29 - 03 - 2024

السياق وأصوله: من الذى بدأ؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟ .. قراءة فى الغزو الروسى لأوكرانيا

السياق وأصوله: من الذى بدأ؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟ .. قراءة فى الغزو الروسى لأوكرانيا

الغزو تعبير عن ضعف بوتين الهيكلى ومحدودية خياراته بعيدا عن التحول الديمقراطى وربما هو "تغريدة البجعة" قبل نهايته 

سياق المواجهة الروسية الغربية الحالي بشأن أوكرانيا هو الفصل الأحدث فى مواجهة غربية - روسية تاريخية عميقة، لكن الحقبة الراهنة لهذه المواجهة بدأت منذ هزيمة الاتحاد السوفييتي الشاملة أمام الولايات المتحدة وتفكك أوصاله وسقوطه عام ١٩٩١- ١٩٩٢. ربح الغرب الفصل الأول من مواجهة ما بعد السقوط، حيث تحولت دول دائرة النفوذ السوفييتى الأوروبية السابقة بنظمها الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وأخذت فى الانضمام تباعاً إلى الحلف العسكرى الغربى "النيتو"، رغم تعهد الغرب بعدم تبنى سياسات مد النفوذ إلى مناطق النفوذ السوفييتية السابقة.

بوصول بوتين إلى السلطة عام ٢٠٠٠، سعى إلى السيطرة على السلطة والاقتصاد بقبضة حديدية والحفاظ على حدود "الاتحاد الروسى" - وريث ما تبقى من الاتحاد السوفييتى - بالقوة الغاشمة. نجح بوتين فى القضاء على زمرة رجال الأعمال الذين صعدوا ونهبوا موارد الدولة فى مرحلة الفوضى فى التسعينيات، وأحل محلهم رجاله من المخابراتيين والعسكريين السابقين الذين ساعدوه فى إحكام القبضة على مفاصل وموارد الدولة وإعادة تقاليد الحكم التسلطي الأمنى إلى البلاد، كما تمكن من إنهاء حرب الشيشان الثانية بثمن بشرى فادح، وإخماد التوترات الانفصالية فى عدد من الجمهوريات الإسلامية الأخرى داخل روسيا الاتحادية. 

بدأ الفصل الثانى من المواجهة بالثورات "الملونة" ما بين عامى ٢٠٠٣ - ٢٠٠٥ فى الدول الواقعة فى الحديقة الخلفية لروسيا، أى نطاق نفوذها المباشر الملاصق لحدودها، وتحديدا فى جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان. وهى الثورات الشعبية التى أعقبتها انتخابات ديمقراطية جلبت نوعية جديدة وجيلا جديدا إلى الحكم أقرب إلى الفكر الليبرالى الغربى. وهو ما اعتبره النظام الحاكم فى موسكو - كأى نظام غير ديمقراطى- مؤامرة أمريكية  للنفاذ إلى مناطق النفوذ الروسى، وبالتالى تعامل بوتين معها باعتبارها تهديدا خطيرا وأيضا إهانة، ليس للدولة الروسية فقط من الناحية الاستراتيجية، ولكن بنفس القدر له شخصيا ولنظامه، الذى أسس شرعيته وشعبيته على قدرة التحالف اللاديمقراطى للرئيس - بمكوناته الأمنية- العسكرية- البيروقراطية - على فرض النظام داخليا ومحاولة إعادة الاحترام خارجيا لروسيا وإعادة دورها كقوة عالمية كبرى. وبطبيعة الحال، خشى بوتين من استشراء عدوى النموذج وانتقال الثورة والديمقراطية حول روسيا، بل وتسللهما إلى نظامه وإسقاطه شخصيا. هذا الهاجس من الديمقراطية يسكنه بشكل دائم.

كرد فعل، بدأ بوتين فى التكشير عن أنيابه للغرب معلنا مواقفه الاستقلالية منذ فبراير ٢٠٠٧، ثم استعرض عضلاته الاستراتيجية، وبدأ فى إثارة القلاقل السياسية الداخلية فى أوكرانيا لإعادة رئيسها - رجل روسيا - إلى الحكم، كما دخل فى حرب لتأديب جورجيا ورئيسها المنتخب الذى سانده الغرب عام ٢٠٠٨،  وودعم انفصال إقليمى أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا، وسانده فى ذلك طفرة أسعار النفط والغاز والسلع الغذائية الأولية - التى تحتل روسيا المراكز الأولى فيها عالمياً فى الإنتاج والتصدير.

الفصل الثالث مهم للغاية، وقد بدأ مع ثورات الربيع العربى واستمر عشر سنوات. فوجئت روسيا البوتينية مثل الجميع بهذه الثورات، واعتبرتها موجة جديدة من المؤامرات أكثر تطورا وليست أقل خطورة من الثورات الملونة فى جوارها المباشر، وذلك إدراكا منها أن قوة النموذج الثورى والديمقراطى قد امتدت إلى دول وأنظمة حكم تطابق روسيا ونظامها التسلطى، وأن تصدير الثورة إلى روسيا قد يأتيها من بعيد، محملا هذه المرة بحكم إسلاميين منتخبين، قد يشجعون الإسلاميين فى الشيشان وغيرها من الجمهوريات الإسلامية فى الاتحاد الروسى على الثورة والانفصال والاستقلال، وربما الديمقراطية. 

على مدار السنوات العشر الأخيرة، تبنت روسيا تحت حكم بوتين ما يمكن أن نطلق عليه "استراتيجية "الاسترداد"   Reconquista strategy للنفوذ وللمكانة، التى قامت على شن حرب هجينة شاملة هادئة، ببراجماتية باردة، على كل الجبهات فى نفس الوقت، لتحقيق عدة أهداف: احتلال كل مناطق القوة والنفوذ الممكنة التى تعانى من فراغ قوة فى العالم، لاسيما تلك التى أهملتها الولايات المتحدة؛ وتقويض القوى الغربية الكبرى وديمقراطيتها ومجتمعاتها؛ والمساهمة بشكل رئيسى كرأس حربة للثورة المضادة للقضاء على ثورات الربيع العربى، لاسيما مع انتقال ثورة ميدان التحرير إلى ميدان كييف؛ والعودة إلى مواطئ قدم راسخة فى المياه الدافئة فى البحر المتوسط؛ وردع الغرب عن الامتداد نحو الحديقة الخلفية للنفوذ الروسى.

هذه الحرب الهجينة الروسية اتسمت بالجدة والتفكير خارج الصندوق، بهدف إعادة الغرب والثورات والديمقراطية والإسلاميين إلى الصندوق، وتضمنت: 

أ‌- حرب سيبرانية هجومية واسعة النطاق: حيث كونت روسيا جيش إنترنت وكتائب إلكترونية تخصصت فى بلبلة وشطر الرأى العام العربى والغربى وخلق وعى مزيف على وسائل التواصل الاجتماعى مضاد للثورة فى دول الثورات العربية وبالذات فى سوريا؛ وشن حملات إلكترونية سرية وكثيفة ضد أهم دول الغرب، كانت أهم معالمها (التى لم تتضح فى حينها، ولم تكتشف إلا بعد سنوات من الشكوك والتحقيقات الغربية): تأليب الرأى العام الألمانى ضد اللاجئين السوريين بدعوى اغتصابهم فتيات ألمانيات فى احتفالات رأس السنة عام ٢٠١٦؛ وترجيح كفة مناصرى البريكزت فى استفتاء بريطانيا عام ٢٠١٦؛ وإنجاح ترامب عام ٢٠١٦ بشخصيته غير التقليدية مع وجود ادعاءات بوقوعه تحت السيطرة الروسية؛ ومحاولة تشويه السمعة المالية للرئيس الفرنسى فى الانتخابات عام ٢٠١٧ لصالح مرشحة اليمين المتطرف، التى حظيت أيضا بتمويل جهات روسية. ولا شك أن هروب إدوارد سنودن الموظف فى وكالة الأمن الوطنى الأمريكية إلى روسيا - بثروة أسرار واساليب عمل وتكنولوجيا التنصت والرقابة والاعتراض والاختراق الإلكترونى- قد ساهم فى التطوير السريع للقدرات الروسية فى هذا المجال.

ب‌- تدخل عسكرى روسى -مباشر، وبجنود روس لا يرتدون الزى العسكرى الروسى- فى أوكرانيا لضم إقليم القرم الأوكرانى إلى روسيا عام ٢٠١٤ عقب فشلها فى منع الثورة الأوكرانية الثانية، ثورة "ميدان"، ضد الرئيس يانوكوفيتش، رجل موسكو.

ت‌-  تدخل عسكرى روسى مباشر فى سوريا فى أغسطس ٢٠١٥، لدعم وإنقاذ نظام بشار الأسد بالقوة الغاشمة، باستخدام القوات الجوية بالأساس، والصواريخ انطلاقا من الأراضى الروسية، والقوات الخاصة، فضلا عن عناصر من المرتزقة الشيشان، وعناصر شركة "فاجنر" الروسية المستحدثة للمرتزقة. تمكنت روسيا من استغلال "التردد الاستراتيجى" لإدارة اوباما، وحسمت الموقف لصالح بشار الأسد، وعادت لملء الفراغ الاستراتيجى فى الشرق الاوسط بعد تقليص الولايات المتحدة وجودها فى المنطقة، كما عادت للبحر المتوسط ومياهه الدافئة من خلال إنشاء قاعدتين عسكريتين روسيتين فى سوريا: حميميم البحرية وطرطوس البحرية. 

ث‌- تدخل روسى فى ليبيا من خلال مرتزقة فاجنر ومرتزقة من السوريين والشيشان لمناصرة المعسكر المضاد للثورات، وللإسلاميين، وأيضا للديمقراطية. والحصول على ممر بحرى فى المتوسط بين القاعدتين الروسيتين البحريتين فى سوريا وشرق ليبيا. والمهم هنا هو تمكن روسيا من وضع اليد على طريقين رئيسيين عبر البحرين الأسود والأبيض: من القرم إلى طرطوس، ومن طرطوس إلى الحدود الشرقية لليبيا.

ج‌- تفعيل روسيا لمعاهدة الأمن الجماعى المنشأة عام ٢٠٠٢، والتى تضم كل من بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان. حيث تدخلت القوات الروسية لقمع الاحتجاجات الشعبية الواسعة ضد الرئيس البيلاروسى لوكاشينكو عامى ٢0- ٢٠٢١ ، وأيضا لوأد الانتفاضة الثورية ضد رئيس كازاخستان طوكايف فى يناير ٢٠٢٢.

ح‌- استراتيجية التحالفات: من خلال عقد التفاهمات الاستراتيجية مع القوى الكبرى من خصوم الولايات المتحدة، كالصين أساساً ومنظمة شنغهاى للتعاون؛ والارتباط بمصالح متبادلة قوية مع حلفاء الولايات المتحدة لضرب الأسافين فى التحالف الغربى، كألمانيا بالأساس ثم فرنسا؛ ومبادلة التكنولوجيا العسكرية والتفاهمات الميدانية فى سوريا مع إسرائيل؛ وتقاسم النفوذ مع تركيا فى عدد من ملفات الحوار المشترك؛ ومساندة إيران فى ملفاتها الإقليمية والنووية؛ والتوغل فى مساحات استراتيجية جديدة فى أفريقيا من خلال قوات فاجنر فى أفريقيا الوسطى ومالى؛ واتباع دبلوماسية التسليح مع الدول وأنظمة الحكم شبيهة التفكير والممارسات بالنظام الحاكم فى روسيا، والتابعة بالأساس لمنطقة النفوذ الأمريكية التى أصبحت ترى في واشنطن حليفا لا يمكن الوثوق به أو لا يمكن الاعتماد عليه بشكل كامل، كبعض دول الخليج وبعض دول المنطقة الأخرى.

خ‌- استراتيجية حثيثة لتطوير تكنولوجيا التسلح: حيث تعمل روسيا على دمج التقنيات الجديدة لمضاعفة القوة في أنظمتها القديمة للتسلح. كما أعلنت عن خمسة برامج أسلحة ذات قدرة نووية رئيسية لضمان قدرة روسيا على اختراق أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية الحالية والمستقبلية، والاحتفاظ بالقدرة على توجيه الضربة الثانية. وهى أيضاً تطور مجموعة جديدة من الأنظمة التي يمكنها مهاجمة الأقمار الصناعية فى المدار أو تعطيل عملياتها. كما نجحت روسيا في دمج العربات بدون سائق في عملياتها العسكرية. وفى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ينصب تركيز موسكو على تعطيل وتدمير أنظمة القيادة والتحكم الخاصة بالخصم وقدرات الاتصال، وكذلك على إنشاء تفوق معلوماتى خلال الفترة الأولى من الحرب.

د‌- استراتيجية تعدين ضخمة لعملة البيتكوين فى كازاخستان، للهروب من سيطرة الدولار الأمريكى على الاقتصاد العالمى. ويتردد أن انقطاع الكهرباء عن كازاخستان وبعض دول آسيا الوسطى ليوم كامل فى يناير الماضى كان ناجما عن عملية تعدين سريعة ومكثفة قامت بها روسيا استباقا للتصعيد فى الملف الأوكرانى. 

- فى نفس الفترة، تبنت الولايات المتحدة الأمريكية فى المرحلة الأولى استراتيجية هجومية- دفاعية فى أعقاب تعرضها لهجمات الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١، حيث احتلت أفغانستان ثم العراق وارتكبت إدارة بوش الجمهورية فى البلدين ما يحلو لها من جرائم، وأطلقت العنان للحرب ضد الإرهاب، ضد الجميع، وفى نفس الوقت تبنت استراتيجية نشطة لتشجيع عمليات التحول الديمقراطى باعتبار الحكم الاستبدادى السبب الأهم فى ظهور وانتشار التطرف والإرهاب، وهى الاستراتيجية التى لاقت صدا عنيفا من أنظمة الحكم فى الدول غير الديمقراطية الحليفة لأمريكا. فى نهاية هذه المرحلة، تسببت أمريكا فى الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨ وكانت أول ضحاياها. وهى التى عجلت بدخول الولايات المتحدة فى المرحلة الاستراتيجية التالية، ألا وهى مرحلة التراجع عن دعم التحول الديمقراطى، والانسحاب من العراق وأفغانستان، وإعادة تفعيل دور الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، والتركيز بشكل أساسى على تضميد جراح الاقتصاد والمجتمع الأمريكى. وهو ما حاولت القيام به إدارة أوباما

فى خضم هذه المرحلة، فوجئت أمريكا كالجميع باندلاع الثورات العربية ونالها اللوم من طرفى الثورة والثورة المضادة باعتبارها متهمة على الدوام بالتآمر ضد هذا الطرف أو ذاك. وفى الوقت نفسه حاولت مواكبة الحدث بدعم التحول الديمقراطى ولكن بشكل متباعد ولا يمكن الاعتماد عليه، وتدخلت جويا فى ليبيا لدعم الثورة والتخلص من حكم القذافى الاستبدادى الطويل. كما واكب البيت الأبيض مرحلة ما بعد الثورة فى مصر، ومالت إدارة أوباما إلى دعم الحكومة الإخوانية فى مصر، إلا إن انقسام المؤسسات الأمريكية سمح بدخول مصر إلى مرحلة من نوع مختلف رغم عدم ارتياح الرئيس الأمريكى. كما كانت "المرقعة الاستراتيجية" الأمريكية فى سوريا بعثا لجسد نظام بشار الذى كان يوشك على الانهيار فى سوريا، وفتحا لموطئ قدم مهم عادت من خلاله روسيا بشكل مباشر إلى الشرق الأوسط.

- حققت روسيا نجاحا فائقا بوصول ترامب إلى السلطة، وبتطبيقه سياسات وتبنيه مواقف أدت إلى تعميق هوة الانقسام المجتمعى الأمريكى لدرجة غير مسبوقة، وتوجيه ضربة نافذة إلى المؤسسات السياسية العريقة، تزلزلت على أثرها العملية الديمقراطية الأمريكية. وذلك فى ضوء الدور المؤثر الذى لعبته عمليات الإنترنت السرية الروسية واسعة النطاق المفترضة فى وصوله للحكم، فضلا عما تردد بقوة عن سيطرة استخبارية روسية على الرئيس الأمريكى الشعبوى الغريب الأطوار والغريب عن مؤسسات الحكم الأمريكية، والذى نقل الاستراتيجية الأمريكية من مواجهة روسيا إلى مواجهة الصين، وتجاهل التهديد الروسى الذى استشعرته بقوة مؤسسات الحكم الأمريكية.

- مع وصول الرئيس بايدن إلى الحكم استعان بفريق واسع الخبرة فى السياسة والأمن الدوليين، وعيّن أحد أهم رجال الدبلوماسية الأمريكية الخبراء فى روسيا رئيسا لوكالة المخابرات المركزية. ويبدو أن مراجعة واسعة للمكانة الأمريكية فى النظام الدولى كشفت عن توصل إدارة بايدن لجسامة التهديد الصينى الشامل، وفداحة المساعى النشطة الروسية لتقويض المصالح الأمريكية من الداخل وفى الخارج. 

ترتب على هذه المراجعة إعادة تموضع للتحرك الاستراتيجى الأمريكى، من أهم عناصره:

- الاستمرار فى عدم التورط عسكريا فى الخارج لاسيما فى الشرق الأوسط، مع الاحتفاظ بالنفوذ الأمريكى الكبير فيه من خلال القواعد العسكرية الأمريكية فى المنطقة، وعقد صفقات أسلحة متقدمة مع عدد من دول الخليج؛ 

- البدء فى "شد أذن" الدول التى "تلعب على الحبلين" بين دورانها فى الفلك الأمريكى تقليديا وتقاربها الكبير فى الوقت ذاته مع روسيا والصين من خلال صادرات السلاح والمشروعات الكبيرة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعى؛

- المواجهة المتقدمة للصين من خلال تشكيل تحالف يوكوس فى المحيط الهادى مع بريطانيا واستراليا، وتصدير غواصات نووية فائقة التقدم إلى استراليا، وتوجيه تحذيرات صارمة لبكين إزاء استراتيجيتها التوسعية الجديدة ونوايا ضم تايوان؛ 

- معاودة إحياء التفاوض للعودة للاتفاق النووى مع إيران بشروط أمريكية جديدة؛ 

- تجديد التفاهمات مع إسرائيل حليفها الأقرب فى الشرق الأوسط؛ 

- بطبيعة الحال، قبول وصول طالبان للحكم، وإتمام الانسحاب العسكرى الأمريكى من أفغانستان، الذى أثار قلق الصين وروسيا المتاخمتين وفى نفس الوقت شجعهما على المزيد من "الاجتراء الاستراتيجى" على الولايات المتحدة، باعتبار الانسحاب هزيمة والانسحاب غير المنظم إهانة وعلامة تراجع للقوة الأمريكية من وجهة نظر الدولتين.

- عقاب روسيا "على مجمل أعمالها" الجريئة ضد الولايات المتحدة والمصالح الغربية خلال العقد الماضى، وذلك من خلال تجديد محاولات تطويقها بدول أعضاء فى حلف النيتو وتزويدها بقدرات عسكرية وإلكترونية فائقة التقدم، والتضييق على وجودها فى ليبيا وسوريا، واستهدافها بمضايقات دبلوماسية من خلال طرد أمريكا والغرب أعدادا كبيرة من الدبلوماسيين الروس، وتوجيه هجمات إلكترونية مضادة لم يعلن فى الغالب إلا عن القليل منها. 

بركان فائر

- إذا كان الانسحاب الأمريكى من أفغانستان وطريقته زلزالا استراتيجيا دوليا، فإن الغزو الروسى لأوكرانيا بركان فائر ستظل حممه المحمومة تتطاير على النظام السياسى والاقتصادى والأمنى الدولى لفترة طويلة. وسيتحدد مدى وعمق أثر هذا السلوك الروسى بالعديد من العوامل، أبرزها: سرعة سيطرة الاحتلال ومدى وضع روسيا يدها على الموارد الأوكرانية، وصمود المقاومة الأوكرانية، ومدى ضغط مشكلة اللاجئين الأوكرانيين على الموارد والسياسة الأوروبية، وأثر العقوبات على الاقتصاد الروسى واستقرار النظام الروسى، وأثر العقوبات المضادة التى ستفرضها موسكو على إمدادات الطاقة والغذاء وأسعارها على المجتمعات الغربية واستقرارها وعلى نتائج الانتخابات فى أوروبا وأمريكا، وكيفية محاولة روسيا فك عزلتها القادمة، وأسلوب تعامل الصين مع هذه الحمم الاستراتيجية المتناثرة بما تحمله من فرص وتهديدات لاستراتيجياتها الجديدة فى إثبات الذات.

- مبررات هذا التصعيد الروسى الشديد المعلنة والمنتشرة غير مقنعة، حتى وإن كان فى الشواغل الأمنية الاستراتيجية لروسيا ومؤسساتها قدر من الحقيقة. فوفقا للسائد فى مواقف النيتو، كان الحلف الغربى يتعامل بالفعل مع أوكرانيا على أنها منطقة عازلة وأن انضمامها للنيتو خط أحمر روسى. بالتالى، لم ينظر حلف الأطلنطى فى طلب عضوية أوكرانيا المقدم منذ عام ٢٠٠٨. من جانب آخر، تعديل الدستور الأوكرانى لينص على تبنى مسار استراتيجي للدولة للحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي والنيتو،  تم فى فبراير عام ٢٠١٩، أى منذ عامين كاملين. فضلا عن ان مناورات "نسيم البحر" فى يونيو- يوليو ٢٠٢١ التى تتعلل بها موسكو باعتبارها تحديا للسيادة الروسية هى مناورات يجريها النيتو دوريا مع أوكرانيا فى البحر الأسود منذ عام ١٩٩٦. 

- الجديد الأبرز كان صدور استراتيجية للأمن القومى الروسى فى يوليو ٢٠٢١ تحفل بتقاليد البارانويا الأمنية للنظام الشيوعى للاتحاد السوفييتى ولكن بدون إيديولوجيته. إذ اتسمت بالتشدد الملحوظ مقارنة بسابقتها الصادرة عام ٢٠١٥. وتنطلق الاستراتيجية من حتمية استمرار المواجهة مع الغرب، فى ضوء أن "الدول غير الصديقة" مصممة على إضعاف روسيا عسكريًا وتقنيًا واقتصاديًا، ولكن أيضًا "روحانيًا"، كما أنها تهدف إلى زعزعة استقرار روسيا من خلال تفجير التناقضات الداخلية عبر "الثورات الملونة" حول روسيا وداخلها. الجديد التالى هو أن روسيا تقدمت فى يناير ٢٠٢٢ إلى الولايات المتحدة والنيتو بمقترح اتفاق، يتعهد فيه الحلف بعدم ضم جورجيا وأوكرانيا، وسحب قوات وأسلحة النيتو المتمركزة فى دول شرق أوروبا التى انضمت للحلف بعد عام ١٩٩٧. وهو ما كان طبيعيا ومنطقيا أن ترفضه الدول الثلاثين الأعضاء فى النيتو.

- الأرجح أن التصعيد الروسى الشديد، والذى قد يبدو غير رشيد، لا يمكن تفسيره بخطر عسكرى استراتيجى داهم فعلى وفورى على روسيا - لأنه غير موجود- ولا بأحلام إعادة مجد الاتحاد السوفييتى المتخيل، لأن روسيا ليست فى قوة الاتحاد السوفييتى وتفتقر إلى الإيديولوجية والحزب التعبوى. ولكنه يرتبط بالأحرى بتصور بوتين لجسامة تهديد العدوى الديمقراطية. وخشيته هى فى المقام الأول على استمرارية نظامه وبقائه فى السلطة قبل حرصه على مصالح روسيا الاستراتيجية. فالحقيقة أن روسيا دولة نووية ومتقدمة فى الصناعات العسكرية ولا يوجد ما يهدد الدولة فعليا من الناحية العسكرية، فضلا عن قدرتها الفائقة على ردع و درء المخاطر الاستراتيجية. 

- لقد أصبح تحرك بوتين لوأد أو عكس أى تغيير شعبى أو ديمقراطى والتحالف مع الأنظمة السلطوية فى دول الجوار الروسى القريب أو البعيد نمطا للسياسة الخارجية لروسيا. فقد رأيناه يحرك القوات الروسية العسكرية والإنترنتية والإعلامية ضد التغيير فى جورجيا، وقرغيزستان، وأوكرانيا مرتين، وبطبيعة الحال فى الشيشان وفى سوريا، وروسيا البيضاء، وكازاخستان. ودول أخرى على الأرجح. وفى أوكرانيا مجددا، التى يترأسها رئيس شاب، ممثل ساخر، يمثل كل ما يبغضه بوتين ويريد القضاء عليه، من خارج المنظومة الأمنية والعسكرية الحاكمة، ومن خارج المنظومة السياسية الخاضعة أو المتواطئة، وفاز بانتخابات ديمقراطية نزيهة، بنتيجة ٧٣% من الأصوات، كما حظى بدعم إدارة بايدن. 

- اللافت للنظر هذه المرة هو غياب التهديد الثورى المباشر والحال على عكس معظم الحالات والمرات السابقة التى تدخل فيها الجيش الروسى. وبالتالى فالتصعيد الشديد إلى حد غزو دولة جوار يجد تفسيره بشكل واضح فى ديناميات النظم السلطوية، حيث راهن بوتين على رفع درجة حدة الخطاب القومى، وصورته كحاكم "ذى عضلات مفتولة"، وبالتالى أصبح مضطراً إلى أن يفى بوعوده he had to deliver التى تتناسب مع صورته، وإلا خسر هيبته وشرعيته وفقا لتصوره عن نفسه. من جانب آخر، ينسى الحكام السلطويون أنفسهم وتخدعهم زهوة القوة، فيتصور بوتين أن غزوا شاملا لأوكرانيا سيمر كضم إقليم شبه جزيرة القرم فى ٢٠١٤ متناسيا تطورات السياق. وفى الوقت نفسه، لابد أن قرار غزو شامل لأوكرانيا، وهى الدولة والشعب الشقيقان تاريخيا لروسيا، سيترك آثارا دامية فى نفسية القادة العسكريين والأمنيين وعلى الصعيد الشعبى، وبالتالى فى متانة تركيبة الحكم فى روسيا.

- من زاوية أخرى،، يمكن اعتبار غزو أوكرانيا هروبا إلى الأمام وخلطا للأوراق من جانب بوتين، كما إنه تعبير عن وجود "فائض قوة عسكرية" و"فائض خطاب قومى" فيه الحقيقى والكثير منه مصطنع، خشى بوتين أن يرتد فى مواجهته، لاسيما مع الفراغ الإيديولوجى لهذا الخطاب وقدمه وتهافته، والاستبداد السياسى، واستمرار الانسداد السياسى التام أمام الجيل الشاب، واستشراء الفساد، والتراجع الاقتصادى رغم وفرة الموارد، وعدم القدرة على الاندماج الطبيعى فى المنظومة العالمية. ولكن هذا الغزو فى الوقت نفسه تعبير عن ضعف بوتين الهيكلى ومحدودية خياراته بعيدا عن التحول الديمقراطى. وربما هو "تغريدة البجعة" لبوتين قبل نهايته، تتوارى تحت لافتة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". 

- المفارقة هنا أنه فى حين يقدم بوتين نفسه على أنه رمز للتعديل أو لمراجعة الأوضاع الجيوستراتيجية غير المتوازنة revisionist  إلا إنه فى واقع الأمر يقف على رأس المدافعين النشطين عن استمرار الأوضاع الراهنة ومناهضة التغيير status quo active advocate.
---------------------------
بقلم: أحمد مجاهد
(نقلا عن الصفحة الشخصية للكاتب على فيس بوك)






اعلان