنه عدا الآلات التي لديه كان يتقاضى من الحكومة الفرنسية ريالين في اليوم"، ثم اشتكى من انقراض علم الفلك في مصر لأن الحاكم لا يريد أن ينفق على العلماء. وحكم المؤرخ هذا في وسع أي مطالع لشئون حكم محمد علي أن ينقضه بشكل جزئي، فلم يكن مؤسس مصر الحديثة يبخل حقا بالإنفاق على العلماء، والأمير عمر طوسون في كتابه عن البعثات العلمية يتحدث عن إرسال محمد علي بعثات علمية ضخمة قوامها طلبة من المصريين والأتراك للتعلم على نفقة الدولة، أولها بعثة إلى إيطاليا سنة 1813، والثانية والثالثة والرابعة إلى فرنسا سنوات 1818 و1826 و1844، وفيما بينها جرى إرسال بعثات صغيرة أو دارسين منفردين إلى فرنسا وانجلترا والنمسا كذلك.

لكن محمد علي كان في الواقع يهتم بدرجة هامشية بالعلوم النظرية مثل الفلك والفيزياء والرياضيات وغيرها، وكان مهتما بأقصى درجة بالعلوم التطبيقية – الأساسية والمساعدة – التي كان يحتاجها في تأسيس جيش حديث، ولإدارة دولة قوية في مصر، كالعلوم الهندسية والعسكرية والصناعية، ولم يكن مهتما بأي درجة بما نسميه اليوم بالعلوم الإنسانية مثل التاريخ والسياسة والقانون والفلسفة والآداب والفنون. وهي فجوة كان استمرارها يمكن أن يؤدي إلى جنين تحديث ميت، أو إلى نهضة مشوهة وعرجاء تسير – إذا سارت - على ساق واحدة، نهضة إدارية وتكنولوجية مادية مفتقرة إلى أساس علمي وفكري وثقافي وطني يكفل استمرارها وتوارثها عبر الأجيال. ولعل هذا النقص الفادح يكمن وراء التعثر الذي عرفه تاريخ النهضة المصرية الحديثة إلى اليوم. لكنه تعثر كان يمكن أن يتحول إلى إخفاق تام ونهائي، لو لم يظهر على مسرح الحدث التاريخي هذا العملاق الذي أخرج من عباءته كل علامات الثقافة الوطنية الحديثة، وكل عظماء الفكر المصري التاريخيين، إنه رفاعة رافع الطهطاوي.

سيرة حياة

ولد "رفاعة" يوم 15 أكتوبر 1801، في نفس اليوم الذي غادرت فيه الحملة الفرنسية أرض مصر، بعد أن نبهت المصريين لحقيقة وضعهم الحضاري، وصدمتهم بتخلفهم المزري الممتد لقرون عاشوها في ظلام القرون الوسطى، وراء أسوار من العزلة والجهل والإفقار والتسلط فرضها عليهم الأتراك العثمانيون. 

تعود أسرة "الطهطاوي" لإحدى مدن محافظة سوهاج، ويتصل نسبها بسلالة الأشراف ذات الامتياز في ملكية الأراضي الواسعة، لكن أوضاع أسرته تدهورت بعد إلغاء محمد علي نظام الالتزام العثماني، مما أدى إلى سحب الأرض التي كانت تحت يد الأشراف ومشايخ الأزهر، وهو ما حرم الطفل رفاعة من الرعاية الدينية التي كفلتها لها نشأته، كان قد أتم حفظ القرآن الكريم فاضطر للارتحال مع والده للعمل بعيدا عن بلده، ثم عاد إليها مع أمه إثر موت والده فجأة، ولقي من أخواله الأزهريين اهتماما بتعليمه فحفظ على أيديهم المتون المتداولة في عصره. 

رغم فقرها الشديد أصرت الأم على إن يتم دراسته، باعت قرطين لها سافر رفاعة بفضلهما سنة 1817 - وهو في عمر السادسة عشرة - ليتم دراسته في الحديث والفقه والتفسير والنحو والصرف بالأزهر، واضطر خلال سنوات دراسته إلى التدريس لأبناء الأغنياء، وعندما تخرّج سنة 1821 عمل مدرسا في الجامع الأزهر، برع في إلقاء دروس الحديث والمنطق والعروض، قبل أن يتوسط له أستاذه "حسن العطّار" ويلتحق واعظا بالجيش بمرتب أكبر. 

وفي سنة 1826 عندما قرر محمد علي إرسال البعثة العلمية الثانية إلى فرنسا، دفع به الشيخ "العطّار" ليكون واعظا وخطيبا لطلابها، وأوصاه قبل سفره - "شيخنا العطّار المولع بسماع عجائب الأخبار والإطلاع على غرائب الآثار" - بأن يكون شعلة تضيء لأبناء بلده طريقهم للحضارة، وأن يفتح عينيه ووعيه ويدّون كل ما يراه من نظم وعادات الفرنسيين الحديثة "ليكون نافعا في كشف القناع عن محيا هذه البقاع". وفيما بعد - وهو شيخ للأزهر - سوف يتمم "العطّار" عمله العظيم بتقديم تلميذه بعد عودته من فرنسا بكتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" إلى "محمد علي"، وعندما يقرأ الباشا كتابه يأمر بطبعه وتوزيعه على الدواوين والموظفين والانتفاع به في المدارس، ويعيّنه مترجما بمدرسة الطب، ثم يستجيب لطلبه بإنشاء أول مدرسة للترجمة في مصر وهي مدرسة الألسن.

كانت بعثة "الطهطاوي" تتألف من أربعين طالبا، بينهم 18 فقط من المتحدثين بالعربية والبقية يتحدثون التركية، سافروا جميعا على متن السفينة الحربية الفرنسية "لاترويت" في 13 أبريل 1826 لدراسة اللغات والعلوم الحديثة. ومنذ اللحظات الأولى لسفره قرر رفاعة ألا يكتفي بدوره كواعظ، فاجتهد في دراسة اللغة الفرنسية وتحصيل العلوم، وبجدارة أصبح أول مثقف مصري بالمعنى الحديث في التاريخ يهتم بدراسة العلوم الإنسانية التي افتقرت لها بعثات "محمد علي" ونهضة المصرية الحديثة بأسرها. 

ورغم أنه يؤكد في كتابه "تخليص الإبريز" أن "العلوم لا تنتشر في عصر إلا بإعانة صاحب الدولة لأهله" إلا أن رفاعة أثبت بكفاحه أن نشر العلوم لا يكون ممكنا ، إلا في حال توفر لتحقيقه عقل نابه على درجة ملهمة من الاستيعاب والإحاطة بصعوبات مهمته الجليلة، فحسبما دوّن في كتابه: "فمن مبدأ توّليه حفظه الله – يقصد محمد علي – وهو يعالج في مداواة دائها الذي لولاه كان عضالا، ويصلح فسادها الذي قد كاد أن يكون زواله محالا، ويلتجي إليه أرباب الفنون البارعة والصنائع النافعة من الإفرنج، ويغدق عليهم فائض نعمته، حتى إن العامة بمصر – بل وبغيرها – من جهلهم يلومونه غاية اللوم بسبب قبول الإفرنج وترحيبه بهم وإنعامه عليهم، جهلا منهم بأنه حفظه الله إنما يفعل ذلك لإنسانيتهم وعلومهم لا لكونهم نصارى".

وإذا كانت تلك هي بعض العقبات التي أعاقت مهمة حاكم مصر المتفرد لقيادتها في طريق نهضتها، فلنا أن نتخيل هول المشاق التي واجهها رأس النهضة المصرية المفكر رفاعة الطهطاوي في طريقه، ومن تلك المشاق ثغرات تخطيط "محمد علي" نفسه للنهضة، ثم جهل واستبداد خليفته في الحكم الذي أدى بالطهطاوي سنة 1850 إلى منفاه بالسودان.

في باريس

من بين ما أثار إعجاب الطهطاوي في فرنسا تلاشي فكرة "العامة" و"الرعية" من مسرح الحدث المجتمعي بفعل معارف وممارسات التمدن، فكتب: "ثم إن الفرنسيين يميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، ويتشوقون إلى معرفة سائر الأشياء، فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مستوعبة إجمالا لسائر الأشياء، فليس غريبا عنها، حتى أنك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء، ولو لم يكن منهم، فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون ويتنازعون في بعض مسائل علمية عويصة، وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون للغاية من صغرهم.. فأولادهم متأهلون دائما للعلم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا في الفرنسيس على الإطلاق".

يلحظ "رفاعة" زوال قيد الجمود الديني والفكري عن العقل الفرنسي: "ولا تتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس، لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضا، وأما ما يطلق عليه اسم العلماء فهو من له معرفة في العلوم العقلية، ومعرفة العلماء في فروع الشريعة النصرانية هينة جدا، فإذا قيل في فرنسا هذا الإنسان عالم، لا يفهم منه أنه يعرف في دينه، بل يعرف علما من العلوم الأخرى، وسيظهر لك فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمن عداهم، وبذلك تعرف خلو بلادنا من كثير منها".

من مراقبته لأوجه العادات والنشاط في المجتمع الفرنسي يستنبط المبدأ العقلاني المؤسس للتمدن، وما يستتبعه من حرية فكرية: "إعلم أن الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل ودقة الفهم وغوص ذهنهم في العويصات..، وهم ليسوا أسراء التقليد أصلا، بل يحبون دائما معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه". وما يستتبع الحرية من تسامح ديني: "فالغالب على أهلها البشاشة في وجوه الغرباء ومراعاة خاطرهم، ولو اختلف الدين، وذلك لأن أكثر أهل هذه المدينة إنما له من دين النصرانية الاسم فقط، حيث لا يتبع دينه، ولا غيرة له عليه، بل هو من الفرق المحسنة والمقبحة بالعقل، أو فرقة من الإباحيين الذين يقولون إن كل عمل يأذن فيه العقل صواب، فإذا ذكرت له دين الإسلام في مقابلة غيره من الأديان أثنى على سائرها من حيث إنها كلها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر"

وسائر الحريات فيما رأى تعتمد بضمانة الدستور – يسميه رفاعة "الشرطة" من الكلمة الفرنسية   La charte – على مبدأ المواطنة: "كل إنسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يحب، لا يشاركه أحد في ذلك، بل يعان على ذلك، ويمنع من يتعرض له في عبادته"، وعلى مبدأ الاستقلالية الفردية: "ذات كل واحد منهم يستقل بها، ويضمن له حريتها، فلا يتعرض له إنسان، إلا ببعض الحقوق المذكورة في الشريعة (القانون)، وبالصورة المعينة التي يطلبه بها الحاكم". والحاكم ليس مطلق التصرف طبقا للدستور: "الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضى بها أهل الدواوين (البرلمان)، وأن ديوان البير (مجلس النبلاء) يمانع عن الملك، وديوان رسل العمالات (مجلس النواب) يحامي عن الرعية". 

يؤكد "الطهطاوي" أن الدستور: "غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعية لذلك حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيهم من يشكو ظلما أبدا، والعدل أساس العمران". ومبدأ العدل كما يعنيه لا يختلف عن مبدأ الحرية: "وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوى (المساواة) في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجور الحاكم على إنسان".

في مصر

بعد أن عاد لمصر سنة 1831 شرع "الطهطاوي" في وضع الأسس المكينة للثقافة المصرية الحديثة، بداية جرى تعيينه رئيسا لهيئة الترجمة بمدرسة الطب بأبي زعبل ورئيسها الطبيب الفرنسي "كلوت بك"، كان قوامها من المترجمين الشوام يترجمون المحاضرات بعربية رديئة، ويرأسهم رجل يسمى "عنجوري" حل رفاعة في محله. ثم مترجما بمدرسة الطوبجية (المدفعية) حيث أعاد ترجمة وتنقيح كتاب في الجغرافيا تُرجم بركاكة، وأضاف كتابا مما درس في باريس لمالت بران (ملطبرون). في سنة 1834 أنشأ "محمد علي" مدرسة الإدارة لتخريج الموظفين الذين تحتاجهم دواوين الحكومة، فانضم "رفاعة" لهيئة التدريس. كانت أكثر مناهج التعليم في في المدرسة تعتمد على الترجمة، لكنها سرعان ما ألغيت لتنشأ مكانها مدرسة الألسن الشهيرة، وانضم لطلابها كذلك طلاب "مدرسة التاريخ والجغرافيا" التي كانت ملحقة بمدرسة المدفعية، جرى ذلك باقتراح من الطهطاوي فعُيّن مديرا لها. 

كان الرائد يختار تلاميذ مدرسته من أبناء الفلاحين في كتاتيب قرى الصعيد وحلقات الأزهر، يتجول بين القرى في رحلة نيلية، يمتحن التلاميذ ويختار أكثرهم نجابة وذكاء يأخذهم معه لمدرسته الداخلية، ليقيم معهم ليلا ونهارا يناقش ويحاضر ويصحح، ويذكر أخلص تلاميذه "صالح بك مجدي" في كتابه "حلية الزمن بمناقب خادم الوطن رفاعة بك رافع" أن الدرس ربما يبدأ بعد صلاة العشاء ليستمر ثلاث ساعات أو أربع، ثم يبدأ الدرس التالي بعد صلاة الفجر ليستمر ساعات عدة. مدة الدراسة في المدرسة تستغرق خمس أو ست سنوات، تضم فصولا لتدريس الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية والفارسية، إلى جانب الهندسة والجبر والتاريخ والجغرافيا والشريعة والإدارة، وكان طلابها 50 طالبا ثم ارتفع عددهم إلى 150 طالبا، قادوا نهضة مصر وإدارة دولتها الحديثة خلال القرن 19، ويكفي أن نعرف أن هذا الكفاح المنتج الذي استمر حتى سنة 1850 أثمر ترجمة ألفي كتاب.

إنجاز الطهطاوي التالي جعله رائدا للصحافة المصرية، وهو رئاسته لتحرير جريدة "الوقائع المصرية" في 11 يناير 1842، كانت تصدر باللغتين التركية والمصرية، تكتب مادتها بالتركية وتترجم ترجمة رديئة إلى العربية، فعكس رفاعة الوضع جاعلا المادة تكتب أولا بالعربية وتترجم للتركية، مخصصا للعربية الجانب الأيمن، وجعل أخبار مصر تتقدم سائر الأخبار. واستمر الوضع كذلك عاما قبل أن تتألب عليه الطبقة التركية الحاكمة، غير أن التقدم الذي حققه أنجز بالفعل ويستحيل الرجوع فيه كاملا، أصبحت الوقائع جريدة عصرية مثل "الجرنالات" الحديثة، أسبوعية تنشر المواد الأدبية والثقافية، وبعد أن كانت افتتاحيتها لا تخرج عن مقال في مدح الوالي أصبحت مقالا تحليليا عميقا، ولها مندوبون في الدواوين الحكومية لجمع الأخبار، أدخلت فيها الأبواب الثابتة والمقال السياسي واهتمت لأول مرة بنشر الشعر.

رحيل محمد علي

لخمسة عشر عاما حمل الطهطاوي مشعل نشر المعرفة والتمدن وثقافة النهضة والتنوير بطاقة جبارة لا تعرف الكلل ولا التراجع، حتى أطبقت عليه قبضة الرجعية المظلمة برحيل محمد علي وجلوس حفيده "عباس الأول". عُرف عباس بالقسوة والتطيّر وغرابة الأطوار وبميول العزلة والتشدد، كان مؤيدا للشيخ "محمد بن عبدالوهاب" وقام بتهريب أحد أبنائه ممن أسرهم القائد الفذ "إبراهيم باشا" خلال الحملة المصرية بالجزيرة، وتحت مسمى إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض سياسة متشددة في ربوع مصر. 

كان من الطبيعي أن يبدأ عباس برمز الاستنارة ومدرسته. في سنة 1849 أصدر أمرا بنقل مدرسة الألسن إلى مدرسة المبتديان بالناصرية وتشتيت مدرسيها. لم تتسع المبتديان لمكتبة الألسن ومتحفها فنقلا إلى مدرسة المهندسخانة ببولاق. بعد أسابيع ألغيت بالجملة، وقبل أن يمر العام نقل رفاعة منفيا إلى السودان كمدير لمدرسة ابتدائية بالخرطوم، ونفي معه زميله في البعثة "محمد بيومي" أستاذ الرياضيات الذي لم يحتمل الصدمة فمات هناك. لكن الطهطاوي تلقى الأزمة بجلد وصبر فلم يتوقف عن العمل، ترجم رواية فرنسية شهيرة بعنوان "مغامرة تليماك"، وأعاد تأسيس المدرسة الابتدائية، ومرت سنوات أربع قبل أن يرحل الخديو ويصبح في وسع رفاعة العودة لمصر واسترداد بعض مواقعه الضائعة، شغل وظائف إدارية خلال عهد الخديوي سعيد، أنشأ مكاتب محو الأمية، توفر على مشروع نشر أمهات كتب التراث العربي، وعندما تولى الخديوي إسماعيل بطموحه في تحديث مصر وجعلها قطعة من أوروبا، عرف كيف يستفيد من الكنز.

أعاد "إسماعيل" قلم الترجمة مرة أخرى وعيّن الطهطاوي مديرا له، بالإضافة إلى تعيينه عضوا في "لجنة المدارس" الهيئة المشرفة على تنظيم التعليم، وحين أنشئت مجلة "روضة المدارس" سنة 1870 أصبح "رفاعة" رئيس تحريرها حتى رحيله سنة 1873. تلك السنوات الأخيرة من عمره كانت أخصب سنوات عطائه الفكري، أنجز خلالها مع عدد قليل من تلاميذه ترجمة وطباعة القوانين الفرنسية في عدة مجلدات، وكتب فيها مؤلفاته الفكرية الهامة، من بينها مؤلفيه التاريخيين: "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" و"المرشد الأمين للبنات والبنين".  

الوطن والمرأة

بذر الطهطاوي في كتاباته بذور الفكرة الوطنية والهوية المصرية في تربة النهضة الخصبة. كافح كفاح الخالدين ضد ثوابت عصور الظلام التي كانت تلبس الوطنية ثوبا تكفيريا مناقضا للدين، وتقدمها كما لو كانت عداء للإسلام. بعد أن كانت الهوية المصرية عارا يعيّر به السادة الأتراك رعاياهم الفلاحين، تحولت على يديّ الرائد العظيم إلى أنشودة ساحرة وحديقة عذبة تتمدد باتساع كتاباته ومنجزاته. منذ ترك الطهطاوي زملاء بعثته يتعلمون ما أوفدوا لتعلمه من العلوم الطبيعية وعكف هو على دراسة علوم التاريخ والجغرافيا والاجتماع والفلسفة والقانون والسياسة وغيرها، ثم درس بعقل متفتح تكوين المجتمع الفرنسي وعاداته ونظمه ومؤسساته، كان رفاعة يعد نفسه بوضوح لإنجاز أهدافه النهضوية والتنويرية التاريخية، ويدرك عقبات وعراقيل الطريق إليها بنفس الوضوح، وفي مقدمة تلك الأهداف ترسيخ الفكرة الوطنية وتحرير المرأة.

كتب رفاعة في "مناهج الألباب": "قد تحقق في مصر اسمها بالمعنى المتعارف أكثر من غيرها، لمصير الناس إليها واجتماعهم فيها لمنافعهم ومكاسبهم، وما ذاك إلا لحسن موقعها العجيب الذي أسرع في اتساع دائرة تقدمها في التأنس (الحضارة) والعمران، وإحرازها أعلى درجة التمدن من قديم الزمان وعلى مر العصور وكر الدهور، انصقلت في مرآة جوهرها صور أخلاق الخلائق، وتهذبت طباعهم على التدريج وتشبثوا بثمرات العلوم والمعارف ووقفوا على الحقائق، وبمخالطة غيرهم من الأمم ذاقوا حلاوة الأخذ والعطاء وكثرة العلائق، وكما تمدينوا بصنائع العمران تدينوا بما اتخذوه من الأديان.."، كان يعتقد أن: "إرادة التمدن للوطن لا تنشأ إلا عن حبه من أهل الفطن كما رغّب فيه الشارع".

أما المرأة فليس أدل على جهده في تحريرها من كتابه "المرشد الأمين"، دافع فيه دفاعا حارا عن عقل المرأة وإنسانيتها وتكوينها، وعن جدارتها بالعلم والعمل، وتمكنها من التعليم والرياسة، وأطنب في ذكر تواريخ الملكات العظيمات اللائي حكمن الأمم شرقا وغربا، وترك بعد كل شيء وثيقة عقد زواجه بمثابة جوهرة التاج في كفاحه لتحرير المرأة، جاء فيها: "التزم كاتب الأحرف رفاعة بدوي رافع لبنت خاله المصونة الحاجة كريمة بنت العلامة الشيخ محمد الفرغلي الأنصاري أنه يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أيا ماكانت، وعلقت عصمتها على أخذ غيرها من نسا أو تمتع بجارية أخرى، فإذا تزوج بزوجة أيا ما كانت، كانت بنت خاله بمجرد العقد عليها خالصة بالثلاثة، كذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين، ولكن وعدها وعدا صحيحا لا ينتقض ولا ينحل أنها ما دامت معه على المحبة المعهودة مقيمة على الأمانة والحفظ لبيتها ولأولادها ولخدمها وجواريها، ساكنة معه في محل سكناه، لا يتزوج بغيرها أصلا ولا يتمتع بجوار أصلا، ولا يخرجها من عصمته حتى يقضي الله لأحدهما بقضاء".
--------------------------
بقلم: عصام الزهيري 
من المشهد الأسبوعي

رواد التنوير (1) "عبدالرحمن الجبرتي" .. معمم فتحت الحملة الفرنسية عيونه على الحضارة الحديثة

رواد التنوير (2) "حسن العطّار": شيخ الأزهر الذي درّس الممنوعات وربّى المفكرين العظام






اعلان