بدأت روسيا غزواً واسعاً لأوكرانيا بعد أن تعهد الرئيس بوتين بـ "نزع السلاح" من البلاد واستبدال قادتها، فيما وصفت بأنها أسوأ أزمة أمنية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تتصاعد المخاوف بنشوب حرب مدمرة ينتج عنها كارثة إنسانية ليس فى أوربا وحدها ولكن فى العالم كله. وتتابع الدول العربية بقلق ما يحدث فى الشمال رغم بعده الجغرافى عن الأراضى العربية، فخريطة المصالح التي تربطها بأطراف الصراع متشابكة ومتنوعة وحيوية، الأمر الذى يطرح تساؤلات حول تداعيات هذا الصراع على دول المنطقة.
منذ بداية الأزمة بدا من الواضح التزام الدول العربية بالحياد وعدم إظهار الميل نحو أىٍ من أطراف الأزمة حفاظاً على علاقات متوازنة مع كل من روسيا والولايات المتحدة، إلا أن هذا الحياد لن يستمر طويلاً فى حالة تصاعد الأزمة واستمرارها وتعقد خيوطها، حيث سيكون لزاماً على بعض الحكومات العربية إبداء موقف واضح وصريح من الغزو الروسى لأوكرانيا والاختيار بين المعسكر الروسى، والمعسكر الغربى الذى يضم أوروبا والولايات المتحدة.
تمثل احتمالات وقف إمدادات النفط والغاز من روسيا إلى الدول الأوروبية مصدر قلق للاتحاد الأوروبي الذى يستمد 40 % من حاجته للغاز الطبيعي من روسيا، ومن الصعب إيجاد بدائل سريعة للغاز الروسي، وتتصاعد هذه المخاوف مع العقوبات المحتملة التي تلوح إدارة بايدن بفرضها على روسيا، تلك العقوبات ستمنع الدول من شراء الغاز والنفط الروسيين، أو أن تؤدي الحرب إلى منع تدفق الطاقة بسبب مخاطر النقل عبرالأراضي الأوكرانية أوعبر البحر الأسود إلى أوروبا، ويرى مراقبون أن دولاً مثل قطر والجزائر ومصر يمكن أن تسد جزءا من حاجة الاتحاد الأوربى للغاز فى حالة توقف امدادات الغاز الروسى، فيما تستطيع دول مثل السعودية والعراق والكويت والإمارات المساهمة في تقليل اعتماد الأوروبيين على النفط الروسي، وبعيداً عن الطاقة فإن المنطقة العربية يمكن أن تتأثر بتداعيات الحرب في مجال تجارة المواد الزراعية وإنتاج الحبوب مع دول منطقة البحر الأسود.
أوكرانيا هى "سلة خبز أوروبا" حيث تمثل صادرات القمح من أوكرانيا وروسيا 30٪ من حجم الصادرات العالمية، وأي اضطراب في الصادرات سيؤدى بالتأكيد إلى ارتفاع أسعار الحبوب عالمياً، وتعتمد العديد من الدول العربية على القمح الروسي والأوكراني لسد حاجتها مثل مصر وتونس والجزائر وليبيا واليمن ولبنان، وهي دول تعاني من أزمات معيشية وقد تزيد هذه الأزمات نتيجة ارتفاعات محتملة في أسعار القمح بسبب قلة حجم المعروض في السوق العالمية، وتأتي الولايات المتحدة وكندا وفرنسا في مقدمة البدائل التي يمكن أن تسد حاجة الأسواق العربية. وقد توقع صندوق النقد الدولي أن ترتفع تكاليف الطاقة وأسعار السلع في العديد من الدول في حالة نشوب الحرب، ولا شك أن هذا التأثير سيكون أسوأ بكثيرعلى دول المنطقة التى ستكون بين خياين أحلاهما مر: إما ضخ اعتمادات إضافية بملايين الدولارات لدعم المواد الأساسية التي ستتأثر بارتفاع الأسعار، أو رفع الدعم عن المواد الأساسية بدرجات متفاوتة.
هناك عاملان هامان لا يمكن إغفالهما عند الحديث عن التأثيرات المحتملة للحرب الروسية على المنطقة العربية، أولهما تدفق اللاجئين من منطقة الحرب الروسية الأوكرانية إلى دول الاتحاد الأوروبي، وما يمكن أن يشكله من ضغوط على برنامج المساعدات العالمي للاجئين الذي يستفيد منه لاجئو الدول العربية بشكل رئيسى، وثانيهما التدخل العسكرى الروسي في سوريا وليبيا والذى أدى لتعقيدات المشهد السياسى فى كلا البلدين حيث يخشى أن يؤدى التصعيد الروسى والتوترات الناتجة عنه مع أوروبا والولايات المتحدة إلى تعطيل مساعي الحل السياسى للصراع في كلا البلدين، وهنا تحديداً يمكن التذكير بمقولة الرئيس أوباما عندما انضمت روسيا للحرب الأهلية في سوريا في سبتمبر 2015 حيث ذكر أن سوريا ستصبح "مستنقعًا" لروسيا وللرئيس بوتين، "ستكون سوريا هي فيتنام الروسية أو أفغانستان بوتين" ، إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك، فقد غيرت روسيا مسار الحرب وأنقذت الرئيس السوري بشار الأسد من الهزيمة الوشيكة، ثم ترجمت ذلك إلى نفوذ إقليمي كبير من سوريا إلى إسرائيل إلى ليبيا، ولا شك أنها لم تكن محض مصادفة أن يكون التدخل الروسى فى سوريا بعد عام من الهجوم على شرق أوكرانيا واحتلال شبه جزيرة القرم. فقد كشفت عن ديناميكية روسية جديدة في مواجهة النفوذ الغربي.
ولا ننسى أن توسع النفوذ الروسي في المنطقة حدث بالتزامن مع تراجع الهيمنة الأمريكية على المنطقة وإعادة ترتيب أولوياتها بالتركيز على الصين كعدو رئيسي، وهو الأمر الذى قد تعيد الولايات المتحدة النظر فيه، حيث ستسعى لإستعادة أهمية المنطقة العربية في الاستراتيجية الأمريكية، واستعادة علاقاتها مع حلفائها التقليديين فى المنطقة خاصة المملكة العربية السعودية ومصر.
أخيراً أشير إلى أن السيناريوهات المحتملة تنبئ بانتصار روسى سواء من خلال حرب واسعة أو محدودة تنتهى باحتلال العاصمة الأوكرانية كييف وإسقاط النظام فيها واستبداله بنظام موال لروسيا، وهو ما سيكون له انعكاساته على المنطقة العربية.
------------------------
بقلم: سحر عبدالرحيم