19 - 04 - 2024

رواد التنوير (1) "عبدالرحمن الجبرتي" .. معمم فتحت الحملة الفرنسية عيونه على الحضارة الحديثة

رواد التنوير (1)

تتلمذ على يد مرتضى الزبيدي صاحب "تاج العروس" وتأثر بـ "إسماعيل الخشاب" و"حسن العطار" حين كان كان الأزهر مهد الاستنارة  
عيَّنَهُ "مينو" ضمن وزراء الديوان فأتاح له ذلك معايشة عن قرب لمجريات الأحداث وكتب مدونته العظيمة "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"
ما رآه في معامل "المجمع العلمي" من اكتشافات التفاعلات الكيمائية والطاقة الكهربية ضاعف احساسه بوضعية التردي العلمي والذهني للاحتلال العثماني
انتصار الفرنسيين على المماليك لفت انتباهه لأهمية العلوم العسكرية .. كما نظر بإعجاب إلى احترام "الغزاة" للقانون رغم كراهيته للحملة  

ليس من الغريب أن يقود البحث في المراحل الريادية للفكر التنويري في مصر الحديثة إلى زمن الحملة الفرنسية (1798 – 1801م)، فقد أرخّت وقائع الحملة لتصدع وسقوط سور الخلافة العثمانية الحديدي الذي فرضه السلاطين الأتراك من أسطنبول على المصريين والشعوب العربية، وهو سور عاش المصريون وراءه في عزلة، أسرى لثقافة القرون الوسطى المتحجرة، منذ غزو السلطان "سليم الأول" لمصر سنة 1517م وتحولها إلى ولاية من ولايات الخلافة العثمانية. ومع المواجهات والثورات والانتفاضات التي قاموا بها ضد الاحتلال الفرنسي ارتطم المصريون بحقائق تخلفهم القاسية بفعل احتلال ربما كان هو الأسوأ في تاريخهم هو الاحتلال التركي. 

ليس من الغريب أيضا أن يقودنا البحث في ريادة التنوير إلى شخصية أزهرية مثل "عبدالرحمن الجبرتي (1753 – 1825م). فالتنوير موقف فكري يقوم – طبقا لتعريف الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" – على أساس الخروج من حالة القصور الناتجة عن عدم استعمال العقل والقبول بالعيش تحت الوصاية، إلى حالة الرشد أو الاستنارة وعنوانها الرئيسي الجرأة في استعمال العقل. رأى "كانت" أيضا أنه يصعب على المرء أن يتحرر بمفرده، والأقرب إلى الإمكان أن يستنير جمهور برمته، وإن كان ذلك يحدث على مهل وليس بشكل فجائي ولا في كرّة واحدة، إنما تبدأ الاستنارة دائما من تحديث قيم العقل والفكر والثقافة عن طريق طليعة شعبية مثقفة، وقد مثّل تلك الطليعة في هذا الزمن المبكر العلماء الأزهريون.

ولأن "الجبرتي" كان مؤرخا فقد كان الأجدر بموقعه الريادي في رصد واستيعاب لحظة المواجهة الفارقة بين حضارتين تنتميان لزمنين مختلفين، وتجسيد وقائعها التاريخية المذهلة في مدونته العظيمة "عجائب الآثار في التراجم والأخبار". وهي المدونة التي أصبحت مصدرا مهما من مصادر التأريخ لحركة الاستنارة والتحديث الحضاري في مصر القرن التاسع عشر، وإذا كانت أوروبا سبقتنا إلى الحضارة الحديثة فلم يكن ذلك إلا لأنها - كما تدل مدونة "الجبرتي" - سبقتنا إلى فكر الاستنارة، ومعارف العقل والعلم الحديث، وبناء الدولة الوطنية، وذلك بنحو خمسة قرون.

**

تعود أصول "الجبرتي" الأسرية إلى بلدة "جبرت" الحبشية وقد نزح جده "زين الدين" إلى مصر سنة 1600م لاستكمال دراسته في الأزهر، وتولى مشيخة رواق الجبرتية، وخلفه فيه أولاده وصولا إلى الوالد "حسن الجبرتي"، ونعرف عنه أنه كان مهتما بالعلوم الوضعية والهندسية بالإضافة إلى علوم الدين واللغة، وأن داره بالصنادقية ضمت مكتبة عامرة، بها أجهزة هندسية كالأسطرلاب، وهو آلة فلكية قديمة سماها العرب "ذات الصفائح" تمكّن مستخدمها من حساب الزمن وترتيب مواقع الأجرام السماوية. 

في هذا الجو الديني والعلمي نشأ "عبدالرحمن الجبرتي" وكان أول من وجّهه إلى كتابة التاريخ السيد "مرتضى الزبيدي" - صاحب المعجم المشهور "تاج العروس" – وهو من أصل يمني، بقى بعد رحيل علماء الأزهر الراسخين علما فردا شهيرا، وأدى به غرور الانفراد إلى التأله، فكان يأذن لمريديه من المغاربة أن يسجدوا ويقبلوا الأرض بين يديه. زامل "الجبرتي" خلال رحلة تعليمه علمين آخرين من أعلام ذلك الزمان، لعب كلاهما دورا تنويريا مهما وهما الشيخ "إسماعيل الخشاب" و"حسن العطار" شيخ الأزهر فيما بعد خلال دولة "محمد علي باشا". 

حين دخل "نابليون بونابرت" القاهرة بعد انتصاره في معركة "إمبابة" كان "الجبرتي" في نحو الخامسة والأربعين من عمره، هرب مع غيره من علماء الأزهر قاصدا "أبيار" لكن "نابليون" طمأن الهاربين وطلب رجوعهم، فعاد "الجبرتي" بعد أن صدر مرسوم تشكيل أول ديوان (مجلس وزراء) في تاريخ مصر، ولم يكن يضم اسم "الجبرتي" بين قائمة أعضائه بعكس الديوان الثاني الذي تم تأليفه زمن "مينو" القائد الثالث للحملة وكان "الجبرتي" في قائمة أعضائه بين وزراء الديوان. 

هذا القرب من أوساط قيادة الحملة مكنت المؤرخ من مراقبة واستقصاء وتحليل أحداث هذا الزمن العجيب، بروح مؤرخ موضوعي يتحلى بالتدقيق وحب الحقيقة والتعطش للمعرفة، لا بروح الوطني الرافض أو الثائر المتعصب، فرغم أنه أدان مظالم وجرائم الحملة واحتلالها لمصر، لكنه تردد على المكتبة التي صحبتها للإطلاع، وزار معاملها ومتاحفها للوقوف على "عجائب" العلوم الحديثة، واستمع لمحاضرات علمائها وبحوثهم العلمية وعرفهم ورافقهم. عاش "الجبرتي" أكثر من واحد وسبعين عاما عاصر خلالها ثلاث عصور تاريخية مختلفة: عصر الترك والمماليك، عصر الحملة الفرنسية، ثم عصر "محمد علي" وتأسيس الدولة الحديثة. وعباراته في التنديد بمثالب العصور التي عاشها تملأ مدونته "عجائب الآثار"، لكن يقظته على ما تضمنته التقلبات من كشف وجه حضارة أحدث وأرقى، ووعيه بضرورة تعويض المصريين لنصيبهم الضائع منها، كان أهم أوجه التعبير والتكوين الموضوعية لمشروع الاستنارة الفكري الذي اضطلعت به تلك الطليعة الوطنية من مثقفي الأزهر في زمن "الجبرتي".

**

لا شك أن العلوم بمكتشفاتها ونظرياتها ومناهجها الحديثة كانت هي القاعدة الراسخة للتنوير في الفكر المصري الحديث بل.. والقديم أيضا. لكن الفكر المصري في حضارته القديمة كان الرائد السبّاق إلى علوم ومعارف أزمنته، وكان منارة أضاءت بها علوم المصريين وفلسفتهم سائر ميادين الحضارة، وترقت من خلالها معارف شعوب أخرى مهدت لها العلوم المصرية وسائل التحضر. أما في زمن "الجبرتي" فقد ألقيت على عاتق الفكر المصري مهمتان لعلهما كانتا الأشق في تاريخه، هما: مهمة استيعاب قرون من تراكم المعارف العلمية والإنسانية سبقتنا إليها شعوب أوروبا فصارت تفصلنا عنها بقرون متعاقبة، ومهمة تصحيح مسار العقل المصري على ضوء تلك المعارف المتقدمة ووضعه على طرق ريادة التحضر من جديد. 

كان على عقل الثقافة المصرية في زمن "الجبرتي" تلقي تلك الصدمة الحضارية القاسية وهضمها واستيعابها، والتهيؤ لإفراز مشروع الحداثة والتحضر المصري الجديد من خلالها، وهو ما نهض به جيل "الجبرتي" على أكمل وجه ممكن طبقا لمعايير زمنه.

في صدارة المراسيم التي أصدرها "بونابرت" بعد نجاح غزو الحملة لمصر كان مرسوم إنشاء المجمع العلمي المصري المؤرخ في 22 أغسطس 1798. قوام المجمع 48 عالما فرنسيا ضمتهم الحملة في مختلف التخصصات: 12 عضوا في الرياضيات، و12 عضوا في العلوم الطبيعية، و12 عضوا في الاقتصاد والانسانيات، و12 عضوا في الآداب والفنون. وهذا ما رواه "الجبرتي" في الجزء الثاني من "عجائب الآثار" عن المجمع العلمي: "ومنها أنهم أحدثوا على التل المعروف بتل العقارب بالناصرية أبنية وكرانك وأبراجا، ووضعوا فيها عدة من آلات الحرب والعساكر المرابطين فيه، وهدموا عدة دور من دور الامراء وأخدوا أنقاضها ورخامها لأبنيتهم، وأفردوا للمدبرين والفلكيين وأهل المعرفة والعلوم الرياضية كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات والمصورين والكتبة والحساب والمنشئين حارة الناصرية حيث الدرب الجديد، وما به من البيوت.. جملة كبيرة من كتبهم وعليها خُزّان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة، ومن يريد المراجعة فيراجعون فيها مرادهم، فتجتمع الطلبة منهم كل يوم قبل الظهر بساعتين، ويجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب، على كراسي منصوبة موازية لتختاة عريضة مستطيلة، فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء منها، فيحضرها له الخازن، فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر، وإذا حضر إليهم بعض المسلمين (المصريين) ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصا إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعا للنظر في المعارف بذلوا له مودتهم ومحبتهم، ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها الأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث أممهم مما يحير الافكار، ولقد ذهبت إليهم مرارا واطلعوني على ذلك.."

ويقول "الجبرتي": "فمن جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومصورين به صورته الشريفة على قدر مبلغ علمهم واجتهادهم، وهو قائم على قدميه ناظرا إلى السماء كالمرهب للخليقة، وبيده اليمنى السيف وفي اليسرى الكتاب، وحوله الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم السيوف، وفي صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين، وفي الأخرى صورة المعراج والبراق وهو صلى الله عليه وسلم راكب عليه". ولعلك لاحظت أن المؤرخ - وهو العالم الأزهري ذو الثقافة الدينية - لم يستنكف أو يستنكر تصوير الفنانين الفرنسيين للنبي "على قدر مبلغ علمهم واجتهادهم".

**

بعد أن يصف ما لديهم من "الصور والأشكال والأفلام المرسومة" وأطالس المدن وأجناس الطير والحيوان والنبات والأعشاب وعلوم الطب والتشريح والهندسيات وجر الأثقال والكتب المترجمة بكل دقة، يقول "الجبرتي": "ورأيت بعضهم يحفظ سورا من القرآن ولهم تطلع زائد للعلوم وأكثرها الرياضة ومعرفة اللغات، واجتهاد كبير في معرفة اللغة والمنطق، ويدأبون في ذلك الليل والنهار، وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفها واشتقاقاتها، بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت. وعند "توت" الفلكيّ وتلامذته (من علماء الحملة) في مكانهم المختص بها الآلات الفلكية الغريبة المتقنة الصنعة، وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب الغالية الثمن المصنوعة من الصفر (النحاس) المموه، وهي تركب ببراريم مصنوعة محكمة كل آلة عدة قطع تركب مع بعضها البعض برباطات وبراريم لطيفة، بحيث إذا ركبت صارت آلة كبير أخذت قدرا من الفراغ، وبها نظارات وثقوب ينفذ النظر منها إلى المرئي وإذا انحل تركيبها وضعت في ظرف صغير، وكذلك نظارات للنظر في الكواكب وارصادها ومعرفة مقاديرها واجرامها وارتفاعاتها واتصالاتها ومناظرتها، وأنواع المنكابات والساعات التي تسير بثواني الدقائق الغريبة الشكل الغالية الثمن وغير ذلك، وأفردوا لجماعة منهم بيت إبراهيم كتخدا السنارى وهم المصورون لكل شيء، ومنهم "اريجو" المصور وهو يصور صور الآدميين تصويرا يظن من يراه انه بارز في الفراغ بجسم يكاد ينطق". ولعلك لاحظت هنا أيضا كيف أن عقل الأزهري المتيقظ لفنون المعرفة الحديثة لا يستنكر أو يستنكف أو يحرّم تصوير الآدميين تصويرا يظن من يراه أنه حي.

لكنه عندما يصل إلى وصف ما رآه في معامل المجمع من اكتشافات التفاعلات الكيمائية والطاقة الكهربية، يبلغ احساسه بوضعية التردي العلمي والذهني المصري ذروة مرارته، فيقول: "ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن أحد المتقيدين (الموكلين) بذلك.. أخذ مرة شيئا قليلا جدا من غبار أبيض ووضعه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة (البندقية) انزعجنا منه فضحكوا منا، واخذ مرة زجاجة فارغة مستطيلة في مقدار الشبر ضيقة القسم، فغمسها في ماء قراح موضوع في صندوق من الخشب مصفح الداخل بالرصاص، وأدخل معها أخرى على غير هيئتها وأنزلهما في الماء، وأصعدهما بحركة انحبس بها الهواء في أحدهما، وآتى آخر بفتيلة مشتعلة وأبرز ذلك فم الزجاجة من الماء، وقرب الآخر الشعلة إليها في الحال، فخرج ما فيها من الهواء المحبوس وفرقع بصوت هائل أيضا، وغير ذلك أمور كثيرة وبراهين حكمية تتولد من اجتماع العناصر وملاقاة الطبائع، ومثل الفلكة المستديرة التي يديرون بها الزجاج فيتولد من حركتها شرر يطير بملاقاة أدنى شيء كثيف، ويظهر له صوت وطقطقة، وإذا مسك علاّقتها شخص ولو خيطا لطيفا متصلا بها، ولمس آخر الزجاجة الدائرة أو ما قرب منها بيده الأخرى، ارتج بدنه وارتعد جسمه وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجة سريعة، ومن لمس هذا اللامس أو شيئا من ثيابه أو شيئا متصلا به حصل له ذلك، ولو كانوا ألفا أو أكثر. ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا".

***

برغم كراهيته للاحتلال الفرنسي لم تقتصر براهين "الجبرتي" الحضارية الحكيمة ورصده الدقيق المستنير على مجال دون آخر من مجالات العلوم التجريبية واللغوية والفنون، لكنها امتدت لمجالات أخرى هامة مثل العلوم العسكرية بعد أن انتصر الفرنسيون على المماليك بفضل نظمهم المتقدمة وتخلف الأخيرين فيها، وهنا يلاحظ المؤرخ بإعجاب احترامهم للقانون متمثلا في إعدام بعض الجنود ممن قاموا بأعمال نهب وسطو. وفي مجالات التخطيط العمراني والميكنة وتنظيم علاقات العمل، أودع تاريخه فقرة بديعة بهذا الخصوص لاحظ فيها استغناء الفرنسيين عن عمالة السخرة جريا على العادة العثمانية والمملوكية الرديئة، فكتب: "قيدوا بذلك انفارا منهم يتعاهدون تلك الطرق، ويصلحون ما يخرج منها عن قالب الاعتدال بكثرة الدوس وحوافر الخيول والبغال والحمير، وفعلوا هذا الشغل الكبير والفعل العظيم في أقرب زمن ولم يسخّروا أحدا في العمل، بل كانوا يعطون الرجال زيادة عن أجرتهم المعتادة ويصرفونهم من بعد الظهيرة، ويستعينون في الأشغال وسرعة العمل بالآلات القريبة المأخذ السهلة التناول المساعدة في العمل وقلة الكلفة، كانوا يجعلون بدل الغلقان والقصاع عربات صغيرة ويداها ممتدتان من خلف، يملؤها الفاعل ترابا أو طينا أو أحجارا من مقدمها بسهولة بحيث تسع مقدار خمسة غلقان، ثم يقبض بيديه على خشبتيها المذكورتين ويدفعها امامه فتجرى على عجلتها بأدنى مساعدة إلى محل العمل، فيمليها بإحدى يديه ويفرغ ما فيها من غير تعب ولا مشقة، وكذلك لهم فؤوس وقزم محكمة الصنعة متقنة الوضع وغالب الصنّاع من جنسهم، ولا يقطعون الأحجار والأخشاب إلا بالطرق الهندسية على الزوايا القائمة والخطوط المستقيمة".

وفي ميدان القوانين يلحظ بإعجاب القوانين التي اقتضتها قواعد التمدن الحديث، مثل دفن الموتى خارج المدن بدلا من الأحواش والخرابات بداخل المدن، وإلزام الأهالي بإضاءة المصابيح أمام الدكاكين والبيوت، وكنس الشوارع وتبخير المنازل وتهوية المفروشات والإبلاغ عن المرضى، وفوق ذلك ضرورة نشر القوانين كشرط لإلزام الناس بالعمل بها. وأخيرا تأتي وقفته الطويلة مليئة بالدهشة والإعجاب أمام وقائع محاكمة "سليمان الحلبي" قاتل الجنرال "كليبر"، واكتشافه أن الاجراءات الجنائية لها قوانين يلزم التقيد بها مثل تشكيل المحكمة وقواعد التحقيق وسير المحاكمات والاستجواب والدفاع..إلخ. وهو ما كان يختلف كلية عن "أفعال أوباش العساكر الذين يدّعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية"، ولم تكن أفعال أوباش العسكر تلك غير أعمال العسف والنهب والانتقام على يد عسكر الترك والمماليك.

يبدو تقدير "الجبرتي" الكبير لمحاكمة "الحلبي" مؤلما أيضا بما يحمله من جلد سافر للذات: "ألفوا في شأن ذلك أوراقا ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها وطبعوا منها نسخا كثيرة باللغات الثلاث الفرنساوية والتركية والعربية... لتضمينها خبر الواقعة وكيفية الحكومة (إصدار الحكم)، ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكمّون العقل ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه (جعلوه يعترف)، ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه. وبالطبع لم يكن الفرنسيون كمجتمع حديث متطور يشكلون في تلك الآونة "طائفة" كما وصفهم المؤرخ، فانقسام المجتمعات إلى طوائف من سمات تركيب مجتمعات القرون الوسطى، وليست من طبيعة المجتمعات الوطنية الحديثة ذات السمات والقيم المؤسسية، كما أنهم لم يكونوا بلا دين كما تصور "الجبرتي"، فقد كان لمجمل جنود وقواد الحملة الفرنسية دينا يؤمنون به ويجلونه ويقدسونه كسائر الأمم، لكنهم يفعلون ذلك – كما ذكر – مع تحكيم العقل، وبدون خصال التعصب والتطرف العقائدي التي تلازم المجتمعات في أطوارها الحضارية المتأخرة.
---------------------
بقلم: عصام الزهيري
من المشهد الأسبوعي






اعلان