20 - 04 - 2024

قراءة العمل الفنى .. أمور تحوِّله من صنعة الى حالة حية تنبض بالمشاعر

قراءة العمل الفنى .. أمور تحوِّله من صنعة الى حالة حية تنبض بالمشاعر

"إذا كان الفنان يبدع بحواسه فكيف لا نشاهد منتجه الفنى بحواسنا"

قراءة العمل الفنى يصبح فيها القارئ هو البطل برؤية إبداعية جديدة، فالقراءة الفنية هى المكان الذى يجتمع فيه العمل الفنى بالقارئ. فما الذى يصنعه ما هو الإبداع الذى يقدمه، وما الذى يخبره به العمل الفنى. هذه بعض الأسئلة التى يجب طرحها عندما نفكر فيما نقرأ. ومن الطبيعى قبل قراءة أى عمل فنى أن نوقظ جميع حواسنا. ثم نقوم بتفكيك العمل الفنى وإعادة تركيبة بشكل تخيلى وحسى للتعرف على مكوناته ورموزه، وعناصره القوية والضعيفة.

ما الذى يهمنا فى لوحة الموناليزا على سبيل المثال والتى تعتبر اللوحة الأشهر فى تاريخ الحركة التشكيلية منذ نشأتها. هل نقرأها من خلال الخلاف الناشىء بين إيطاليا وفرنسا بأحقية ما تركه الفنان ليوناردو دافنشى لايطاليا بإعتباره إيطالى الجنسية. أو من خلال البحث فى إسناد اللوحة هل رسمها لزوجته أو لخادمه الجذاب "سالاى". ما الذى يعنينا من كونها لرجل أم إمرأة. أين نحن من القيمة الجمالية للوحة، وقدرة الفنان على تأكيد الوجه المنحوت بإستخدام التظليل الناعم، وقدرته عى تأكيد تفاصيل عضلات الجمجمة، والتصميم الدقيق للنسيج بصبر ودقة فى تناوله لها وللوديان والأنهار خلفها الذى يعكس الإحساس بالوئام الكلى الذى تحقق فى اللوحة، ولا سيما في الابتسامة الضعيفة والتى تمثل الفكرة الأساسية للفنان ليوناردو عن العلاقة الكونية التي تربط بين الإنسانية والطبيعة، مما يجعل هذه اللوحة سجلاً ثابتًا لرؤية ليوناردو. في تركيبها الرائع بين الموناليزا والمناظر الطبيعية، وضعتها المعيار لجميع صور المستقبل.

يقول فؤاد زكريا فى مقدمة كتابه المترجم "النقد الفنى" ص7، وص8": فى إستطاعتنا أن نتحدث عن إنفعالات الفنان الشخصية أو البيئية أو عن أحوال عصره كما نشاء. بشرط أن نكون قادرين على إيجاد روابط واضحة بين ما نقول به وبين تركيب العمل الفنى ذاته. أما أن نشطح فى أحاديث نفسية أو تاريخية أو إجتماعية. ونتخذ من العمل الفنى مجرد وسيلة لاستعراض معلوماتنا فى هذه الميادين دون أن نستطيع ربطها بالعمل الفنى. ثم نظن بعد ذلك أننا نقدم نقدا فنيا. فإن هذا دون شك وهم كبير، بل إن المبالغة فى الإستطراد مع العجز عن بيان أوجه الإرتباط بينه وبين الموضوع نفسه. تشوه عملية التذوق الفنى ذاتها"

نستطيع أن نتحدث الحالة النفسية للفنان فان جوخ فى كتاب لعلم النفس أو لسرد حياة الفنان، ولكن عندما نتناول أعمال الفنان تكون هذه الحكايات ثانوية، وعندما نستخدمها يكون الهدف خدمة العمل الفنى، فعلى سبيل المثال نذكر أن طبيعة مرضه النفسى أثر على أدائه الفنى. يبدو هذا واضحا فى ضربات الفرشاة الحادة. لكن استخدامه للون الأصفر مثلا لا علاقة له بالشحوب والضعف الذى ميز الفنان لكنه كان مفتونا بالريف، وأعماله عن الريف غنية باللون الأصفر والبنفسجى، وهذه ألوان المحاصيل وحقول القمح، وبعض المعالم الريفية.

اللون شيء في ذاته

توصل فان جوخ إلى الاعتقاد بأن تأثير اللون تجاوز الوصف؛ قال إن "اللون يعبر عن شيء في حد ذاته".  كان فان جوخ يرى أن للون "وزنًا نفسيًا وأخلاقيًا"، كما يتجلى في اللون الأحمر المتوهج والأخضر للتعبير عن المشاعر الرهيبة للإنسانية، والأصفر يعني أكثر بالنسبة له، لأنه يرمز إلى الحقيقة العاطفية. استخدم اللون الأصفر كرمز لضوء الشمس والحياة والله.

لا يمكن إغفال إستجابة الفنان للأذواق الجمالية، يجب أن نركز على ما أسماه دارون"الشعور الغريزى" الذى يصف الجمال، وهذا الذى تؤكده الممارسة الفعلية للفنان من تفضيل شىء ما على الآخر بشكل تلقائى سهل، وبدون تدخل واع واضح. هذا أمر فى غاية الأهمية يجب تفعيله حين نشاهد العمل الفنى، أن نبدأ بربط شعورنا الغريزى بالشعور الغريزى للفنان وذلك من الوهلة الأولى لمشاهدة العمل الفني.

فسعى فان جوخ ليكون رسامًا للحياة الريفية والطبيعة لم يكن مرتبا له، لقد قاده اعتقاده بوجود قوة وراء الطبيعة إلى محاولة التقاط الإحساس بهذه القوة، أو جوهر الطبيعة في فنه، أحيانًا من خلال استخدام الرموز. دفعت معتقدات فان جوخ الدينية لروية الزارع مثل المسيح يبذر الحياة تحت الشمس الحارقة. كانت هذه الموضوعات والأفكار التي عاد إليها كثيرًا لإعادة صياغتها وتطويرها. تمتلئ لوحاته بالزهور بالرمزية، ولكن بدلاً من استخدام الأيقونات المسيحية التقليدية، ابتكر رسوماته الخاصة، حيث تعيش الحياة تحت أشعة الشمس والعمل هو رمز للحياة. انتصرت غرائزه على التاريخ فلجأ الى الطبيعة، لأن الفن وإن خضع لتنوعات إجتماعية وثقافية، فإن وجود السلوكيات الجمالية الغريزية تتجاوز الحدود والمواصفات الإجتماعية والتاريخية، الفن هو ظاهرة متعددة الثقافات، يرتبط بنمط ظاهرى سلوكى ويتم من خلال الحاجة الفطرية للفنان.

سلوك فطري للجينات

إن إحساسنا بالذوق وخياراتنا الجمالية متأصلان فى الميراث الجينى التطورى، وهذا وراء ردود أفعالنا الجمالية واختياراتنا. لكن السلوك الفطرى فى جيناتنا يضاف إليه ما تم إكتسابه خلال التنشئة الإجتماعية، والتى تحدد الطريقة التى نفكر بها فى الفن، والتى ترتبط بالذوق، ومهارة الرؤية التى توصل الى ماهية الفن الجيد، والتى من خلالها مع عدد من الرؤى المختلفة حول العالم تم إيجاد معيار الذوق عالميا. وهذا الأمر متوافق مع نظريات الفلسفة العامة التى ترجع أى معرفة الى الحواس فى بداياتها. الأمر الذى يؤكد أن التفضيل الجمالى مرجعه النزعات الفطرية لدى البشر مع تطورنا المجتمعى منذ ولادتنا وتفاعلنا منذ الرضاعة بحركات الوجه والجسد والإستجابة لتلك الحركات والإيقاعات والإشارات هى التى ساعدتنا على على القدرة على الحرف والترميز وإنتاج أعمال فنية تمس أرواح المشاهدين. أيضا وعلى سبيل المثال فإن الألحان الموسيقية تجمعت وتشكلت من الأصوات الطبيعية من طيور وحيوانات وصواعق وطرقات وغيرها من الأصوات التلقائية التى تصدر نغمات يتم تجميعها فى ألحان تجد قبولا عالميا لدى العامة. كذلك الأعمال الفنية تشكلت من الألوان الزاهية والمذهلة بتشكيلاتها المتنوعة الموجودة فى الطبيعة يقوم الفنان بتجميعها لخلق عمل فنى تتفق عليه حواسنا قبل أى شىء آخر. وهذا يتأكد فى الفن الحديث الذى يعتمد على اللعب بالألوان والمساحات.

 فلو أعتمد الفنان على تقليد المدارس وتخيل أن الامر متوقف على اللعب فقط كان منتجه الفنى فاترا لا معنى له، ويواجه بإجماع من مشاهديه بأنه فن ليس بجيد. كيف حدث هذا وهو قام بتقليد حرفى – من وجهة نظره - بفلان الذى يلتف حول أعماله الجمهور. هذا الأمر يرجع الى أن فلان هذا تفاعل بإحساسه مع الدفء والضوء والظلال وغيرها أثناء تجميعه للألوان والمساحات فى المناظر الطبيعية. لقد شغل أبعاد الوعى واللاوعى فى حرف ما رآه. فالذوق العام المتفق عليه مرجعه الحس الجمالى الفطرى والذوق المكتسب الذى يأتى من التعلم للتفاعل مع ردود الفعل الغريزية التى يقدمها الفنان. هذا الحس الجمالى الفطرى والذوق  المكتسب هو الذى دفع جماهير العالم للتفاعل مع لوحة الموناليزا على سبيل المثال لما بها من روح وإحساس غريزى نفذه الفنان بتقنية ومهارة، وعندما سئل مايكل أنجلو عن حب الناس لرؤية أعماله. قال إن هذا مرتبط بميل البشر الفطرى للمشاهد التوسعية والسماء. هؤلاء وأمثالهم من الفنانين الذين أثروا فى الناس تعلموا من بعضهم البعض، وتأثروا بسابقيهم ممن أبدعوا، وهذا دعم مهم بلا شك لكن يبقى الحس الغريزى وحرف المشاهد والترميز وغيرها من الأمور التى تحول العمل الفنى من كونه صنعة يتم تعلمها الى حالة حية تنبض بالمشاعر والأحاسيس. هذا الأمر يستشعره الفنان حين يشارك فى ورش جماعية وملتقيات فنية . أنه يستفيد بخبرات الآخرين ويتعلم من الأساليب المختلفة. هناك من يقلد بعد خروجه من التجربة فتشعر بأن عمله باهت وخفيف، وهناك من يضيف الى مهاراته أثناء حرفه لما يشاهده فتجد العمل قوى ومؤثر.

قوة التأثير الجمالي

يأتى تفضيل عمل على آخر الى قوة تأثير العمل من الناحية الجمالية، وقدرة الفنان على نصرة حسه الغريزى على الأحداث التاريخية أو أي إملاءات تفرض عليه، ويتأكد هذا الأمر فى تناول الفنان للبورتريه على سبيل المثال. فهناك من يخضع لإملاءات الشخص المرسوم لإظهار أناقته أو وسامته أو غير ذلك من الأمور التى كان يطلبها النبلاء لينفذها الفنان دون إحساس حقيقى من داخله، وهناك البورتريه الذى يترجم فيه الفنان إحساسه وإنطباعه لدى الشخصية التى يتناولها. البورتريه الأول يكون فاترا لأنه يتم بلا إحساس فيكون بلا روح ولا يجذب المشاهد أما الثانى الذى ترجم فيه الفنان إنطباعه بحسه الغريزى فإنه يشرك المشاهد فى تفعيل حسه الغريزى وردود فعله العاطفية أثناء المشاهدة. هذا المثال ليس تعميما وإلا كانت كل اللوحات التى رسمت للنبلاء لا قيمة لها فالفنان ليس بالآلة التى تبرمجها على فعل شىء فتقوم بفعله دون أى تحريف. الفنان يمتلك حسه الذى لا تسطيع أى قوة إلغائه فالفنان يمتلك قدرات فى إختيار اللون والمزج والإحساس بالنور والظل والملمس وغيرها من الأمور التى يقوم بحرف ما يراه من خلالها فيكون قد إلتزم بتوجيهات الشخص الذى يتناوله وأيضا فعل إحساسه الخاص فى ترجمة ما يطلب منه.
---------------------------
بقلم: د. سامى البلشى







اعلان