19 - 04 - 2024

أوهام المؤامرة على الإسلام تؤدي إلى احتلال البلدان الإسلامية

أوهام المؤامرة على الإسلام تؤدي إلى احتلال البلدان الإسلامية

مقولة المؤامرة ضد الإسلام ليست في حقيقتها إلا إغراقا في الوهم. قد يختلف معي الكثيرون في ذلك، وهذا الاختلاف ربما يكون جزءا مهما من الأزمة الذهنية المترتبة على أوهام المؤامرة. فالذين يجتهدون في اثبات وجود المؤامرات لا يمتلكون في الواقع أي دليل إثبات واقعي أو تاريخي، سوى مخاوفهم وتربصهم الخيالي وميلهم إلى تصديق وجود مؤامرة بأي ثمن. وهم لا يملكون دفاعا عن وجهة نظرهم سوى الاستشهاد بتصريحات لمتعصبين دينيين أو قوميين ضد العرب والمسلمين، والتعصب موجود في كل ثقافات ومجتمعات الدنيا، فلا يعني وجود التعصب أن تصوراته سائدة أو واقعية. والثقافات والمجتمعات البشرية رغم تاريخ طويل من الحروب فيما بينها، لم تحيا عبر تاريخ البشرية الطويل إلا بطرق التعاون والتكاتف والعلاقات التجارية والصناعية والثقافية المتبادلة، لم تستغرق الحروب والصراعات من تاريخها إلا أزمنة محدودة لا تضاهي من أي وجه بدهور ممتدة من التعاون والصلات التي تربط تلقائيا فيما بين الشعوب والأمم والحضارات.

وربما يستدل المغرقون في أوهام المؤامرة كذلك بمقولات تنتمي لمختلفين مع عقائد الإسلام، بعضهم باحثون ومستشرقون مشاهير، اختلافهم مع الإسلام هو اختلاف نظري معروف بين أصحاب الأنساق الفكرية والمعتقدية المختلفة، والاختلاف بالطبع ليس مؤامرة. لكنهم يستدلون أيضا بتاريخ من الاستعمار لدول وبلدان عربية وإسلامية، والاستعمار ظاهرة معروفة في تاريخ الشعوب، والمنافسة الاستعمارية بين دول الغرب الأوروبي – على رأسها انجلترا وفرنسا – خلال ثلاثة قرون، لم تكن المنافسة الاستعمارية الأولى ولا الوحيدة في تاريخ البشر، قبلها قامت منافسات استعمارية بين امبراطوريات الشرق القديم: مصر وفارس وآشور وبابل، وبين الفرس والإغريق، وبين روما وقرطاجنة، وبين العرب والفرس والبيزنطيين، وبين بيزنطة والأمويين والعباسين والأتراك والجراكسة، وبين الامبراطوريات الإسلامية وبعضها... وهلم جرا. تاريخ البشر جميعا لم يخل من صراع عسكري بين الامبراطوريات، وهو صراع غيّر مجرياته حلول عصر القوميات والدولة الوطنية الحديثة، فلم يعد ممكنا اليوم تصور أن دولة بوسعها ابتلاع دولا أخرى أرضا وسكانا!.

لكن الجدل حول وجود المؤامرة سلبا وإيجابا لا يجب أن يستغرقنا لننسى خطورة تفشي وتسلط أوهامها على العقول والأذهان. والخطورة تكمن في أن نظريات المؤامرة على أهبة الاستعداد دائما لتقدم لمعتنقيها دوافع وهمية لكل ما يدور في الواقع من حولهم، دوافع وأسبابا مضللة لا ظل لها من قريب أو بعيد بمجريات الواقع. هذا الغرق في هاجس المؤامرة كدافع وحيد أو قوي وراء حركة الأحداث، يسهّل تضليل أصحاب ذهنية المؤامرة عن حقائق الأمور ومسبباتها وقوانين الواقع التي تخضع، مما يسلس معه قيادهم والتحكم في حركتهم، وتسييرهم في اتجاهات خاطئة تؤدي للمفارقة إلى تحقق مخاوفهم، ليتحول اعتقادهم في وجود مؤامرة إلى ما يشبه النبوءة المشئومة التي تحقق نفسها.

تابع العالم كله منذ ثورات الربيع العربي في 2011 تلك الحرب الإرهابية المدمرة التي شنتها جماعات الإسلام السياسي ضد مجتمعات ودول مختلفة، ورأى انهيار بلدان كاملة وتحولها إلى بؤر إرهابية مرعبة، في الشام والعراق واليمن ووسط أفريقيا وآسيا. تلك المفارقة المهولة التي رآها الجميع هي أن تلك الجماعات الإسلامية المسلحة التي تلاعبت بها دول وامبراطوريات كبرى وصغرى من أجل مصالحها، كانت كلها في مقدمة من يعتنقون ويروجون نظريات المؤامرة ضد الإسلام، وباسم مواجهة المؤامرة ضد الإسلام وضعت تلك الجماعات نفسها في خدمة مصالح وأطراف خارجية، ودست أيديها الملوثة بالدماء في أيدي نفس الجهات والدول التي كانت – ولا زالت وهو الأغرب! – تتهمها بتزعم مؤامرة ضد الإسلام!. فهل تتزعم تلك الجهات والدول مؤامرات على الإسلام بالفعل؟ أم أنها جهات ودول تستخدم كل الأوراق المتاحة – مشروعة أم غير مشروعة – في سبيل تحقيق مصالحها؟!. الواقع أنها ليست أكثر من جهات ودول ذات مصالح، والواقع أنها تستخدم الأوراق المتاحة في لعب أدوارها بما يحقق مصالحها على ساحة السياسة العالمية، ومن تلك الأوراق التي أتيحت للعب - للأسف – هؤلاء الذين أفقدتهم أوهام المؤامرة على الإسلام توازنهم وقطعت صلاتهم بالواقع، ففقدوا مع ذلك – أو من قبله - بوصلة مصالح شعوبهم ودولهم وأوطانهم، وأغرقوا عقولهم في هلوسات تآمرية ضيعت بلدانها، لتجد نفسها في خاتمة المطاف أحد مكونات "المؤامرة"، وألعوبة في أسوأ ما يمكن تخيله من مؤامرات تدار ضد بلدانها!.

ولنا نحن المصريون بالذات في تاريخنا الحديث دروسا بالغة الأهمية في التحذير من خطورة الغرق في أوهام المؤامرة التي تحجب الواقع. على رأسها درس الحملة الفرنسية الذي أخرجت مقاومتها المصريين من وضع مستعمرة تركية، وقادتهم إلى وضع الدولة الحديثة المستقلة لأول مرة منذ قرون. المعروف من تاريخ الحملة النابلوينية على مصر  أن سببا مهما حال دون صدها وإفشالها تمثّل في اعتقاد السيد "محمد كريم" بوجود مؤامرة إفرنجية لاحتلال مصر. 

في يوم 28 يونيه 1798 وقبل وصول "نابليون" لمصر بحوالي اسبوع، حضر الأسطول البريطاني بقيادة الأميرال المشهور "نيلسون" للإسكندرية في طريقه للتفتيش عن الأسطول الفرنسي، بعد أن شاع في أعقاب غزو الفرنسيين لجزيرة مالطا أنهم في الطريق لغزو مصر. أرسل "نيلسون" للسيد "محمد كريم" قاربا يحمل "عشرة أنفار"، يقول عنه المؤرخ المصري الجبرتي: "فأخبروا أنهم إنجليز حضروا للتفتيش عن الفرنسيين لأنهم خرجوا بعمارة (أسطول) عظيمة يريدون جهة من الجهات، ولا ندري أين قصدهم فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم ولا تتمكنون من منعهم، فلم يقبل السيد محمد كريم منهم هذا القول، وظن أنها مكيدة، وجاوبهم بكلام خشن، فقالت رسل الإنجليز نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر، لا نطلب منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه، فلم يجيبوهم لذلك".

وليس علينا التفكير طويلا لنعثر على الدافع الذي فوّت على "كريم" فرصة استغلال الصراع الدولي وقتئذ لحماية مصر من الغزو الفرنسي. لم يكن هذا الدافع – مع إقرارنا بوطنيته – غير استغراقه في الاعتقاد بوجود "مؤامرة" لاحتلال مصر، وبفضل عزل هذا الاعتقاد لـ"كريم" عن مجريات واقع الصراع الدولي بين "الإفرنج" في زمنه، حُرم – وحرمت مصر معه – من استغلاله لتجنب فظائع الغزو. في ذلك يقول المؤرخ المصري الرافعي: "ولعل السبب في الرفض أنه أساء الظن في مقاصد الأميرال نلسون، لأن الإشاعات التي كان الناس يخوضون فيها ذلك الحين تنبيء أن "الإفرنج" يعتزمون احتلال مصر، وكلمة إفرنج كانت تتناول الفرنسيين والأوربيين على السواء". 

بذلك كان تصرف "كريم" النابع من اعتقاده بوجود مؤامرة عالمية (إفرنجية) ضد بلاده واقعة من ضمن الوقائع التي وفرت النجاح لحملة نابليون وسهلت احتلالها للبلاد، وبنفس طريقة العزلة عن الواقع قادت أوهام المؤامرة ضد الإسلام أصحابها إلى أن يصبحوا هم أنفسهم جزءا من "مؤامرة" إلحاق الضرر بمصالحهم وبلدانهم. لتبقى أسئلة المنطق - قبل وبعد كل شيء – قائمة وملحّة: هل يدلل اختلاف أو تضارب المصالح على وجود مؤامرة أو أنه يؤدي بالضرورة إلى مؤامرة؟ أم أن فهم الاختلاف بتلك الوسيلة التآمرية ليس إلا طريقة الضعفاء في النظر لمجريات الواقع؟.
-------------------
بقلم: عصام الزهيري


مقالات اخرى للكاتب

222 عاما على ثورة القاهرة الثانية: هل يكفي صدق الدافع الوطني لصنع ثورة؟





اعلان