26 - 04 - 2024

رواد التنوير (2) "حسن العطّار": شيخ الأزهر الذي درّس الممنوعات وربّى المفكرين العظام

رواد التنوير (2)

- جعل يُنبّه الأزهريين في عصره إلى واقعهم الثقافي والتعليمي، ويبين لهم ضرورة دراسة الفلسفة والأدب والجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية
- قال: إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها
- المؤرخ "على مبارك": "أكابر المشايخ كانوا إذا جلس العطار للدرس تركوا حلقاتهم وقاموا إلى درسه".
- فر إلى الصعيد بسبب الحملة الفرنسية ثم صادق علماءها وسافر للخارج وكتب: "أرى الأسفار تتلاعب بي كالكرة في ميدان البلدان"

قاريء مدونتيّ "عبدالرحمن الجبرتي" التاريخيتين "عجائب الآثار" و"مظهر التقديس"، ومدونتيّ "رفاعة الطهطاوي" الأحدث "تخليص الإبريز" و"المرشد الأمين"، يمكنه أن يستنتج منها وجود حلقة اتصال تنويرية مهمة ربطت بين الرائدين في تاريخ التنوير والنهضة المصرية الحديثة، وربطت كذلك بين سيرة كاتبيها اللذّين عاش أولهما – الجبرتي – ما بين عامي (1753-1825م)، وعاش ثانيهما – الطهطاوي – بين عامي (1801 – 1873م). لكنها وصلت بالأهم بين الصيغة العقلية – أو العقلانية – المشتركة بين العقليتين النابهتين في التاريخ المبكر للتنوير والنهضة، وقد تمثلت هذه الصيغة التنويرية في مبدأ "التحسين والتقبيح العقلي" كما عُرف عند تيار العقلانية في تراث علم الكلام الإسلامي. وهو المبدأ الذي لاحظ "الجبرتي" و"الطهطاوي" في مدوناتهم تجسمه في معارف ومظاهر المدنية الفرنسية الحديثة. 

يقول المؤرخ "الجبرتي" في مقدمة كتابه "مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس": "كان ممن اعتنى بجمع تلك الأخبار، ونقل غرايب هاتيك الآثار، قطب الفضلاء تاج النبلاء، ذو الذكاء المتوقد والفهم المسترشد، الناظم الناثر، الآخذ من العلوم العقلية والأدبية بحظ وافر، صاحبنا العلاّمة "حسن بن محمد" الشهير بالعطّار". وفي مقدمة كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" يقول رائد التنوير المصري "رفاعة الطهطاوي": "ﻓﻠﻤﺎ رُﺳﻢ اﺳﻤﻲ في ﺟﻤﻠﺔ المسافرين (كإمام للطلبة المبعوثين إلى باريس)، وﻋﺰﻣﺖ على اﻟﺘﻮﺟﻪ، أﺷﺎر عليّ ﺷﻴﺨﻨﺎ "اﻟﻌﻄﺎر" أن أﻧﺒﻪ على ﻣﺎ ﻳﻘﻊ في ﻫﺬه اﻟﺴﻔﺮة، وعلى ﻣﺎ أراه وﻣﺎ أﺻﺎدﻓﻪ ﻣﻦ الأمور اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ، والأشياء اﻟﻌﺠﻴﺒﺔ، وأن أقيّده ليكون نافعا في ﻛﺸﻒ اﻟﻘﻨﺎع ﻋﻦ ﻣﺤﻴّﺎ ﻫﺬه اﻟﺒﻘﺎع".

كان الإمام "حسن العطّار"، صديق "الجبرتي" وأستاذ "الطهطاوي" هو حلقة الوصل الفكرية التنويرية العظيمة بحق.

الولع بالمعارف

إمام الأزهر السابق وأول رئيس تحرير لجريدة "الوقائع المصرية" الشيخ "حسن بن محمد بن محمود العطّار" (1766م - 1835م). قال عنه المؤرخ "عبدالرحمن الرافعي": "كان من علماء مصر الأعلام، وامتاز بالتضلع في الأدب وفنونه، والتقدم في العلوم العصرية، وكان هذا نادرا بين علماء الأزهر". وقال عنه "رفاعة": "كان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية". ووصفه "الجبرتي" بأنه: "صاحبنا العلاّمة، وصديقنا "الفهامة، المنفرد الآن بالعلوم الحِكَمية (الفلسفية والطبيعية)، والمشار إليه في العلوم الأدبية، وصاحب الإنشاء البديع، والنظم الذي هو كزهر الربيع". ويقول عنه "أحمد تيمور باشا": "مفتاح شخصية العطّار يكمن في حبه الأصيل للعلم، والكلف بالمعرفة والتعلم هو الذي جعله فذا بين أقرانه تلميذا وأستاذا، وهو الذي صاحبه في كافة مراحل حياته وجعله حدثا في عصره". وقال هو عن نفسه: "من سمت همته به إلى الإطلاع على غرائب المؤلفات، وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثير من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم".

ولد "العطّار" بالقاهرة وكان أبوه فقيرا من أصل مغربي له إلمام بالفقه ويعمل بتجارة العطارة. كان "حسن" يساعد والده في دكانه، ولشدة ذكائه وحبه للتعلم كان يختلف إلى حلقات الأزهر. لمّا علم والده بشغفه بالتحصيل شجّعه، فاجتهد واستزاد من العلوم حتى بلغ مرتبة التميز والتصدي للتدريس في زمن قليل. ولم يكتف بما حصّله من العلوم الدينية، فعكف على دراسة العلوم الإنسانية والطبيعية كما توفرت له في الكتب الموروثة. ولعل هذه النشأة الفقيرة، بالإضافة إلى النبوغ الذهني والميول العقلية والإخلاص للعلم، مع تعلمه مهارات التجارة منذ نعومة أظافره، كان له الفضل فيما اشتهر به "العطّار" من تغلب البساطة والسلاسة وسهولة الفكرة على أسلوب كتابته، فلم تجد صنعة الإنشاء - بما تزخم به من سجع ومحسنات وبديع على عادة أهل الكتابة والإنشاء في عصره – ارتياحا منه، فقد وجدها تشوش على وضوح الفكرة وتصعب من نقلها للقاريء. وهو ما نلمسه في مؤلفاته العلمية التي اقتربت في أسلوبها من التعبير العلمي المنضبط في عصرنا،. أما مؤلفاته الأدبية فرغم استخدامه لأدوات المحسنات البلاغية لمعاصريه، إلا أنه أبدى نفورا من التزام التقليد الموروث في عمود الشعر العربي، وانتقد الانغلاق والاكتفاء بالموضوعات الشعرية التقليدية، وجعل نزوعه العقلي شعره أقرب للنظم المرتكز على التوليدات المنطقية.

مؤلفاته

بنظرة على قائمة مؤلفات "العطّار" العلمية يمكن اكتشاف طبيعة وأهمية ما نشره بين تلامذته من معارف قادت منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر إلى عصر النهضة الفكرية في مصر. من بين تلك المؤلفات "حاشية العطّار على شرح إيساغوجي لأثير الدين الأبهري". "وإيساغوجي" لفظة يونانية تعني: المدخل، وهو عنوان الكتاب الذي وضعه الفيلسوف السوري "فرفوريوس الصوري" (234 – 305م) ليكون مدخلا للمقولات المنطقية. ومنها حاشيته على "شرح المقولات المسمّى بالجواهر المنتظمات في عقود المقولات". و"رسالة في كيفية العمل بالأسطرلاب والربعين المقنطر والمجيب والبسائط"، وهي آلات رصد فلكية استخدمها العلماء القدامى في رصد المسافات بين الأجرام السماوية، وتحديد مواقع النجوم وساعات الليل والنهار والجهات الأصلية وغير ذلك. بالإضافة إلى رسائله في الطب والتشريح والصيدلة والهندسة والرياضيات. 

كان للعالم – إلى جانب غرامه بالشعر - غرام بالموسيقى وسماع الصوت واللحن الجميل، وهو ما أثار حقد المتعصبين عليه ووجهوا له اللوم بسببه عندما كان شيخا للأزهر. وله أبيات شعرية ظريفة تدور حول تآليفه العلمية قال فيها:

وعندي من التأليف شيءٌ وضعتُه على شرح قانون الحفيد أخي السِّبطِ

ثلاثُ مقالاتٍ كبارٍ وضعتُها لتعريف حال الكيِّ والفَصْد والبَطِّ 

وجزءٌ على شرح المبرِّد كامل أُبيِّنُ فيه غامضَ النصِّ بالقطِّ 

وألَّفتُ في علم الجراحة نُبذةً لتعريف أكل الفول بالقطع والخطِّ

غير أن أثمن ما تركه "العطّار" من تراث فكري لم يكن كتاباته العلمية التي تجاوزتها معارف عصرنا، ولا كتاباته الأدبية الدالة على نبوغه الذهني، ولا شروحه الفقهية والكلامية التي دارت في معظمها في دوائر الموروث الفقهي والكلامي. إنما أهم ما تركه الرائد المستنير كان حلمه بأن يتقدم المصريون على طريق العلم والمدنية، وأن يصير بمصر مدارس للعلوم والفنون والطب والفلك والهندسة، وهو ما أوجزه في صرخته الشهيرة وهو يرى ما لدى غير المصريين من تقدم وعلوم وحضارة: "إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها". ورغم فشله في تحقيق التقدم المعرفي الذي حلم به عن طريق إصلاح الأزهر، بسبب معاداة المتشددين والجامدين والمتعصبين لكل تحديث في مناهج العلوم أو تجديد في ثوابت وأدوات المعرفة الموروثة، إلا أنه نجح في تحقيق ذلك من طريق آخر، هو رعاية كوكبة من المفكرين النابهين الذين حملوا رسالة التحديث في مجالات مختلفة، وكان من أشهر نوابغ تلامذته رائد الفكر المصري الحديث "رفاعة رافع الطهطاوي".

صلته بعلماء الحملة

لما دخل الفرنسيون مصر سنة 1798م، غادر "حسن العطّار" القاهرة فارا مع جماعة من العلماء إلى الصعيد، وكان وقتها في الثانية والثلاثين من عمره. ورغم تطمينات "نابليون" للعلماء الفارّين في منشورات طبعها في مطبعة الحملة وأمر بتوزيعها في القاهرة والأقاليم، قال فيها إن الفرنسيين "مسلمون مخلصون"، وأنه أتى لمصر لتخليصها من حكم "المماليك المجلوبين"، وإنصاف المظلومين ونشر مباديء الحرية والتسوية (المساواة).. إلى آخر تلك الألاعيب التي استطرفها نابليون في مذكراته. إلا أن "العطّار" لم يصدق ذلك، ويقول "الجبرتي" أنه بقى في أسيوط ثمانية عشر شهرا، وسجل بعض عبارات رسائله المليئة بالشوق للقاهرة، ومنها: "وما كنت لأوثر أن يمتد بي الزمان، حتى أرى الأسفار تتلاعب بي كالكرة في ميدان البلدان، حصل لي القهر بخروجي من القاهرة، واغبر أخضر أيامي الزاهرة،ولقد ألجأتني الخطوب للاغتراب، واضطرتني شئون السفر الذي هو قطعة من العذاب، إلى التقلب في قوالب الاكتساب..". 

تلك المعاناة سنرى فيما بعد أنها هانت على الشيخ الشغوف بالمعارف خلال سفره إلى الأناضول وألبانيا والشام. لكنه عندما رجع من إقامته في أسيوط سنة 1799م ورأى جنود الحملة منتشرين في كل مكان هجاهم في البداية، وعبّر عن احتقاره لهم بشعر قال فيه: 

"إن الفرنسيس قد ضاعت دراهمهم فى مصرنا بين حمّار وخمّار 

وعن قريب لهم فى الشام مهلكة يضيع فيها لهم آجال وأعمار"

بدأ الإمام اتصاله بعلماء الحملة ليعلّم أحدهم اللغة العربية، وهو ما جعله يرى وجها آخر من وجوه المستعمر. ولم يكن الوجه الذي رآه يقل قبحا فقط، لكنه كان شديد الجمال والبريق والغواية، لم يكن بالطبع غير وجه معارف وفنون المدنية الفرنسية الحديثة. وهو ما ذكره عندما كتب في أصناف الكتب والآلات التي وجدها عند علماء الحملة: "وكلها كتب في العلوم الرياضية والأدبية وأطلعوني على آلات فلكية وهندسية"، كما أشاد بمكتباتهم ومعاملهم ومصانعهم، وبحبهم للفلسفة وحرصهم على اقتناء الكتب والتطلع فيها، وتكلم عن غرامه هو بالكتب وولعه بالعلوم والصناعات الدقيقة فقال: "وقع في زمننا أن جُلبت كتب من بلاد الإفرنج، وفيها أعمال كثيرة وأفعال دقيقة أطلعنا على بعضها، وقد تتحول تلك الأعمال بواسطة الأصول الهندسية والعلوم الطبيعية من القوة إلى الفعل، وتكلموا في الصناعات الحربية والآلات النارية، ومهدوا فيها قواعد وأصولا، حتى صار ذلك علما مستقلا مدونا في الكتب، وفرعوه إلى فروع كثيرة".

توثقت صلة "العطّار" بعلماء الحملة بشكل قوي، وتوسعت بذلك مصادر إطلاعه على العلوم والمعارف الأوروبية الحديثة، وتوهج مع ذلك حماسه لأخذ العلم عنهم وضرورة الانتفاع به. والمعروف أن الدستور الفرنسي تُرجم للعربية خلال وجود الفرنسيين في مصر، وأعادت مطبعة الحملة إصداره في ثلاث طبعات، ولا شك بذلك أن "العطّار" قرأ الدستور الفرنسي بفضل ولعه بالكتب المترجمة، ورأى في مواده ركائز قوية للمدنية والتقدم العلمي، ولعل ذلك ما ألهم تلميذه "الطهطاوي" - الذي وعى قيمة نصح أستاذه بتدوين رحلته – أن يترجم مواد الدستور الفرنسي. 

وبعكس ما بشرت به قيم الدستور الفرنسي من حرية وعدل ومساواة، رأى المصريون تناقض ممارسات نابليون وقواد الحملة تناقضا تاما معه. فرغم أن تشكيل أول حكومة (ديوان) مصرية في البلاد منذ آلاف السنين وقع في عهد الحملة الفرنسية، إلا أنها لم تكن أكثر من حكومة شكلية، ولم تكن صلاحيات الإدارة وسن القوانين في يدها بالفعل، لكنها كانت في يد الفرنسيين الذين فجعوا المصريين بما فرضوا عليهم من الضرائب والفُرض والإتاوات والسُلف بالإكراه. وهو ما أسقط وعود نابليون البراقة وتسبب في سخط وغضب عارم بين المصريين انتهى بثورة القاهرة الأولى والثانية. وقد عانى القاهريون في ثورتهم الثانية بالذات الأمرّين من عنف ووحشية وهمجية ممارسات المماليك والجند العثمانيين تارة، ومن عنف ووحشية وهمجية القمع الفرنسي وحرقهم للقاهرة تارة أخرى، مما أدى إلى تحول المدينة الزاهرة إلى كومات من الخرائب المهدومة والبيوت المحترقة. 

رحلة طويلة خارج مصر

ربما تنطوي تلك الأحداث المؤسفة على تفسير لرحلة "حسن العطار" الطويلة خارج مصر، بخلاف ما فسرها به باحثون بالهرب من غضب الفرنسيين عليه، وقد كانت علاقته جيدة ووثيقة بعلماء الحملة كما رأينا. وأيضا بخلاف ما فسرها به باحثون آخرون من أنها رحلة فرار من غضب رجال الأزهر منه بسبب علاقاته الجيدة مع الفرنسيين، ولم يكن "العطّار" هو المصري أو الأزهري الوحيد صاحب العلاقة الجيدة بالفرنسيين. 

المؤكد من سيرة الإمام كان غرامه الكبير بمصر وقاهرتها، ويذكر "الجبرتي" وصفا له لبركة الأزبكية التاريخية يفوح بهذا العشق، قال فيه:

"أما بركة الأزبكية فهي مسكن الأمراء ومواطن الرؤساء، قد أَحدقت بها البساتين الوارفة الظلال، العديمة المثال، فترى الخضرة في خلال تلك القصور المبيضة كثياب سندس خضر على أثواب من فضة، يوقد بها كثير من السروج والشموع، فالأُنس بها غير مقطوع ولا ممنوع، وجمالُها يُدخل على القلب السرور، ويذهل العقل حتى كأنه من النشوة مخمور، ولطالما مضت لي بالمسرة فيها أيام وليالي، هن سمط الأيام من يتيم اللآلي، وأنا أنظر إلى انطباع صورة البدر في وجناتها، وفيضان لجين نوره على حافاتها وساحاتها، والنسيم بأذيال ثوب مائها الفضي لعاب، وقد سلّ على حافاتها من تلاعب الأمواج كل قِرضاب، وقام على منابر أدواحها في ساحة أفراجها مغردات الطيور، وجالبات السرور، فلذيذ العيش بها موصول". 

وقد تحولت منطقة بركة الأزبكية خلال أحداث ثورة القاهرة الثانية العنيفة وقمع الفرنسيين الوحشي لها إلى تلال محزنة من الخرائب المحترقة.  

في عهد محمد علي

 زار الإمام "العطار" في سفره خارج مصر تركيا ونزل بعاصمتها، وأقام في ألبانيا مدة طويلة سكن خلالها بمدينة "شكودره" وتزوج بها، و ودخل بلاد الشام سنة 1810م وعمل في التدريس بها لخمس سنوات، لم يعد إلا في عهد "محمد علي باشا" الذي تولى الحكم بفضل ثورة المصريين وتحديهم للفرنسيين، ومن بعد خروج الفرنسيين تحديهم للعثمانيين وثورتهم على ولاتهم. عاد الشيخ لمصر بعلوم كثيرة جعلت أكابر مشايخ الأزهر يقرون له بالانفراد ويلتفون حول دروسه. كان الأزهري الوحيد القادر على أن يعقد مجلسا لشرح تفسير البيضاوي، كما قال المؤرخ "على مبارك": "أكابر المشايخ كانوا إذا جلس للدرس تركوا حلقاتهم وقاموا إلى درسه".

كانت مصر بعد رحلته تغيرت كثيرا، بعد أن ملك زمامها الوالي "محمد علي" وبدأ مشروعه لتحديث وتمدين ونهضة مصر. رأى "العطّار" كثيرا من أحلامه تجسمت في الواقع على أرض وادي النيل، فتقرب من الباشا "محمد علي" وأصبح من مستشاريه، تولى رئاسة تحرير جريدة "الوقائع المصرية" وهي جريدة الدولة الرسمية، ثم مشيخة الأزهر. وكما ذكر المؤرخ "أحمد تيمور": "اتخذت جهود الرجل عدة مظاهر: أولها أنه جعل يُنبّه الأزهريين في عصره إلى واقعهم الثقافي والتعليمي، ويبين لهم ضرورة إدخالهم المواد الممنوعة؛ كالفلسفة والأدب والجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية، كما يبين ضرورة إقلاعهم عن أساليبهم في التدريس، ووجوب الرجوع إلى الكتب الأصول وعدم الاكتفاء بالملخصات والمتون المتداولة، ويتوسل إلى ذلك بكل وسيلة، يقول في شرحه لكتاب "جمع الجوامع في أصول الفقه" مبينا الفارق بين علماء عصره والعلماء الأفذاذ الذين عرفهم العالم العربي قبل عصر العطار، ومحطما أكذوبة تحريم الدين الإسلامي لبعض العلم: "من تأمل ما سطرناه وما ذُكِر من التصدي لتراجم الأئمة الأعلام، علم أنهم كانوا - مع رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية - لهم اطِّلاعٌ عظيم على غيرها من العلوم، وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع، ثم هم مع ذلك ما خلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات. وفيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه عُلِم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم، فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئا من عند أنفسنا، وليتنا وصلْنا إلى هذه المرتبة، بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألَّفها المتأخرون والمستمدون من كلامهم نكررها طول العمر، ولا تطمح نفوسنا إلى النظر في غيرها حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب، فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخلَّصنا منه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه، أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في «جمع الجوامع» فلا أصل لها، أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة، وهكذا فصار العذر أقبح من الذنب.. وهذه نفثة مصدور". 

بدأ "العطّار" بنفسه التحدي للجمود العلمي الأزهري بتدريس المواد الممنوعة، ثم بتربية تلامذة نابغين أكملوا رحلة التنوير العظيمة.
------------------------------
بقلم: عصام الزهيري


من المشهد الأسبوعي






اعلان